الشيعة والتشيع: تطور المصطلح ودلالاته
رغم كثرة الأبحاث والدراسات والمؤلفات التي اهتمت بتناول الفكر الشيعي والشيعة، فإن السؤال الذي يبحث في المعنى اللغوي والاصطلاحي والدلالي لكلمتي الشيعة والتشيع، يبقى ضمن الأسئلة المُعلَّقة التي تحتاج إلى إجابات وافية.
في ما يخص المعاني اللغوية المجردة، فقد أوردت المعاجم العربية كثيرًا من التعريفات لكلمتي الشيعة والتشيع. وعلى الرغم من تباين تلك التعريفات واختلافها في بعض الجزئيات أو التفاصيل، فإنها تشترك مع بعضها في المعنى العام.
المصدر اللغوي لكلمة شيعة هو «شاع»، وجمع شيعة شِيَع وأشياع. أما في ما يخص المعنى، فقد ورد في كتاب «غريب الحديث» لأبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، أن شيعة الرجل هم أتباعه، وفي «تهذيب اللغة» للأزهري، عُرِّف «الشيعة» بأنهم هؤلاء الذين يتبعون بعضهم، وعُرِّف التشيع بأنه «الفِرَق التي تتبع بعضها، لكن من دون اتفاق كامل».
يتفق السواد الأعظم من اللغويين على تلك التعريفات السابقة، فيكررونها في كتبهم ومصنفاتهم ومعاجمهم اللغوية بشكل شبه حرفي.
معنى ذلك أن المعنى اللغوي العام للفظ الشيعة، كان دائمًا ما يشير إلى المناصرة والمساندة والدعم، وفي نفس الوقت يشير إلى فرقة ما تجتمع على رأي أو عقيدة أو مبدأ معين، ويخالفها في ذلك المعتقَد فرق أخرى.
يجب أن نلاحظ أن لفظ «الشيعة» على إطلاقه، لا يحمل بالضرورة أي مدلول قيمي، إيجابيًّا كان أو سلبيًّا. فاللفظ لا يعني في حد ذاته إلا التحزب لمعتقَد ما، بغض النظر عن صلاح ذلك المعتقد أو فساده.
الشيعة في القرآن
وردت مادة «شَيَعَ» في القرآن، في آيات كثيرة. ونستطيع أن نحصي اثني عشر موضعًا مختلفًا قد ذُكِرَت فيه كلمات مشتقة من الجذر اللغوي «شيع»، وذلك في سور الأنعام والحجر ومريم والنور والقصص والروم وسبأ والصافات والقصص.
بحسب ما يذكر الباحث ناصر بن عبد الله بن علي القفاري، في كتابه «أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية: عرض ونقد»، فإن معاني الكلمات المشتقة من الجذر اللغوي «شيع»، والتي وردت في تلك السُّوَر، إنما تنحصر في أربعة معاني رئيسة، هي: الفِرَق، والأهل والنسب، وأهل الملة، والأهواء المختلفة.
كانت معظم الحالات التي وردت فيها كلمة شيعة في سور القرآن الكريم وآياته، ذات مدلول سلبي واضح. فقد كان يُقصد بها الذم والقدح والتخويف والترهيب، وارتبطت بالكفر والشقاق والمعصية والبعد عن طريق الحق والإيمان. يُستثنَى من ذلك كله موضع واحد فقط، والوارد في سورة الصافات، وجاء فيه قول الله تعالى: «وإن من شيعته لإبراهيم».
ذلك أن السياق العام للآيات كان يتناول نبي الله نوح، ثم تحول للإشارة إلى إبراهيم، واصفًا إياه بأنه من شيعة نوح، ما يمكن أن نراه وصفًا ذا مدلول إيجابي لأنه استُخدم لوصف العلاقة بين اثنين من الأنبياء في معرض الإشادة بهما ومدحهما.
اقرأ أيضًا: المُلَّاية في المجتمع الشيعي: نساء للدين أم ذراع لرجاله؟
الشيعة في الحديث
حمَّلت بعض الأحاديث لفظ الشيعة مدلولًا سلبيًّا واضحًا. باستخدامه مع فرقة خارجة عن الدين تارة، ولوصف فرقة ضالة تارة أخرى.
