عبد الكريم الخطابي: تاريخ نزعة التحرير في ريف المغرب
هذا الموضوع ضمن هاجس شهر ديسمبر «كيف تشكِّلنا الحرب؟». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
تضعنا الأحداث التاريخية التي توالت على رقاب الشعب المُعمِّر في منطقة الريف، شمالي المغرب، أمام صورة أوضح عن الظروف التي تحكم معيشه الآني، وفرصة سانحة لفهم عقلانيته التاريخية المرافقة له إلى الآن.
تلك الذاكرة/الواقع التي أفصحت عن وجودها الدائم، المقاوم للنسيان، في ما تفجر من أحداث أججها موت بائع سمك عام 2016، وتحولت إلى حراك ذي مطالب اجتماعية واقتصادية إلى الشارع، واضعًا الحكومة المغربية في مخاض عسير، مرت منه كجمل يحث الخطى عبر سَمِّ إبرة، وإن كان أصل المشكلة لا يزال في حاجة إلى حل.
ولفهمٍ أكثر للعقل الريفي المعاصر، وجب علينا ربطه بعقله التاريخي، عقل نحتته مطارق الحروب التي مارست هواية السقوط الحر على رأسه. ولأجل فهم تلك الصراعات المسلحة، وجب بنفس الضرورة فهم الواقع السياسي والاجتماعي المغربي حينها.
كان مغرب القرن التاسع عشر الميلادي مغرب الشتات بامتياز، يعرف شروخًا عدة وتمردات، يغيب فيه مفهوم الوطن، تتقاسم الدولة ثلاثة كيانات سياسية، منفصلة عن بعضها تنظيميًّا، متصلة في ما بينها ممارسيًّا، بما تحكمه النفعية من تحالفات، وتفضي إليه السلطة التقليدية من اقتتال.
ثلاثة تنظيمات سياسية مغربية كانت تتوزع السلطة داخلها بشكل هرمي، هي:
- المخزن (أو الدولة المركزية)
- القبيلة
- الزاوية
لكلٍّ من هذه التنظيمات دوره الخاص وآليات فعلها في الواقع. فإذا كان المخزن السلطة المركزية، المتسلح بشرعية السلطان، له الهياكل والمؤسسات ويجبي الضرائب والمُكُوس ويوحِّد الشرع والقانون المنظم لحياة الشعب على مد نفوذه القطري، إذًا فالقبيلة، أي السلطة المحلية، لها العُرف الخاص بها وشيخها الحاكم فيها، ونفوذها الضدي لنفوذ الدولة. أما ما بين الصراعين، المخزن-القبيلة والعكس، كانت الزاوية تقف موقف العازف على الوترين، بما يضمن بقاءها كسلطة ويحقق لها المنفعة.
هكذا، يخبرنا محمد حجاج في كتابه «الزاوية بين القبيلة والدولة» أن «الزوايا شكّلت ذلك المحور الذي يتقاطع عنده المحلي بالمركزي، ما شكّل أساسًا متينًا لإحقاق ذلك التواصل المبحوث عنه بين مجالي القبيلة والدولة»، بما يحكمها من خصائص أربعة محددة لبنيتها، أي الصلاح والكرامات، والطريقة والمذهب كأيديولوجيا مؤطرة، والانتساب إلى آل البيت، والنفوذ المعنوي والمادي. فجسّدت بذلك علاقة التواصل الوظيفية بين المكوِّنين السابقين.
ورجوعًا إلى المشهد السياسي والاجتماعي المغربي في ذلك الحين، نلحظ انحسارًا في رقعة نفوذ المركز أمام نفوذ المحلي الجانح المتمرد، فكان بذلك المغرب مغربين: مغرب السلطان، ومغرب السيبة (أي التمرد).
قد يهمك أيضًا: من يحفظ تاريخ المغرب المسكوت عنه؟
كان الريف خطًّا أماميًّا للدفاع عن تراب الوطن أمام الجيش الإسباني الزاحف من الشمال.
تذكر لنا المصادر التاريخية وقائع مثيرة عن تلك الفترة، منها أن السلطان المغربي عبد العزيز لم يتمكن من إتمام رحلة تأديبه إلى أزمور التي ثارت عليه عام 1902، وبعدها بسنة كسر محلته (حاميته العسكرية) التي كانت في طريقها من فاس، العاصمة آنذاك، إلى تازة، لدحر تمرد بوحمارة، بعد أن أُغير عليها في الطريق.
أمام هذا الواقع، كان المخزن يسعى إلى استمالة القبائل ومهادنتهم، هذا ما كان يضيِّع عليه قدرًا مهمًّا من مال خزائنه وجزءًا من هيبته، وهذا الأخير كان عصي الاسترداد مهما ارتفعت الجبايات وتعددت.
في واقع كهذا، كانت علاقة الريف بالسلطة المركزية دائمة التوتر، فهي المنطقة التي تغيب فيها الحواضر التي كان للمخزن فيها السلطة المطلقة، وتحضر فيها القبيلة بثقلها التنظيمي الذي يعوز مثيله في أيٍّ من أقطار المغرب الأخرى. كان التطاحن على السلطة والحروب والشتات أساس وجود الريف، ومن داخل هذا الوجود أنتج الريف رجالاته، وأبدع وعيه الجمعي الخاص.
