مقامرة الجينات المرنة: طريقة الأخطبوط للانضمام إلى الكائنات الذكية
من الأذكى؟ سؤال قديم لمحاولة تقسيم الكائنات إلى ذكية وأقل ذكاءً. الإنسان حصل على المركز الأول دون منازع. لا توجد كائنات أخرى لتقول عكس هذا. لذلك سنقر بأننا الأذكى. السؤال الأهم إذًا: من ينال شرف المرتبة الثانية؟ لا توجد حيوانات بإمكانها القراءة أو الكتابة أو الاختراع كي تُسهِّل علينا هذه المهمة. اختبارات الذكاء التي نجريها على أنفسنا لن تنجح على الحيوانات. فكيف نحدد معايير الذكاء إذًا؟
لكن ما هو الذكاء؟ ربما هذا هو السؤال الأهم قبل سؤال من الأذكى.
يُعرَّف الذكاء بطريقة إنسانية جدًّا. فهو القدرة على اكتساب المعلومات والمهارات ثم تطبيقها لاحقًا. إذا تمكَّن حيوان من استيعاب معلومة جديدة ليست من أصل حياته، وتمكن من استخدامها لاحقًا. هل بإمكاننا إذًا أن نطلق على هذا الحيوان أنه ذكي؟
شاهد هذا المقطع لمحادثة لطيفة بين شابة وصديقتها. الشابة تُدعى «بيني باترسون»، بينما صديقتها تُدعى «كوكو». كوكو غوريللا بالمناسبة.
في هذا الفيديو ستكتشف أن بيني علَّمت كوكو عددًا من الحركات التي تنتمي إلى لغة الإشارة، ومن ثم أصبح بإمكانهما التواصل معًا. ستجد أن كوكو لديها حس قوى وإدراك كبير بالنفس. كوكو، بالتأكيد، طبقًا لمعاييرنا نحن، قد استحقت لقب أن تكون ذكية.
الفيلة كائنات ذكية أيضًا، وبإمكانها التمييز بين اللغات المختلفة، وتحديد نوع المتكلم ما إذا كان ذكرًا أو أنثى. في دراسة أجريت على هذه الكائنات اللطيفة في إفريقيا، لوحظ وجود عدة قبائل في المنطقة، بعض هذه القبائل تطارد الفيلة وبعضها لا يفعل. وعندما استخدم الباحثون مكبرات صوت، وأذاعوا عليها أصوات القبيلة التي تطارد الفيلة في العادة، شعرت الفيلة بالخطر وبدأت بالابتعاد عن المكان.
القائمة تطول، والحيوانات التي تستطيع التمييز بين الأفعال والأصوات، وحتى تعبيرات الوجوه، تطول أكثر. لكن هناك شيئًا ستجده مشتركًا بين هذه الحيوانات. الحيوانات الذكية في الغالب من الثدييات. ما يميز الثدييات عن غيرها من الأنواع الحية، كالزواحف والطيور، وجود شق زائد من المخ يسمى «القشرة المخية الحديثة». هذا الجزء هو المسؤول عن العمليات الحيوية المتطورة، مثل الحركة والإدراك والتفكير. لكن يبدو أن لدينا منافسًا قويًا في صراع الذكاء هذا: الأخطبوط.
هكذا نعرف الذكاء حينما نراه
من الوظائف المعقدة التي يستطيع الأخطبوط فعلها، قدرته على التخفي وتغيير شكله للبيئة المحيطة.
في عام 2008، داخل حديقة «سي ستار» السمكية بمدينة كوبروغ بألمانيا، وعلى مدار يومين متواصلين، كان العاملون بالحديقة يأتون في الصباح ليجدوا الكهرباء منقطعة تمامًا عن المكان. وكلما حاولوا إصلاح العطل، يأتون في اليوم التالي ليجدوا الأمر متكررًا بنفس الطريقة.
في الليلة الثالثة، قرر العاملون متابعة الموقف بأنفسهم بعدما أوضحت التحقيقات الأولية أن قطع الكهرباء أمر يحدث بفعل فاعل، ومن داخل المكان نفسه.
تناوب العاملون خلال الليل من أجل البقاء. بعد بضع ساعات من الليل، عُرِف الفاعل. «أوتو». أخطبوط صغير يبلغ من العمر ستة أشهر.
خرج أوتو من منزله المائي، ثم جهَّز أذرعه الثمانية خرطوم إطفاء، و رش الماء على المصابيح. ربما كان الضوء يزعج أوتو، وربما كان يشعر بالملل فقط، لكن يبقى هو الجاني الصغير الذي أحدث كل هذه الجلبة.
أوتو ليس الأخطبوط الوحيد الذي يملك ذكاءً ملحوظًا، حتى بمعاييرنا البشرية، وفي ما يتعلق بطرق الاستدلال والتفكير. هناك عدد من الحالات التي أُبلِغ فيها عن الأخطبوطات التي تستطيع الخروج من المتاهات إذا وُضِعت فيها. وبإمكانها أيضًا التعرف على الأشخاص المختلفة. هذه الكائنات التي لا تملك دماغًا معقدًا كالثدييات، لكنها رغم ذلك بإمكانها أن تصدر أفعالًا تنم عن فهم وإدراك، جعلت العلماء يلتفتون إلى نظرية تسمى «نشأة الذكاء الثانية».
