النوستالجيا: المصطلح الطبي الذي انتهى إلى حالة شاعرية

إسلام سعدي سالم
نشر في 2018/08/14

الصورة: Bruce Davidson /Bruce Davidson /Magnum

«خارج الكادر يقع مصنع الصلب، حيث كان يعمل والدي بعد أن ترك عمله في مناجم الفحم. أتذكر الدخان أحمر اللون المنبعث من مداخن المصنع، والذي كان يترك أثره على الملابس. لهذا كانت أمي دائمًا ما تتفقد اتجاه الرياح. في نهاية الرصيف، كان المبنى المعلق عليه لافتة الآيس كريم أقرب دكان إلى بيتي. لم يكن هناك سيارات في الشارع، لهذا اعتدنا أن نلعب حتى حلول الظلام. كنت أعرف كل أطفال المنطقة، ومدرستي كانت قريبة أعلى التلة، وكنت أصل إلى البيت وقت موعد الغداء. كانت طفولة سعيدة وهادئة».

هذا ما كتبته «شيريل وينتيرسون» (بطلة الصورة)، في رسالتها إلى «الغارديان»، بعد أن دعت الجريدة مَن ظهروا في أحد أعمال المصورين الصحفيين، إلى إرسال انطباعاتهم عن الصور، ونشرتها في سلسلة بعنوان «That's me in the picture» (هذا أنا في الصورة).

تظهر هذه الدعوة كمحاولة للوصول إلى حقيقة ما وراء الصور. لكنها تخلص في بعض الأحيان إلى تذكر حميمي للماضي، ربما يصلح مدخلًا لحديثنا عن النوستالجيا.

نوستالجيا السكان الأصليين

خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، أخذ استخدام كلمة نوستالجيا يتوسع وأصبح يعبر عن التعلق المرضي بأي مكان، ثم بأي أزمنة بعيدة أو أشخاص.

في القرن السابع عشر، استخدم طالب الطب في جامعة بازل السويسرية «يوهانس هوفر» كلمة «نوستالجيا» لوصف الألم الناتج عن الرغبة في العودة إلى الموطن.

يتكون المصطلح من الكلمتين الإغريقيتين: «نوستوس» (Nóstos)، أو رحلة العودة، و«ألغوس» (álgos)، أو الألم والحزن. كان لنوستوس أهمية خاصة في الحضارة الإغريقية القديمة، وعنها كتب هوميروس القصيدة الطويلة الشهيرة «الأوديسة»، التي تحكي رحلة الملك «أوديسيوس» الشاقة في العودة إلى موطنه بعد حرب طروادة، التي واجه خلالها كائنات خرافية وغضب الآلهة، وانتهت بعودته إلى موطنه وقتاله ليثبت هويته من جديد ويستعيد عائلته وعرشه.

السياق الذي ذُكرت فيه الكلمة كان طبيًّا، إذ كان يوهانس يصف هذا الشعور بأنه «مرض ناجم عن التعلق المفرط بموطن بعيد»، وكان في البداية يعتقد في ارتباطه بالسكان الأصليين المهاجرين من جبال الألب والمناطق الجبلية والريفية. النوستالجيا وقتها لم تكن مجرد شعور صوفي رومانسي تجاه الماضي، بل كانت مرضًا يحصد أرواحًا كثيرة، وكان يعتقد الأطباء أن المرضى يظلون مشغولين بذكريات موطنهم، حتى يسحب العقل الدم من بقية أجهزة الجسم، ويموت المريض.

خلال القرن الثامن عشر في أوروبا، أخذ استخدام الكلمة يتوسع تدريجيًّا. وبحلول نهاية القرن أصبحت مصطلحًا يعبر عن التعلق المرضي بأي مكان، ثم بأي أزمنة بعيدة أو أشخاص. يقول «ماركوس ناتالي»، الباحث في أدب أمريكا اللاتينية، في أحد أوراقه البحثية: «اعتبار هوفر المصطلحات الموجودة سلفًا غير كافية، وشعوره بحاجة إلى خلق مصطلح جديد، تؤكد أن ظاهرة جديدة قد بدأت: طريقة جديدة للشعور، أو طريقة جديدة للتفكير في شعور قديم».