ولموقعه على خطوط التماس المباشرة مع المستعمِر، في كل من ثغرَي سبتة ومليلية المحتلّيْن، كان الريف في مواجهة مفتوحة مع المحتل الأوروبي، والخط الأمامي للدفاع عن تراب الوطن أمام الجيش الإسباني الزاحف من الشمال، هذا ما جعله يعرف ثلاثة حروب كبيرة ضد القوات الأجنبية.
أبرز تلك الحروب كانت تلك التي صعد فيها نجم الأمير سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي، كقائد عسكري فذ ذي دهاء وحنكة في ساحة الوَغَى، مبتدعًا أشكالًا جديدة من المواجهة، ألهمت قادة التحرير الوطني البارزين، ودفعت الثائر الشهير غيفارا إلى زيارته في منفاه الاختياري في القاهرة، مخاطبًا إياه: «أيها الأمير، لقد أتيت إلى القاهرة خصيصًا لكي أتعلم منك».
ونحن بدورنا أيضًا ربما نتعلم، عبر هذا الموضوع، لا عن كيفية قيادة الحروب، بل كيف جعلت «حرب الريف» الريف ريفًا كما الآن.
ميلاد القائد: ظروف تشكيل شخصية الخطابي
«منذ 20 سنة كان المغرب ما زال ممزقًا إلى وحدات فيودالية، يعيش فيها الفلاح عُرضةً للاعتصار والاضطهاد والنهب. كانت هذه البلاد موطنًا للفوضى والفساد العام، وتبدو فريسة سهلة المنال، بحيث أنها كانت تحمل في طيّاتها نيران الحروب وتهدد بإشعالها بين الدول الأوروبية».
هكذا وصف السياسي ووزير الحرب الفرنسي آنذاك، «بول بانلوفي»، المغرب في خطابه عام 1925، مستعرضًا الحالة العامة التي كانت تحكم البلاد، حالة تطاحن وتمزق، تفجرت خلالها النعرات وغاب فيها أي وجود فعلي تنظيمي للدولة.
في ظل هذه الظروف العامة وُلِد محند، أو محمد باللسان العربي الفصيح، ابن عبد الكريم الخطابي، في بلدة أجدير عام 1882. الابن البكر لعائلة ذات ثقل في الريف المغربي، كان فيها الأب عبد الكريم الخطابي قاضي المهنة، له ارتباطات سياسية متشابكة مع مختلف المكونات السلطوية على تلك الأرض وفي ذلك الحين، وله هَمٌّ كبير هو المغرب، الذي كان يؤمن بضرورة إخراجه من حالة الضياع تلك.
هذا ما دفعه إلى السهر على تجهيز أبنائه كي يكونوا أهلًا لإصلاح الحال، ودرء المآل الاستعماري، الذي كان يبدو من خلال عين تلك الفترة التاريخية قَدَرًا لا مفر منه. ولنفس العِلّة أرسل ابنه الأكبر لدراسة الفقه والقضاء في جامعة القرويين في فاس، وأرسل الثاني إلى إسبانيا كي يتعلم الهندسة والعلوم التقنية، موقنًا أن مغرب الحداثة والنهضة سيتحقق بمراعاة الجانبين: الخصوصية الأصيلة، والمعرفة الحديثة.
«الحقيقة أن الفقيه عبد الكريم كان الأستاذ الفعلي لابنه محمد، وذلك في الفقه والدين عمومًا، والوطنية والسياسة». هكذا عقّب إدريس الخطابي، ابن الراحل محند بن عبد الكريم، على مرحلة ارتباط الأمير بأبيه، وفقًا لما يذكره الباحث المغربي محمد العربي المساري في كتاب «محمد بن عبد الكريم الخطابي: من القبيلة إلى الوطن».
غير أن هذا الارتباط لم يدم طويلًا، فالسلطات الإسبانية ارتأت أن لا سلطة تعلو سلطتها، وأن لا كلمة تُسمع في الريف غير كلمتها، وذلك كان لها علةً كافية لتُقدم على تسميم عبد الكريم الخطابي في أغسطس 1920، بسبب أفكاره ومقامه الرمزي العظيم بين قبائل الريف، ولعزمه الذي أبداه في المقاومة.
مات عبد الكريم تاركًا فكرته نهجًا ووصيةً لأبنائه. ويذكر المساري أنه بعد أن أحس بدنُوِّ أجله، جمع حوله ابنيه وقال: «إني ذاهب بعد أيام معدودة إلى ربي وخالقي. وصيتي لكم أن تدافعوا عن بلادكم، لأن الإسبان أعداؤنا وأعداء الله قد بيّتوا العزم على تلويث وطننا بأحذية جنودهم. ولذلك، فواجبكم المقدس الذود بكل ما استطعتم من قوة عن حوزة هذه البلاد».
وصيةٌ حملها محمد على عاتقه طوال حياته، هو الذي لم يكن غِرًّا في السياسة حينها، بل كان ذراع والده اليمنى، ونفذ مهام عدة منها على سبيل المثال: تكليفه باستقصاء روابط الإسبان ببوحمارة، وكذا إرساله إلى فاس لتفقد استعدادات المخزن لمواجهة ذلك التمرد، الذي قاومه الريف لسببين: أن مطامع بوحمارة/الروكي كانت انتهازية واضحة بعدما استنجد بالاستعمار الأوروبي لمساعدته، ولأن ذلك الاستنجاد كلّف الروكي منح الفرنسيين والإسبان عقود استغلال مناجم الريف، وبالتالي جعل للمحتل موطئًا هناك.
عُرف عن الخطابي مواقفه التي كانت في غاية الشذوذ آنذاك، كتأييده لألمانيا والعثمانيين في الحرب العالمية الأولى.