ورد لفظ الشيعة في عدد من الأحاديث النبوية، من أهمها الحديث المعروف المتواتِر الذي يتناول بداية ظهور فرقة الخوارج، عندما اعترض أحد المسلمين على طريقة توزيع الرسول للغنائم عقب انتصار المسلمين في إحدى الغزوات، فلما هَمَّ بعض الصحابة ليبطشوا بذلك المعترِض، نهاهم الرسول عن ذلك، قائلًا: «لا، دعوه، فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين، حتى يخرجوا منه، كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل، فلا يوجد شيء، ثم في القدح، فلا يوجد شيء، ثم في الفوق، فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدم»، وذلك بحسب ما يذكر أحمد ابن حنبل في مسنده، والبيهقي في كتابه «دلائل النبوة».
يوجد حديث آخر يصف فيه الرسول «القدرية» بأنهم «شيعة الدجال»، وهي إحدى الفِرَق التي ستظهر أواخر القرن الأول الهجري، ويعتقد أفرادها أن الإنسان مخير بشكل مطلق، ومسؤول عن أفعاله بشكل كامل. قال النبي: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر، من مات منهم، فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم، فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال»، وذلك حسبما ذكر أبو داود في سُننه.
الملحوظ أن تلك الأحاديث وغيرها، قد حمَّلت لفظ الشيعة مدلولًا سلبيًّا واضحًا. فقد جرى استخدامه مع فرقة خارجة عن الدين تارة، ولوصف فرقة ضالة تارة أخرى.
لكن من المهم الالتفات إلى نقطتين مهمتين في ما يخص استخدام كلمة شيعة في الحديثين السابقين: الأولى أن الحديثين السابقين كانا يتعلقان بأحداث مستقبلية عن الفترة التي عاش فيها الرسول، وكان يشير فيهما إلى عدد من الفرق التي ستظهر من بعده، ولم تكن تلك الفرق موجودة في زمنه. أما النقطة الثانية، وهي أن هناك عدد من الروايات الأخرى للحديثين السابقين، وأن تلك الروايات لا تُستخدم فيها كلمة الشيعة، بل يستعاض عنها بمصطلحات أخرى بديلة، مثل قوم أو أصحاب أو جماعة.
نخلص من ذلك كله إلى أن هناك احتمالًا كبيرًا أن تكون كلمة الشيعة قد أضيفت إلى تلك الأحاديث تحديدًا، مراعاةً لظروف وملابسات سياسية ومذهبية معينة ظهرت في الفترة الزمنية التالية لوفاة الرسول، وذلك عندما حدثت الانشقاقات والخلافات بين المسلمين.
الشيعة في كتب التاريخ الإسلامي
في كثير من الأحيان، استُخدِم لفظ الشيعة في كتب التاريخ والمغازي والسير، وفي معرض الإشارة إلى المناصرين والأتباع، أي وفق السياق اللغوي الاعتيادي. ولم تقتصر الكلمة على حزب معين أو فئة محددة، وإنْ اشتُهِرَ بها شيعة علي بن أبي طالب، كما سيظهر في المباحث الآتية.
لعل أهم المواضع التي أظهرت شيوع استخدام لفظ «الشيعة» في عهود الإسلام المبكرة، ما أورده أبو حنيفة الدينوري في كتابه «الأخبار الطوال»، في معرض وصفه لما وقع من أحداث في أثناء التحكيم بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، عقب وقف القتال بين جيشي العراق والشام.
يقول الدينوري: «وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على علي ومعاوية عهد الله وميثاقه بالرضى بما حكما به مما في كتاب الله وسنة نبيه، وليس لهما أن ينقضا ذلك، ولا يخالفاه إلى غيره، وهما آمنان في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأشعارهما وأبشارهما وأهاليهما وأولادهما ما لم يعدوا الحق، رضى به راضٍ أو سخطه ساخط، وأن الأمة أنصارهما على ما قضيا به من الحق مما هو في كتاب الله، فإن توفيَ أحد الحكمَيْن قبل انقضاء الحكومة، فلشيعته وأصحابه أن يختاروا مكانه رجلًا من أهل المعدلة والصلاح على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق».
وموضع الشاهد هنا، أن الدينوري أستخدم لفظة الشيعة لوصف أنصار علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وأتباعهما دون أي تفرقة أو تمييز.
بالنسبة إلى العباسيين، فقد شاعت تسمية مناصري الثورة العباسية باسم الشيعة أو شيعة العباسيين أو شيعة بني العباس.
لم يقتصر استخدام توصيف الشيعة على أتباع علي ومعاوية فحسب. فقد ذكر عدد من المؤرخين، ومنهم المسعودي في كتابه «التنبيه والإشراف»، وابن تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة»، توصيف المطالبين بالثأر لعثمان بن عفان من الأمويين وأهل الشام، بأنهم «شيعة العثمانية».