على الرغم من أن رأس الأخطبوط يحتوي في معظمه، على مراكز دماغية مسؤولة عن العمليات الحيوية الضرورية، كضربات القلب والتوازن، فإنه يمتلك أيضًا أدمغة صغيرة منتشرة في أنحاء أذرعه الثمانية من أجل توفير التناسق اللازم لكل هذه الأذرع، إضافة إلى آلاف اللاصقات في كل ذراع.
من الوظائف المعقدة التي يستطيع فعلها الأخطبوط، قدرته على التخفي وتغيير شكله ولونه للبيئة المحيطة.
يعلق عالم الأعصاب بجامعة شيكاغو، «كليفتون راغزدايل»، على هذه الكائنات قائلًا: « الأخطبوط يصدر أفعال الحيوانات الذكية، رغم أنه أقرب صلة إلى القواقع البحرية». هذه الحقائق جعلت العلماء يتساءلون عن كيفية تطور هذه المخلوقات لتصبح بهذا الذكاء؟
عملية التطور تبدأ غالبًا من الحمض النووي DNA الخاص بالكائن. هذه القواعد النيتروجينية المحفوظة في شريطين متقابلين، والتي بمقدورها أن تعيد بناء نفس الكائن مرارًا وتكرارًا لاحتوائها على كل المعلومات اللازمة عن هذا الكائن.
الطريقة التي يحصل بها الكائن الحي على ما يحتاجه من نسخة الحمض النووى، تتلخص في عملية تسمى «Central Dogma». وفيها تؤخذ نسخة من جزء الحمض النووي المراد، طبق الأصل من الجزء الأصلي، وتسمى حينها «الحمض النووي الريبوزي RNA»، لتمر بعدد من العمليات الحيوية اللازمة لتحويلها إلى بروتينات تحتاجها الخلية وجسد الكائن الحي.
التغييرات التي بإمكانها أن تحدث لتنتج نوع بروتين مختلفًا أو وظيفة مختلفة، لا بد من أن تحدث أولًا في شريط الحمض النووي، ﻷن كل العمليات التالية ما هي إلا نسخة من ذلك الشريط. ومن أجل حدوث تغيير في الحمض النووي، يتطلب الأمر أجيالًا كثيرة متعاقبة مع وجود أفضلية من الطبيعة من أجل بقاء هذا التغيير.
ما يحدث في الأخطبوط وجرى اكتشافه مؤخرًا، كان أمرًا مختلفًا ومفاجئًا جدًّا. الأخطبوط يملك عددًا من الجينات المُشكِّلة للدماغ، لكنه لم يعد بحاجة إلى التعديل في النسخة الأصلية والمرور بكل هذه المعوقات، بل وُجِد أن بإمكانه التعديل في النسخة الجديدة مباشرة، وهي «RNA».
أصبح بمقدرة الأخطبوط تغيير صفاته وتطوراته على مدار الساعة، وليس على مدار الأجيال أو العقود. لكن في النهاية هذه التغييرات عشوائية جدًّا، فكما أنها قد تتمكن من تحويل الأخطبوط إلى حيوان ذكي يسابق الآخرين في سباق الذكاء، بإمكانها أيضًا أن تحوله إلى قطعة رخوة شديدة البلاهة. علقت «جينيفر ماذر» التي أجرت أبحاثها على الأخطبوط والحبار في جامعة ليثبريدج الكندية، بأن هذه الظاهرة بإمكانها أن تفسر التباين الشديد بين شخصيات الأخطبوطات المختلفة.
هذا الاكتشاف كان مهمًّا جدًّا ﻷنه لم يكن متعارفًا عليه في الحيوانات الأخرى، ولم يُشاهَد في الإنسان إلا في عدد محدود جدًّا من البروتينات الدماغية، بينما معظم بروتينات الأخطبوط تتعرض للتعديل.
قد يهمك أيضًا: البلاستيك: خطر يهدد الحياة البحرية
كيف نشأت وتطورت رحلة الذكاء هذه؟
رحلة اكتشاف نشأة الذكاء الثانية هذه لم تكن بسيطة. من الناحية التطورية، يعتقد العلماء أنه في بعض الوقت منذ نحو أربعمئة مليون سنة، كانت تسود البحار كائنات ذات أصداف حلقية، يطلق عليها «الرأسقدميات»، ﻷن رؤوسها كانت ملتصقة بأقدامها.
كانت هذه الكائنات تتغذى على الجمبري ونجم البحر، وتنمو إلى أحجام عملاقة جدًّا. بعدما انهارت هذه الفترة وانقرضت تلك الكائنات، ظل نوع واحد متصلًا بها، والذي نشأ منه الأخطبوط والحبَّار.