قبلها، انتقل محند بن عبد الكريم الخطابي في طَوْر من حياته إلى مليلية بغرض العمل، وشغل عدة وظائف منذ حلوله بها سنة 1907، منها تدريس اللغة العربية في المدرسة الأهلية، والإشراف على القسم العربي في جريدة محلية، ليرجع بعدها إلى حرفة أبيه كقاضي القضاة في ذلك الثغر المغربي المحتل.
وخلال خدمته في مليلية، وثّق سيدي محند علاقات سياسية بمختلف مراكز القوى هناك، من متعاونين سريين إلى شخصيات السلطة المخزنية التي انشقت ولجأت إلى المحتل، إلى سياسيين أوروبيين وعسكريين في الجندية الإسبانية. وعبر تلك العلاقات، كان الخطابي على اطلاع كبير بما يجري في البلد وما يُحاك حوله من الخارج، وكوّن صورة بانورامية للخارطة السياسية المغربية، ومع ذلك لم يتزحزح عن موقفه الصامد وسعيه إلى دحر كل التهديدات لوحدة البلد واستقلاله.
ما عُرف عن محند بن عبد الكريم الخطابي في أثناء وجوده في ثغر مليلية، مواقفه التي كانت في غاية الشذوذ آنذاك، كتأييده لألمانيا والعثمانيين في الحرب العالمية الأولى. وهي مواقف كانت مفهومة، وإذا نظرنا إليها بعين اليوم سنجد الرجل مطبقًا المثل الشامي القائل «فخار يكسر بعضه»، وبالتأكيد تكسير الفخار الأوروبي لبعضه فرصة سانحة لتحررنا كمستعمَرين.
تعرض عبد الكريم للاعتقال في إسبانيا لمدة سنة تقريبًا، بتهمة الخيانة العظمى للدولة الإسبانية، بالتخابر مع عميل يشتغل لصالح الألمان، هو عبد المالك، حفيد المقاوِم عبد القادر الجزائري، بموجبه كان ينوي الأمير التحصُّل على سلاح لدحر الوجود الإسباني في الشمال.
بعد هذه المرحلة، سيجد الريف نفسه أمام تكالب وإجهاز مباشرَين عليه من طرف المستعمِر، إذ طغت على الجو حينها رائحة التقارب بين الإسبان والفرنسيين، وكانت تحالفاتهم وتقسيماتهم في العلن أو في الخفاء تمنع الاستنجاد بطرف على حساب الآخر، أو ضرب طرف بآخر.
مع إشارة ضرورية إلى استحالة المطمح الأول بعد احتجاجات فرنسا على الإسبان، بعد ما تلى من تدخل الألمان على تخوم مستعمراتها مهددةً مصالحها، ما دفع إسبانيا أكثر إلى إبداء موقفها بوضوح، موقف مفاده أن الخطأ لن يتكرر إذا ما تم احتلال الريف وضمان مصلحة الحليف الفرنسي في باقي ربوع المغرب بذلك. ومع هذا الوضع المقلق، سيغادر سيدي محند مليلية إلى أجدير، من أجل حسم أولويات المقاومة التي سيخوضها.
حرب الريف: ملحمة البطولة الوطنية
انتصر الريف على المستعمِر في معركة وادي الذئاب، مما كلف إسبانيا أكثر من 1550 مقاتل، وأسلحة وذخائر، وجعل الحرب تمتد إلى عامين.
لم تكن حرب الريف، أقصد الثورة التي أشعلها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1920 ضد الاحتلال الإسباني، أول حرب عرفها الريف، بل الثالثة. ولا كانت أول ثورة شعبية يحمل فيها سكان المنطقة السلاح ضد أعدائهم، بل سبقتها قبل ذلك قَوْمَة الشريف محمد أمزيان في قبائل قلعية في الريف الشرقي.
كانت هذه القومة بين عامي 1909 و1912 أيامَ مجدٍ عَبّر فيها الريف عن رفضه التام لأي سلطة محتلة تستغل أرضه، فكان أن انتفض بقيادة الشريف أمزيان ضد بوحمارة، الذي مكّن المستعمِر من أرض الريف ومناجمها.
خاض أمزيان بعد ذلك حربًا مفتوحة على الوجود الإسباني في المنطقة، بدأت غير منظمة لكن ذكية جدًّا، إذ عمدت في أول الأمر إلى تعطيل اشتغال منجم الحديد في ويكسان، بقطع خطوط السكة الحديد بينه وبين حضن مليلية، ودفع هذا إلى مواجهةٍ أولى كان للمجاهدين فيها، وهم قِلة، الانتصار الساحق على العدو.
انتصارٌ كهذا حشد إليهم متطوعين من كل ربوع شمال المغرب، ما مكنهم من الفوز في مواجهات أكثر، أشهرها انتصار معركة وادي الذئاب، التي كلفت إسبانيا ما يفوق 1550 مقاتل، بالإضافة إلى عدد كبير من الأسلحة والذخائر، ما سيجعل الحرب تمتد إلى سنتين كاملتين، حتى قُتل الشريف بيد غادرة لأحد المندسين المتعاونين مع الإسبان داخل جيشه.
هذه الروح القتالية الشرسة هي نفس الروح التي حملها سيدي محند بن عبد الكريم الخطابي في فكره ونضاله، مثل أقرانه من الريفيين، والتي كثيرًا ما حيرت الغرب، كلما استعرّت عليهم نيران الوَغَى في محاربة الريف، ونحتت صورة الريفي الشرس الجاهز للقتل والمتعطش للدم عند المستشرقين.