كذلك عُرِفَ مؤيدو الدولة الأموية منذ بداية عصر عبد الملك بن مروان، وفي أثناء الصراع مع عبد الله بن الزبير في مكة، وحتى نهاية الدولة الأموية (132 من الهجرة، 750 من الميلاد)، باسم «شيعة بني مروان»، بحسب ما ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه.
أما بالنسبة إلى العباسيين، فقد شاعت تسمية مناصري الثورة العباسية باسم الشيعة أو شيعة العباسيين أو شيعة بني العباس، كما سماهم ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم».
اقرأ أيضًا: عالم الذَّر في الفقه الشيعي: مرحبًا بك حيث قررت مصيرك قبل أن تولد
التعريف الاصطلاحي للشيعة
على الرغم من الدلالة العامة التي تحملها لفظة «الشيعة» على الصعيد اللغوي، فإن مصطلحي الشيعة والتشيع ارتبطا بأنصار الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وأتباعه، حتى صار يُفهَم من كلمة الشيعة أن المقصود بها شيعة علي بن أبي طالب تحديدًا، حتى إنْ لم يتضح ذلك بشكل ظاهر، أويُنَص عليه صراحةً.
نصَّت كتب الفرق والمذاهب السنية والشيعية على ذلك الأمر بشكل واضح. فبالنسبة إلى التعريف الاصطلاحي للشيعة في الكتب السنية، نجد أن من أوائل من أورد ذلك التعريف، هو أبو الحسن الأشعري في كتابه «مقالات الإسلاميين»، بقوله: «والشيعة هم الذين قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا عليًّا رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله»، ويتابعه في ذلك ابن حزم الظاهري في كتابه المشهور «الفصل في الأهواء والملل والنحل»، في قوله إن الشيعة هم «الطائفة التي تعتقد أن عليًّا رضى الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالإمامة وولده من بعده».
إن تعريف أبو الفتح عبد الكريم الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل»، للشيعة من أشمل التعريفات وأدقها، إذ يُعرِّفهم بأنهم «الذين شايعوا عليًّا رضى الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصًّا ووصية، إما جليًّا، وإما خفيًّا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وان خرجت، فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده».
مصطلحي «الشيعة» و«التشيع» لم يكتسبا دلالتيهما الاصطلاحية إلا في عهد متأخر نسبيًّا.
أما إذا انتقلنا إلى كتب الفرق والمذاهب الشيعية، فإننا لا نكاد نلاحظ أي فرق في تعريفهم لمصطلح الشيعة عن التعريفات التي أوردناها من الكتب السنية.
فكلٌّ من النوبختي والقُمِّي، وهما من كبار علماء الشيعة في القرن الثالث الهجري، يتفقان على أن الشيعة «فرقة علي بن أبي طالب عليه السلام، وهم المُسَمَّوْن بشيعة علي في زمان النبي وبعده، ومعروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته».
أما الشيخ المفيد، وهو من أكابر علماء الشيعة، فيُعرِّف الشيعة في كتابه «أوائل المقالات في الفرق والمختارات»، بأنهم من «اتبعوا أمير المؤمنين صلوات الله عليه على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول، بلا فصل ونفي لإمامته عمن تقدمه في مقام الخلافة وجعله في الاعتقاد متبوعًا لهم غير تابع».
يتابع الباحثون المعاصرون من السنة والشيعة، ومنهم على سبيل المثال، عبد الله فياض في كتابه «تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة: منذ نشأة التشيع حتى مطلع القرن الرابع الهجري» وصالح الورداني في «الحق والحقيقة بين السنة والشيعة» وناصر القفاري في كتابه «أصول مذهب الشيعة الإمامية»، آراء أسلافهم من العلماء القدامى في تعريفهم الاصطلاحي للشيعة وربطه بأنصار الخليفة الرابع ومؤيديه.
هكذا يبدو أن مصطلحي «الشيعة» و«التشيع» لم يكتسبا دلالتيهما الاصطلاحية إلا في عهد متأخر نسبيًّا، إذ استخدمه أوائل المصنفين الإسلاميين بدلالاته اللغوية فقط، لا الاصطلاحية، وأشاروا به إلى شيعة علي ومعاوية على السواء. مع ذلك، حاول المتأخرون باستمرار تأصيل المصطلح في تراث الحديث النبوي، مدحًا أو قدحًا، كل بحسب مذهبه.
محمد يسري أبو هدور