بمرور الوقت، أصبح هذا المرض مرتبطًا بتجمعات بشرية داخل أوروبا وخارجها كانت تطالها الحداثة شيئًا فشيئًا. لكن بحلول النصف الثاني من القرن التاسع عشر، توقف تشخيص هذه الحالة الطبية حتى بين السكان المهمشين الذين كانت تنتشر في أوساطهم. يقول ناتالي: «هنا انتهت حياة الكلمة في المجال الطبي. فمجموعة الأعراض التي كانت مرتبطة بها في السابق، أُدرِجت تحت فئات تشخيصية أخرى، وأصبحت مرتبطة في وقت لاحق بالاكتئاب».

بهذا تحررت الكلمة من الدلالات الطبية، لتجد لها حياة أخرى في ساحات مختلفة، وأصبحت ترمز إلى التعلق بالماضي بشكل عام، أو كما تُتَرجم الآن: «الحنين إلى الماضي».

قد يهمك أيضًا: منتصف الليل في باريس: ما وراء الحنين لزمن أجمل

نوستالجيا تجاه الزمن

«سفيتلانا بويم» - الصورة: Erika O'Conor

تقسِّم «سفيتلانا بويم»، في كتابها «The Future of Nostalgia»، النوستالجيا إلى نزعتين:

الأولى: نزعة استعادة (Restorative Nostalgia)، وتجعل من مفهوم «Nostos» أو العودة، المحرك لها، وتركز على إعادة بناء المفقود، ولا يفكر أصحاب هذه النزعة في أنهم يمتلكونها، بل يعتقدون أن مشروعهم السياسي يدور حول «الحقيقة». ونجد هذا جليًّا في الحركات السياسية والقومية خصوصًا في أنحاء العالم، والتي تتشارك محاولة إعادة صنع التاريخ واستلهام الرموز الوطنية والأساطير والحكاوي، وأحيانًا نظريات المؤامرة.

صعود الحركات القومية التي تدعو إلى استعادة الأمجاد في أوروبا وأمريكا، كمثال، يأتي نتيجةً مباشرةً لاقتناع الناس بأن الأحوال كانت أفضل في الماضي، رغم الحروب العالمية والأهلية والعنصرية ضد الأقليات والمهاجرين، التي بدأت تعود من جديد لتتصدر المشهد. وحتى على الجانب الآخر من العالم، لا يزال الروس يبكون أيام الاتحاد السوفييتي.

نظرًا إلى رواج تلك الأفكار في وقتنا الحاضر، فإننا ما زلنا نحاول فهم الأسباب، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو نفسية أو غيرها، لكن الأكيد أن النوستالجيا تفرض نفسها على المشهد، وتظهر حتى في الدعاية السياسية لهؤلاء بوعي أو من دونه.

النزعة الثانية: اجترارية (Reflective Nostalgia)، وتدور حول «algia» المتمثلة في ألم الفقد، وهي نظرة أكثر شاعريةً نجد تأثيرها في الفن والأدب والشعر، وأيضًا حياتنا الخاصة.

ترتبط هذه النزعة، بشكل وثيق، بمحاولة الهروب من إحباطات اللحظة الراهنة وتسارع وتيرة التحديث والاستهلاكية. وتتحدث «سفيتلانا بويم» عن حركة التحديث والثورة الصناعية التي فرضت إيقاعًا جديدًا للوقت لا يترك للإنسان المعاصر فرصة للتفكير، والذي يأخذ حيزًا من الوقت لم يعد متاحًا.