من أبرز ذلك ما قاله «فيستمارك» و«أوغوست مولييراس» إن القتل عقيدة الإنسان الريفي، وقول كهذا رهين لظرفه التاريخي، أي حرب التحرر، أما ما عدا ذلك فمنسوخ بواقع التنظيم الذي كان يحكم قبائل الريف، وطرق حل نزاعاتهم، التي يحفظها التاريخ مدونةً في ما فضل من وثائق تلك المرحلة.
سنة 1920، سيحاول الجنرال الإسباني «مانويل سلفستري» إنزال جيشه في الحسيمة، على غرار إنزال القوات الفرنسية في وجدة شرقًا سنة 1907، تمهيدًا للاجتياح البري لمنطقة الشمال. عمليةٌ كانت لها مقاومة عبد الكريم الخطابي بالمرصاد، وكانت السبب في إحباطها.
ستضطر المقاومة الريفية إسبانيا إلى التوجه غربًا وإنزال عساكرها في أصيلة والعرائش على الساحل الأطلنطي، لكن المقاومة في تلك الثغور لم تكن بهذه القوة، بل جنح زعيمها «الريسوني» إلى مهادنة المحتل والحفاظ على مكاسبه المادية على الأرض.
خيانةٌ وجد الريفيون أنفسهم بسببها محاصَرين من كل الجهات، شرقًا وغربًا من المحتل، وفي الجنوب لا يُرجى مدد من المخزن، الواقع تحت رحمة الفرنسيين بعقد حماية منذ 1912.
بعد احتلال شفشاون في نفس السنة، كانت انطلاقة المواجهات المباشرة بين أهل الريف بزعامة ابن عبد الكريم وجحافل المستعمر. مواجهاتٌ كان المجاهدون فيها بعتاد بسيط وبدائي، بندقيات تقليدية، غير أن روح المواجهة كانت الفيصل في تحركاتهم، والضامن لحِلف حافظوا عليه طويلًا مع النصر.
وببصيرة قائد الحرب، وقدرته الفذة على تخطيط التكتيكات العسكرية، قاد محمد بن عبد الكريم الخطابي إخوته في السلاح عبر مسيرتهم المقاوِمة والمجاهِدة.
يخبرنا الباحث المغربي محمد العربي المساري أن الفترة الأولى من الحرب كانت هجومية بامتياز، حاصرت فيها مجموعات المجاهدين قليلة العدد معسكرات العدو واستنزفت طاقاته قبل مهاجمته، بل كان تسليحهم معتمدًا على ما يغتنمونه من العدو بعد قتله، أو بعد سرقته منه بالتسلل ليلًا إلى مخازنه، عرايا مطليين بالزيت، كي لا يحدثون صوتًا ينبِّه الحراس إلى وجودهم.
هكذا، ظلت جملة «السلاح موجود عند العدو، ما على المجاهد إلا انتزاعه منه» جواب القائد محند بن عبد الكريم البديهي كلما طُرح عليه سؤال التسليح.
وما زالت الألسن في الريف والمنطقة الشرقية للمغرب تتناقل روايات شفهية عن بعض تقنيات الحرب التي كان يعتمدها المجاهدون، وكانت إبداعهم المحض بما توفر لديهم من وسائل وإمكانات، مثل اعتمادهم على إشعال النار في الأرانب وإطلاقها تعدو ليلًا لرصد مواقع كُمُون الجيش المحارب، في تقنية تشبه إلى حد كبير دور القنابل المضيئة التي تستعملها جيوش هذا العصر.
تُعَد معركة أنوال، في يوليو 1921، قمة صعود نجم المقاومة في الريف. وصفها كاتب مقال «حرب الريف والعالم»، الدكتور الطيب بوتبقالت، بأنها لا تقل أهميةً ولا وزنًا بالمقارنة بمعارك مشهورة عالميًّا، كمعركة وادي المخازن والزلاقة والقادسية وووترلو وفردان.
اندلعت المعركة بعد أن استصغر الجنرال سلفستري تهديدات المقاومة الريفية نحو التقدم إلى منطقة أبران وسط الإقليم، فوجد المقاتلين له بالمرصاد، اقتحموا عليه مراكز الخطوط الأمامية من جيشه، وقتلوهم جميعًا إلا قلة فرّت تحت طلقات البنادق.
بعدها، سيأتي التحذير من مدريد إلى سلفستري بعدم التقدم، غير أنه سيصر على تتبع المجاهدين في أنوال بجيش يفوق تعداده 28 ألف جندي، وعتاد حديث يفتقر إليه الطرف الآخر. دامت المعركة خمسة أيام، وكانت نتائجها صاعقة لإسبانيا كلها، وأسماها العدو «فاجعة أنوال».
يحكي الخطابي عن فاجعة أنوال في مذكراته قائلًا: «ردّت علينا هزيمة أنوال مئتي مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77، وأزيد من 20 ألف بندقية، ومقادير لا تُحصى من القذائف، وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينًا كثيرًا يتجاوز الحاجة، وأدوية وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها وبكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشًا ونشنّ حربًا كبيرة، وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15 ألف جندي ما بين قتيل وجريح»، إلى جانب انتحار الجنرال سلفستري تهربًا من مسؤولية الهزيمة.
قد يهمك أيضًا: اتحاد المغرب العربي: حلم الوحدة الضائع
عرفت جمهورية الريف ميلادها في العاصمة أجدير، والأمازيغية والعربية لغتاها الرسميتان، ونشيدها الوطني يبجل مآثر «بطل الريف».