هذه المخلوقات تطورت إلى كائنات منقسمة الأذرع، مليئة باللواصق التي تشبه أصابع الإبهام. وﻷن هذه الأذرع كانت تمثل وجبة شهية للمفترسين، فإنها تطورت إلى مخلوق قادر على التخفي ومحاكاة البيئة المحيطة في أقل من خُمْس الثانية. هذه الأذرع تملك في ذاتها كثيرًا من الأمور المذهلة، ويُعتقد أن بإمكانها التفكير بشكل مستقل، فإذا فقد الأخطبوط إحدى أقدامه في مشاجرة مع مفترس، تظل الذراع تتحرك لمدة تصل إلى عشر دقائق بعد قطعها. عند دراسة توزيع الدماغ في الأخطبوط، فإن 60% منها يكون مرتكزًا في الأذرع.
أول ما حاول العلماء دراسته من أجل فهم هذه المخلوقات العجيبة، كان محاولة دراسة الانتقالات العصبية بين السيالات العصبية في الأعصاب المختلفة على أنحاء جسده. لكن الأخطبوط لم يكن مادة طيعة في هذه الدراسة، فكل محاولات إثبات شحنة كهربية عليه من أجل دراسة الانتقالات العصبية، كانت تبوء بالفشل. كان الأخطبوط دائمًا ما يُخرج الشحنة الكهربية عن جسده بمساعدة اللاصقات المنتشرة على أذرعه.
دراسة كهربية المخ التي باءت بالفشل، جعلت العلماء يتطلعون إلى سبر أغوار الجينات والعوامل الوراثية، علها تكشف بعض أسرار هذا الكائن. هذه المحاولة أدت إلى اكتشاف التعديل الوراثي في نسخة RNA.
كان هذا الاكتشاف على يد العالم «جوشوا روزنثال» بجامعة ستانفورد، عام 1990، عندما حاول استخراج أحد الجينات المسؤولة عن بروتين يُدعى «القناة البوتاسيومية».
كلما حاول روزنثال استخراج هذا البروتين، وجد أن هناك اختلافًا في تركيبه، في كل مرة يستخرجه فيها. ربما كان الأمر مجرد خطأ ممكن الحدوث خلال إحدى العمليات الحيوية، لكنه كان خطأ منظَّمًا. في كل مرة كان الاختلاف يحصل في نفس الأماكن بشكل نظامي أكبر من أن يكون مصادفة أو مجرد خطأ.
جينات الأخطبوط المتنقلة بإمكانها أن تكون طريقة من الطرق التي يوفر بها الأخطبوط التنوع الجيني الذي يوفر له الذكاء الذي يحتاجه.
عند محاولة استخراج التكوين الكامل لحمض الأخطبوط النووي، وُجِد أنه يحتوي على عدد من الجينات يفوق عدد جينات الإنسان بعدد هائل. لكن، هذا ليس بالأمر الجلل في الحقيقة. عدد الجينات لا يدل بالضرورة على تعقيد الكائن الحي. اﻷمر الجلل هو اكتشاف عائلتين بعينهما من الجينات. العائلة الأولى من الجينات المسؤولة عن بناء الدوائر العصبية بشكل سليم، وضمان أن تنطلق كل دائرة بتناغم مع الدوائر الأخرى. العائلة الثانية من الجينات المسؤولة عن تنظيم عملية نسخ الحمض النووي إلى RNA. المميز في وجود هذه العائلة أنهم وجدوا عددًا يفوق ذلك الموجود في الإنسان بأكثر من ألف جين. هل هذه الوفرة في الجينات من أجل التمكن من تعديل RNA؟
مؤخرًا جرى اكتشاف عدد كبير من الجينات المتنقلة داخل دماغ الأخطبوط. الجينات المتنقلة بإمكانها أن تتحرك من مكانها على الحمض النووي، أو أن تخلق نسخة من نفسها من أجل زرعها في مكان آخر على الحمض النووي. هذه العملية قد تكون خطيرة ﻷنها قد تخل بنظام جينات أخرى مهمة، إذا قطعت تركيبها في المنتصف، لكنها في المقابل قد توفر تنوعًا كبيرًا إذا لم تسبب أي ضرر.
هذه الجينات المتنقلة بإمكانها أن تكون طريقة أخرى، من الطرق التي يوفر بها الأخطبوط التنوع الجيني الذي يوفر له الذكاء الذي يحتاجه.
لم يبدأ سبر عالم الأخطبوط والحبَّار منذ مدة طويلة. معظم هذه الاكتشافات السابقة حدثت في آخر ثلاث سنوات فقط، وما زال العلماء يحاولون توفير التجارب والنظريات المناسبة، من أجل سبر أغوار نشأة الذكاء الثاني، وكيف لكائن لا يملك ما يكفي من مقومات الذكاء، أن يصبح ذكيًّا وماهرًا هكذا.
أتذكرون أوتو، صاحب المقلب الظريف لعاملي حديقة الأسماك؟ لم تكن المقالب هوايته الوحيدة، فقد كان أيضا يُعرف عنه أنه صغير يسعى للفت الانتباه، حتى إنه وُجد ذات مرة يلعب ببعض حيوانات السلطعون، بقذفها في الهواء كما يلعب مهرج السيرك بالأطباق، دون أن يوقع منها واحدًا.
أفنان سلطان