قد يهمك أيضًا: أجهزة الفيديو تنقرض.. احتضن أشرطتك وابكِ

نوستالجيا: الخوف من الأمل

تأثر معظم العصور بقدرٍ ما بالتعلق بالماضي، وبما يصاحب ذلك من انعدام الثقة في ما يجري. ويبدو أن الخوف الذي قد يثيره التعلق بالماضي يكون في الأساس خوفًا من التمسك بالأمل في الغد، أو بوهم أن الأمور تتجه إلى الأفضل، فتصبح النوستالجيا حلًّا ناجعًا للهروب من مشكلات اللحظة الراهنة.

ملكت النوستالجيا تأثيرًا، ليس فقط على السكان النازحين من مواطنهم الأصلية، بل تعدت ذلك إلى الأطفال المرضى الذين كانوا يُرسَلون إلى الريف ليقضوا فترة علاجهم، والنساء اللاتي عملن خادمات في البيوت.

كان الوعد بالإجازة ينقذ حياة الجنود المرضى أو المصابين بالنوستالجيا من على حافة الموت.

سلَّط تأثير النوستالجيا الكبير على الجنود (الذين يحاربون ويواجهون ظروفًا صعبة بعيدًا عن مواطنهم) الضوء على تغير دراماتيكي بدأ يظهر في علاقة النوستالجيا بالسياسة. توضح سفيتلانا أنه «لم يعد الحنين مجرد قلق فردي، بل تهديد عام اكتسب أهمية سياسية كبيرة، فأدى إلى إثارة الشكوك حول وطنية الجنود، ولم يكن واضحًا في البداية كيف ينبغي التعامل معهم».

واجه الجيش الروسي هذا التحدي في منتصف القرن الثامن عشر، ليظهر أول رد فعل وحشي تجاه المرض، حين هدد أحد الجنرالات جنوده بأن أول من يقع فريسة لهذا «الوباء» سيُدفن حيًّا، وقد نفذ تهديده، وفقد جنديان حياتهما بالفعل.

رأى الطبيب الفرنسي «جوردان لو كوانت» هذا مثالًا ناجحًا في علاج النوستالجيا، عندما اقترح في كتاب «The Health of Mars»، الذي نُشر أواخر القرن الثامن عشر، طريقة شديدة الراديكالية للعلاج، تقوم على تعريض الأشخاص «المصابين» للألم والرعب.

لكن، على عكس جوردان، وبعده بنحو قرن، جاء الطبيب والباحث الأمريكي «فرانسيس بير بورشر»، أوائل القرن العشرين، ليؤكد أن «الوعد بالإجازة كان، حرفيًّا، ينقذ حياة الجنود المرضى أو المصابين، من على حافة الموت».

النوستالجيا الزائفة

تتنافس المؤسسات الرأسمالية على خلق نوستالجيا مزيفة لدى المستهلك نحو اللاشيء، فلا تكتفي بخلق الحاجة لديه، بل تسعى إلى جعلها أصيلة. يخلق هذا الشعور المزيف بالفقد في حياة كلٍّ منا حاجةً لا تتخلف صناعة الترفيه العالمية عن إرضائها، فتصنع كل شيء بدءًا من الهدايا التذكارية والأزياء إلى الأفلام والمسلسلات، التي تحاول من خلال فرضها بشكل دائم، تسكين شعور الفقد، وتحويل كل المشاعر إلى أشياء مختزلة ومجردة.

كل ما تفعله النوستالجيا، هو ايهامنا بوجود أرض صلبة نقف عليها، فنهمل حاضرًا قد يكون معقدًا ومستقبلًا ينفخ الحياة في كل الشك الذي نهرب منه.

النوستالجيا المزيفة عادةً ما تفتقد إلى الدافع الحقيقي، ولا تتجه نحو الحدث أو الشيء في ذاته، لكنها تستهدف المستهلك بشكل أساسي. على سبيل المثال، قد تتحول المعارك التاريخية الدامية إلى «كولاج» فارغ من مشاهد الأكشن المتقنة والمزودة بتفاصيل دقيقة. هنا تظهر النوستالجيا التي تروج لها صناعة الترفيه، فتجعل كل شيء حساسًا للوقت، إذ تستغل هذه الحساسية في تقديم علاج يكون أيضًا سُمًّا.