بعد هذا الانتصار الساحق، سيتابع المجاهدون تطهير أرض الريف من كل النواحي، حتى يصلون إلى حصن مليلية، حيث فضّل الأمير حينها تقوية صفوفه على دخولها فاتحًا بعد أزيد من خمسة قرون على احتلالها.
يعترف الخطابي بذلك كخطأ في مذكراته: «على إثر معركة جبل العروي، وصلتُ أسوار مليلية وتوقفت، وكان جهازي العسكري ما يزال في طور النشوء، فكان لا بد من السير بحكمة».
«وعلمتُ أن الحكومة الإسبانية وجهت نداءً عاليًا إلى مجموع البلاد، وتستعد لأن توجه إلى المغرب كل ما لديها من إمدادات، فاهتممت أنا من جهتي بمضاعفة قواي وإعادة تنظيمها، فوجهت نداءً إلى كل سكان الريف الغربي، وألححت على جنودي وعلى الكتائب الجديدة الواردة مؤخرًا، بكل قوة، على أن لا يسفكوا بالأسرى ولا يسيؤوا معاملتهم، ولكني أوصيتهم في نفس الوقت وبنفس التأكيد، على أن لا يحتلوا مليلية اجتنابًا لإثارة تعقيدات دولية، وأنا نادم على ذلك بمرارة، وكانت هذه غلطتي الكبرى».
بعد معركة أنوال بثلاثة أشهر، دعا مولاي محند قبائل الريف إلى اجتماع عام في معسكره، لم يتخلف عنه أيٌّ ممن دُعي، اجتماع عزم على تأصيل الطابع المقاوم لبندقية الريفية، وتأسيس كيان سياسي منظم لعموم شعوب الأرض المحررة. كان أول قرار لذلك الجمع هو إعلان استقلال الريف، وتأسيس حكومة دستورية جمهورية يرأسها زعيم الثورة، مولاي محند بن عبد الكريم الخطابي.
هكذا عرفت جمهورية الريف ميلادها في العاصمة أجدير، بالأمازيغية والعربية لغتين رسميتين، ونشيدها الوطني يبجل مآثر «بطل الريف».
في كَنَف «جمهورية الريف» المستقلة
اجتمع الريفيون حول ابن عبد الكريم، وصاروا ينادونه بعد قيام دولتهم أميرًا لهم ولجهادهم، ووعدوه بكل صلاحيات السيادة والحكم، ووثقوا فيه، وكان لهم سبب في ثقتهم تلك.
هناك حكايات تاريخية عدة عن حُسن معاملته للأسرى، كتركه سريرَه مُستَراحًا للجنرال الإسباني «نابارو» الأسير لديه بعد معركة جبل عرويت، وكذا تصريحات أسيرته للصحافة الإسبانية بعد أن سألها أحدهم: «هل تشعرين بالخوف هنا؟»، لترد: «مِمّ أخاف؟ إننا نلقى معاملة طيبة وليس هناك ما نشكو منه».
هذا ما جعل صحافة العالم حينها تكتب عنه بإجلال وتقدير، فكتب «والتر هاريس» لجريدة النيويورك تايمز قائلًا إن «ابن عبد الكريم رجل لا يتورط في أي مغامرة قبل أن يدرس جميع احتمالاته»، ووصفته الجريدة الألمانية «دويتش تسايتونغ» بأنه رجل قدير ذائع الصيت، وقائد متعلم وماهر، وزعيم لأرض قَلّ أن ذاقت مرارة الحكم الأجنبي، حتى أن الرومان الذين أخضعوا الألب وذلوا الألبان لم يقتحموها.
هكذا كانت صورة الخطابي في أعين الكل من الداخل والخارج: قائدًا ثوريًّا شهمًا، وحامل بندقية نظيفة من دم الباطل.
كان ابن عبد الكريم واعيًا بضرورة إنشاء ارتباطات للدولة مع خارجها، ولهذا أرسل وفوده الدبلوماسية إلى العواصم الأوروبية.
وضعت القبائل الريفية تحت قيادة الخطابي دستورًا لدولتهم يراعي حالة الحرب التي كانوا فيها، يقول عنه الأمير في مذكراته: «ثم وضعت دستورًا للبلاد، مبدؤه سلطة الشعب، وجعل السلطتين التشريعية والتنفيذية في يد الجمعية الوطنية، أي أن الدستور لم يفصل بين السلطتين وفقًا للقواعد الدستورية الأوروبية، وجعل رئيس الجمهورية رئيسًا للجمعية الوطنية، ويحتِّم على كل شيخ وزعيم وقائد من أعضاء المجلس تنفيذ المقررات التي تُقرُّها الجمعية، وهؤلاء مسؤولون عنها تجاه الرئيس بصفته رئيس الحكومة، والرئيس مسؤول عنها إزاء الجمعية».
بَيْدَ أن الحكومة تجسدت في أربع حقائب وزارية هي: نيابة الرئيس، والمالية، والخارجية، والداخلية، بينما كانت الدولة تُبنى شيئا فشيئًا معتمدةً ميثاقها التأسيسي كمنهج ورؤية، الميثاق الذي نص على:
- عدم الاعتراف بأي معاهدة تمس بحقوق البلاد المغربية، خصوصًا معاهدة «الحماية» المفروضة في 1912
- جلاء الإسبان عن الريف، الذي لم يكن في حوزتهم قبل إبرام المعاهدة الفرنسية الإسبانية سنة 1912
- الاعتراف بالاستقلال التام للحكومة الريفية
- تشكيل حكومة دستورية في الريف
- أن تدفع إسبانيا إلى الريف تعويضات عن الخسائر التي ألحقتها بسكانه جراء الاحتلال، وتفدي الأسرى الذين وقعوا في يد المجاهدين
- إنشاء علاقات ودية مع جميع الدول دون استثناء، وإبرام اتفاقيات تجارية معها
كان ابن عبد الكريم واعيًا بضرورة إنشاء ارتباطات للدولة مع خارجها، ولهذا أرسل وفوده الدبلوماسية إلى مختلف العواصم الأوروبية، وكان قد عزم أن يُرسل أخاه في 1923 على رأس وفد إلى عصبة الأمم في جنيف، لإسماع قضيتهم للعالم.
غير أن هيمنة الدول الاستعمارية على المنظمة حال دون ذلك، فأرسل الخطابي وفدًا في نفس السنة إلى لندن للغرض ذاته، مستغلًا القطيعة الإسبانية-الإنجليزية آنذاك، مخاطبًا رئيس الوزراء البريطاني «رامزي ماكدونالد» قائلًا: «أكتب إليك باسم الإنسانية المعذبة، لتتوسط بيني وبين العدو المعتدي حتى تنتهي هذه الحرب المرعبة التي تفتك بنفوس بريئة. وها أنا أصرح لك، بصفتي أمير الريف المعترَف به، أنني مستعد أن أرسل من قِبلي مندوبين في المكان والزمن الذي تحددونه، للمفاوضة في شروط الصلح على أساس استقلال إمارة الريف، استقلالًا تامًّا».
ألغى ابن عبد الكريم الأعراف، وأقام مقامها أحكام الشريعة الإسلامية، وأعطى للقضاء حق النظر في الجنائي فضلًا عن المدني، وأدخل الإصلاح على المِلكِية وتوزيع المياه، فأصدر قانون مصادرة الأرض التي يعجز صاحبها عن استثمارها، وإسنادها إلى من يقدر على حسن التصرف فيها، وسمح أيضًا للجماعات والأفراد بحق تنظيم توزيع الماء، بحسب ما يوضحه محمد بن الحسن الوزاني في كتابه «مذكرات حياة وجهاد».
هكذا أحدثت الجمهورية، أو الانتقال من «القبيلة» إلى «الوطن»، انقلابًا في حياة أهل الريف. انقلابٌ لم يلقَ معارضة بارزة، إما لأنه أتى في حالة استثناء، أي الحرب، أو أنه كان وعيًا جعل من ذلك التغيير في حد ذاته جزءًا من المقاومة، أي أنه كان مقاومة لحالة الضعف التي أتت إلى الريف بالاستعمار.
وفي سبتمبر 1924، نشبت معركتان في محيط مدينة تطوان، انتصر فيهما الريف مجددًا، ورجع الإسبان بعدها مرغمِين على التفاوض، ملوحين بحلٍّ وسط هذه المرة، مفاده احتفاظ إسبانيا بالساحل في مقابل أن يبقى الداخل ريفيًّا، فكان رد الريفيين على ذلك العرض قاطعًا بأن «الثوار في موقع الغلبة، وإسبانيا مغلوبة»، ولهذا فعلى المغلوب أن يدفع تعويضات مادية ويقبل باستقلال الريف. رفضت إسبانيا، وعادت البندقية حلًّا وحيدًا لأهل الريف.
رضخ الأمير لضغط المستعمِر، فاديًا الريف بنفسه وحريته، فنُفي إلى جزيرة لارينيون.
بدأت جيوش الثوار في التوسع جنوبًا مطلع سنة 1925، بالغين تخوم فاس العاصمة آنذاك، غير أن خطوة كهذه كانت سببًا لإدخال فرنسا في النزاع، إذ شنّت المقاومة الريفية هجمة أولى على الجيش كبدته آلاف الخسائر في الأرواح، وانقلب تكتيك جيش التحرير الريفي بعدها إلى المعارك الطويلة، وحصار مراكز العدو الكبيرة كتطوان شمالًا وتازة جنوبًا، ما دفع فرنسا وإسبانيا إلى الاتفاق على شن هجمات موحدة لصد هذا التهديد القائم، وكذلك إقحام بريطانيا كحليف لهما في الصراع، مقابل تخلي فرنسا عن أراضيها في العراق لصالح المملكة المتحدة.
كان مؤتمر وجدة في نفس السنة للصلح بين الريف ومحاربيه، غير أن ذلك لم يحدث كما أراد المستعمر، الذي عرض على الريف الشروط التالية مقابل وقف إطلاق النار:
- ضمان الحرية التامة في الشؤون الزراعية والاقتصادية لمولاي محند وأهل الريف، تحت سيادة سلطان المغرب (تحت الحماية آنذاك)
- تسليم السلاح مع الاحتفاظ بكمية قليلة منه
لكن ذلك قوبل بالرفض القاطع من جانب الوفد الريفي، فدخل الصراع المسلح منعطفًا آخر.
بعد تشكيل الإسبان والفرنسيين غرفة عمليات موحدة، ستجتاح قواتهم جزءًا من الريف الأوسط، وسيبدأ التقدم الثاني للقوات الغازية شرقًا، من مليلية المحتلة إلى جبل الناظور، وعبر الشمال من ساحل الحسيمة إلى العاصمة أجدير، تحت غطاء قوي للبحرية وسلاح الجو، واستعملوا أسلحة كيماوية لا يزال أهل الريف يعانون إلى الآن تبعاتها الصحية، فالريف أكثر منطقة في المغرب تتفشى فيها السرطانات والأمراض الفتاكة.