يضعنا تأثير النوستالجيا على المستوى العام وقدرتها على خداع الجماهير أمام سؤال: هل ينبغي لنا التعامل معها على أنها مرض من جديد؟ هل هي في حد ذاتها المشكلة؟

دون النوستالجيا، قد لا نكون قادرين على مواصلة الحياة حتى. دون محاولة إقناع أنفسنا بأن ما فات كان في ذاته مميزًا رغم العيوب التي اكتنفته، فماذا نملك إذًا؟

لكن على الجانب الآخر، كل ما تفعله النوستالجيا، في بعض الأحيان، هو ايهامنا بوجود أرض صلبة نقف عليها، فنهمل حاضرًا قد يكون معقدًا إلى حد كبير، ومستقبلًا ينفخ الحياة في كل الشك والتوتر الذي نحاول الهرب منه. لكن لا أحد فينا يمكنه الجزم بصمود قدمينا التي تستندان إلى وهم ماضٍ لم يكن قط كما نتصوره الآن. يحاول كلٌّ منا التشبث بعباءة العجوز حتى يحكي له عن نهاية سعيدة، لكن عقله لا يملك من الحكايات سوى صفحات تعلق بماضٍ كان يتململ منه قبلًا.

غريب وسط عالم موحش

اعتمد شعار دونالد ترامب «اعيدوا أمريكا عظيمة كمان كانت»، في انتخابات الرئاسة، على تأثير النوستالجيا وقدرتها على خداع الجماهير - الصورة: Gage Skidmore

تتحدث «سفيتلانا بويم»، في كتابها، عن مشاعر الاغتراب التي يملكها الإنسان المعاصر تجاه مجتمعه، وعن حياته الاجتماعية المعقدة التي أصبحت بديلًا عن شاعرية الحياة العائلية في المجتمع التقليدي، وبهذا «صار التحضر كالمنفَى الدائم».

لم تعد النوستالجيا مرتبطة بمكان أو نقطة زمنية في حياتنا كأفراد، بل أصبحت تعبِّر عن مشاعر الوحشة والفقد والغربة تجاه العالم.

تتشابه هذه العلاقة مع أطروحة «الغريب» لعالم الاجتماع الألماني «جورج سيميل»، والتي يصف فيها الغريب بأنه ليس دخيلًا (Outsider) لا يملك علاقة محددة بالجماعة، ولا هو تائه (Wanderer) يأتي اليوم ويرحل في الغد. الغريب، بحسب سيميل، شخص يأتي اليوم ويبقى إلى الغد، وهو عضو في الجماعة التي يعيش ويُسهم فيها، لكنه يبقى بعيدًا عن بقية أفراد الجماعة.

النوستالجيا المعاصرة تنعَي استحالة المعجزات التي تتحدث عنها الأساطير والكتب السماوية، وخسارة عالم سحري كانت له حدود وقيم واضحة، فيحكي رجل عجوز عن حياة لم يعد يستطيع التعرف إليها، ويشكو من مستقبل (يبدو له سوداويًّا) يتمنى ألا يعيش حتى يراه، ويأخذ في ترديد حكم ومواعظ سمعها على مر السنين: «كل شيء يفقد طعمه»، و«الأخلاق كانت أفضل».

لم تعد النوستالجيا مرتبطة بمكان قديم أو نقطة زمنية في حياتنا كأفراد، بل أصبحت تعبِّر عن مشاعر الوحشة والفقد والغربة تجاه العالم، وفي بعض الأحيان تكون مجرد شعور رومانسي تجاه تصور خيالي عن الماضي، أو حنين إلى المطلق الذي لا يملك روابط حقيقية بالماضي. تقول سفيتلانا: «بدأ القرن العشرين بيوتوبيا مستقبلية، وانتهى بنوستالجيا نحو الماضي في وقت ما من الستينيات».

إسلام سعدي سالم