أمام هذا الوضع الخطير لم يجد الأمير محند بن عبد الكريم الخطابي من بُدٍّ لاستمرار تعنته، لذلك سيرضخ لضغط المستعمِر، فاديًا الريف بنفسه وحريته. ستُحَل الجمهورية، ويُنفى الأمير إلى جزيرة لارينيون الفرنسية في المحيط الهندي.
بعدها بعشرين عامًا، سيستغل الخطابي مرور السفينة التي كانت ستقله إلى فرنسا بمدينة بورسعيد المصرية، التي سيطلب فيها اللجوء السياسي. وسيستمر مقامه في القاهرة، التي ستنطلق منها مسيرة نضاله السياسي التحرري على رأس لجنة المغرب العربي التابعة للجامعة العربية، وسيصبح مزار العديد من الشخصيات التحررية العالمية، ومنارةً لها.
اقرأ أيضًا: أمازيغ في منطقة صارت عربية: صراعات الهوية واللغة والدين
المرأة: سلاح الريف على الجهتين
ظهرت النساء في هجوم الريفيين على العدو في معركة تيفاوين، يشتركن في القتال ويشجعن الرجال على الحرب.
كان للمرأة دور كبير في مقاومة المستعمِر، وأبانت بسالتها في أكثر من موقعة.
يروي المؤرخ الإسباني «خوان باندو» عن إحدى المعارك قائلًا: «وهكذا، راح الإسبان ضحية مذبحة منظمة، فلاحت من بعيد كوكبة من النساء الريفيات وقد أتين من المداشر المجاورة ليشاركن في هذه المذبحة الشرسة، مدفوعات بأحقاد قديمة ودفينة، ورغبة في الأخذ بالثأر سريعًا. كُنّ يُجْهِزن على الجرحى بالسكاكين والهراوات وبالأيدي كذلك، ويرشقونهم بالحجارة. يسخرن منهم ويُذلِلنهم، كما كان الحال مع القائد سباتي، الذي أُسيئت معاملته من طرف النساء الريفيات».
ويروي مولاي محند في مذكراته عن معركة تيفاوين أنه «في 25 منه [مايو 1925]، اشتبك الفريقان على أبواب تيفارين، وهجم الريفيون على العدو بالمُدِيّ والهراوات، وظهرت النساء بين صفوفهم يشتركن في القتال ويشجعن الرجال على الحرب بالزغاريد، وكانت الطائرات والمدفعيات والبوارج الإسبانية تطلق قنابلها من الحسيمة».
تنوعت مهام المرأة، فعملت كمراسلة بين القيادات، أو ما بات يُعرف الآن بضابط الاتصالات الحربية، وحاربت في المواجهات المباشرة مع العدو، وكذلك نفذت عمليات نوعية، كما هو الحال بالنسبة إلى سيدة الحراز، التي أوكلت إليها مهمة اغتيال ضابط إسباني.
لم يكن دور النساء خلال حرب التحرير الدائرة ميدانيًّا فقط، بل كان لهن الدور الأساسي في التربية وتنشئة المجتمع. وفي هذا الصدد، يخبرنا الباحث المغربي محمد أسويق، في كتاب «الشعر الأمازيغي القديم: جمالية البلاغة وسؤال الهوية»، أن المرأة الريفية دأبت على نَظْمِ القصائد، أو ما يسمى بالأمازيغية «إيزران»، وكانت كلها أشعار ترفض الاستعمار ببشاعته وشراسته، لتظل المقاومة الثقافية حاضرة بجانب المقاومة المسلحة عبر مختلف المحطات التاريخية.
هذه الأشعار هي التي أرّخت للمعارك والبطولات التي تُحرَم من الذكر في المقررات الدراسي وصفحات التاريخ الرسمي، وهي الوحيدة التي حاولت أن تكرم الشهداء وتذكر محاسنهم، وتحتفظ بهم كبريق للريف المجيد.
الريف قبل الحرب وبعدها
حفظت ذاكرة الريف صورًا شنيعة عن علاقتها بالسلطة المركزية في المغرب، صورًا لم تكن وليدة انفصال تاريخي، ولم تعنِ، لا قبل الحماية ولا بعدها، وجود قطيعة نهائية بين الجانبين.
هذا ما تبينه أكثر تركيبة المجتمع الريفي، الذي يعتمد في تنظيم نفسه على تراتبية أصيلة، إذا لم نَقُل بدائية بلغة الأنثروبولوجيا، إذ كانت القبيلة هي البنية المنظِّمة الكبرى لعموم سكان هذه المنطقة وحاضرة بجلاء، تتفرع إلى فخدات، والفخدة تنقسم إلى أُسَر، والأسرة في حقبة كتلك كانت أوسع، على المستوى الديموغرافي أو العلاقاتي، من شكلها النووي الحديث.
كان لكل أسرة وفخدة وقبيلة مجال وجودها الجغرافي الخاص، الذي تنظم فيه حياتها اليومية بطريقة تراتبية على شكل مجالس عشائرية، فتكُون «الجْماعة» (بتسكين الجيم) هي المجلس المنظم لشؤون كل أسرة، ويكون لمشايخ الجْماعات مجلس لتنظيم شؤون الفخدة، وعلى نفس المنوال بالنسبة إلى القبيلة والقبائل في ما بينها. بينما كانت مِلكيات الأراضي صغيرة ومتفرقة بين السهول ومنحدرات الجبال.
كانت حرب الريف فاصلة بين ما سبق وما سَيَلي من تاريخ المنطقة، وذلك للرجّة المفاهيمية التي أحدثتها.
في السوق أيضا تُقضى مآرب أخرى، فيتحول بذلك إلى حدث اجتماعي إلى جانب غرضه التجاري، فهو موعد إبرام كل العقود من كل الأنواع، واجتماع شيوخ الجْماعات، وتقسيم الأشغال على الأرض في ما يسمى «طقس التويزة»، وتنظيم مواقيت الري والرعي.
ورغم وجود المِلكية الخاصة، تنتفي الإقطاعية بشكل شبه تام في الريف، ويغيب الاستفراد بالقرار والشطط في التسلط.
ومَرَدُّ ذلك، كما يوضح لنا «جيرمان عياش» في كتابه «أصول حرب الريف»، إلى ضيق الأراضي المملوكة، شبه الاشتراكية عندما يتعلق الأمر بالعمل عليها. ففي الريف، كل فرد واختصاص عمله، ويحل التعاون محل الاستعباد الفيودالي، كما كان الحال في أوروبا القديمة. أما على مستوى القرارات، فكانت تسود ديمقراطية المُلاك الصغار، وكانت ديمقراطية عامة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن عَوْزَ المِلكية لم يكن ذا وجود كبير.
في هذه الصورة كانت حرب الريف فاصلة بين ما سبق وما سَيَلي من تاريخ المنطقة، وذلك للرجّة المفاهيمية التي أحدثتها كنزعة وحدوية داخل معركة التحرر، أي توحيد القبائل في قضية واحدة، وكانتقال تطوري في آليات التنظيم السياسية داخل المجتمع، أي من منظومة القبيلة إلى منظومة الدولة. وبالتالي، يمكننا التمييز بين سياقين تاريخيين مختلفين:
- سياق القبيلة: نووي مفكك، يحتكم إلى العُرف، وتحركه مصلحة جماعية حدودها الانتماء القَبَلي
- سياق الوطن/الدولة: مُركّب داخل وحدة سياسية جامعة، محايد من الناحية القَبَلية، يؤطِّره القانون وتحركه المصلحة العليا للوطن
كان لحالة المقاومة أن أورثت الريف كثيرًا من مميزاته الاجتماعية الراسخة إلى الآن، التي تُعَد الشخصية المقاومة والرافضة لكل قيد أحد أهم موروثاتها، لدرجة تسربت بها إلى الوعي الشعبي والخطاب المتداول. مثالنا على ذلك المقولة الشعبية القائلة، بالأمازيغية بطبيعة الحال، أن «شعب الريف مجبول على المقاومة رجالًا ونساء». زِد على ذلك، الارتباط الشوفيني العميق لإنسان الريف بهويته الثقافية الحضارية، ومقوماتها كلغة «تاريفيت» وتقاليد أهل المنطقة.
أدخلت ملحمة المقاومة الريفية رمزيات جديدة إلى هوية الشعب هناك، كرمزية البطل المحرِّر وقدسيته، وانتظار انبلاجِه من رماد التاريخ، بشكل يشبه إلى حد ما «الانتظارية المهدوية» عند الشيعة الإثنى عشرية، ما جعلهم يتكتلون في الأحداث الأخيرة حول شخص ناصر الزفزافي.
اقرأ أيضًا: حراك الريف: القشة التي قد تقصم ظهر الحكومة المغربية
أما من الناحية الأيديولوجية، فيمكننا أن نركِّب من حال أهل الريف خارطةً لتوجهاتهم الفكرية، ونلاحظ أن مجموع القناعات موحد في الدفاع عن الخصوصية الأمازيغية ضد العروبية، ومنقسم إلى تيارين:
- قومي إسلامي، في غالبيته سلفي يدعو إلى الإسلام القويم ويعارض الصوفية
- قومي حداثي علماني، ماركسي أو ليبرالي، معارض للعقلية التراثية الدينية
معطياتٌ كهذه يؤكد كثير منها مواقف الأمير عبد الكريم الخطابي، الذي كان مولعًا بالتجربة الأتاتوركية في شِقها المدافع ببسالة عن هوية الأتراك، وكذلك في معارضته للزوايا، التي أسلفنا الحديث عن موقفها الزئبقي البراغماتي وسط تطاحن القوى والسلطات في المغرب، ودورها الرجعي الموسوم بخذلان الشعب إبان فترة الاستعمار، وموقفه من ظروف استقلال المغرب، القضية التي جعلته يرفض الرجوع إليه حيًّا كان أو ميتًا.
في ما بعد الاستقلال، كان الريف على الدوام منطقة غليان في المغرب، لِما في ذاكرته من إرهاصات سليلة فترة الجمهورية، التي لا دليل تاريخي ملموس على كونها انفصالية، في حين أن في أثر قائدها ما يُحيل إلى أنها كانت مرحلية في إطار استكمال المغرب حريته، وما وَسَم العقلية السائدة في الريف من سمات الشوفينية والعِناد المقاوم. هذا ما جعل الريف منذ فجر الاستقلال مسرحًا لكثير من الانتفاضات والمواجهات الدموية، كان آخرها قبل شهور من العام 2017، في ما بات يُعرف بحراك الريف.
سفيان البالي