هاشتاغ MeToo: هل كان هذا هو النصر النسوي الكبير حقًّا؟
دفعةً واحدة، خرجت كل القصص من الغرف المغلقة ومن الذاكرة البعيدة والمؤلمة إلى العلن. آلاف الشهادات لنساء تعرضن للتحرش الجنسي طفت على السطح بعد نشر صحيفة «نيويورك تايمز» ومجلة «النيويوركر» تحقيقيهما الشهيرين، اللذين تضمنا شهادات لممثلات كشفن لأول مرة كيف تحرش بهن أشهر منتجي هوليوود: «هارفي واينستين».
فنانات شهيرات استعدن تفاصيل مؤلمة لتحرش لفظي أو جسدي أو اغتصاب، تفاصيل تشبه تلك التي تعيشها كل النساء في دول العالم كل يوم. فقيرات ومهمَّشات أو شهيرات وثريات، ذلك الخوف ورعشة الرعب هما هما. ثم انفجر الإعلام ومواقع التواصل، وتوالت الشهادات للنساء من كل أنحاء العالم. انتفضت حركة «MeToo»، التي تأسست في 2006، وبدا أن العالم يتغير.
الحراك النسوي الأكثر راديكالية منذ قرن تقريبًا أسهم في سقوط المتحرشين. واحدًا تلو الآخر، تصدرت أسماؤهم عناوين الصحف، خسروا وظائفهم، رُفعت ضدهم دعاوى قضائية، شُهِّر بهم: «هارفين واينستين» و«إيدي بيرغانزا» و«لويس سي كي» و«بينجامين جينوكيو» و«جِف هوفر» و«آندي ديك» و«كيفين سبيسي». نار جهنم فُتِحَت، وبدا أن أحدًا لن يكون قادرًا على إخمادها. لم يعد واينستين سوى رمز يخفي خلفه آلاف المتحرشين، ومنظومة ذكورية كاملة تحكم هوليوود، تحكم العالم.
لكن هل كان هذا هو النصر النسوي الكبير؟
لنعد قليلًا إلى البدايات
شهادات الضحايا جعلت شرعية حركة #أنا_أيضًا غير قابلة للنقاش، وأي مراجعة لها تعاطفًا مع المتحرش.
عام انقضى على فضح هارفي واينستين، وكل يوم تقريبًا مر منذ أكتوبر 2017 شهد سقوط متحرش جديد. غالبية هؤلاء من الفنانين والصحفيين والإعلاميين والسياسيين. حكايات سهلة وبسيطة بتركيبة شعبية: رجل شهير يتمتع بالسلطة والمال، يتحرش بفتاة أقل شهرة منه أو تشغل مرتبة وظيفية أدنى. الصورة المثالية والتقليدية للجلاد والضحية، لكن الأخيرة فهمت أن مغازلتها في مكان العمل بغير رضاها «تحرش»، ومطالبتها بمقابل جنسي لأي خدمة وظيفية «تحرش»، ولمس جسدها عنوة أو حتى تحت تأثير الخوف أيضًا «تحرش».
لعل هذا كان المكسب الأول للحراك. المكسب الثاني كان سقوط حاجز الخوف، الخوف من الحديث بمباشرة فجة عن لمس الأعضاء الحميمة لدى النساء، عن الاستمناء أمامهن، عن ولوجهن غصبًا. أما المكسب الثالث فكان كسر الهالة المحيطة بالرجل، الرجل بحد ذاته ككائن أكثر قوة من المرأة، حجمًا ومكانة وسلطة، وككائن قادر على التحرش أو الاغتصاب أو السيطرة دون أن يتعرض للعقاب، ما دامت المنظومة تحميه وتبرر له جرائمه علنًا وفي السر.
كل ما جاء بعد ذلك كان تفاصيل إضافية. الحكايات والشهادات على اختلافها وفظاعتها شكَّلت ملامح مرحلة تاريخية جديدة في التعامل مع النساء، مع سلطتهن الوحيدة والكاملة على أجسادهن. ما كان يُعد كلامًا شخصيًّا وخاصًّا ذاب في الفضاء العام وتحول إلى نقاش عالمي.
قد يهمك أيضًا: #أنا_أيضًا: وماذا بعد الاعتراف؟
سار الحراك كله بشكل تصاعدي إيجابي في أشهر معدودة. فظاعة جرائم التحرش وشهادات الناجيات جعلت شرعية حركة «MeToo» غير قابلة للنقاش، وأي مراجعة لها تعاطفًا مع المتحرش/المجرم، وتقليلًا من مأساة الضحية. وبشكل تلقائي، بدا أنها حركة لآلاف النساء اللاتي يقفن في وجه الرجال. اصطفاف مبرر، وإن كان غير علمي، في ظل تراكم الظلم الاجتماعي والتمييز الجندري الذي ارتبط بالنساء عبر أجيال.
من هنا تحديدًا بدأت أصوات أخرى تعلو. أصوات قليلة، لكن مختلفة، تدعو إلى إعادة التفكير في المفاهيم التي تطرحها حركة «أنا أيضًا»، وآلية عملها والأهداف التي تريد تحقيقها. بدأت تبرز أسئلة أكثر شجاعة عن إعادة تعريف التحرش الجنسي، عن توسع الحركة لتشمل الرجال والنساء، عن خطاب الحركة الذي بدأ يجنح تدريجيًّا نحو خطاب قمعي يتهم بالخيانة كلَّ مَن يناقش أي شهادة من شهادات الضحايا. يمكن هنا الرجوع إلى قضية الممثل عزيز أنصاري.
لكن كل هذه النقاشات بقيت خافتة نسبيًّا حتى أغسطس 2018، حين برزت اتهامات بالتحرش الجنسي ضد رمزين نسويين: الممثلة الإيطالية «آسيا أرجنتو»، والفيلسوفة الأمريكية في جامعة نيويورك «أفيتال رونيل»، من شابَّيْن أصغر منهما سنًّا.
من المفيد التذكير بأن آسيا أرجنتو واحدة من وجوه «أنا أيضًا» الأساسية، إذ كانت بين الممثلات الأكثر شجاعةً في وصف تعرضها للتحرش من هارفي واينستين. ولا تزال الكلمة التي ألقتها في مهرجان كان الفرنسي في دورة 2018 يتردد أثرها حتى الساعة. يومها، وقفت بشجاعة موجهة كلامها إلى واينستين وكل متحرش: «لن نسمح لكم بالهروب من أفعالكم بسهولة».
آسيا نفسها متَّهمة اليوم بالتحرش والتعدي الجنسي على الممثل والموسيقي «جيمي بينيت» عام 2013، عندما كان قاصرًا: «أعطتني في البداية الكحول لأشرب، ثم أظهرت سلسلة ملاحظات كتبتها لي على أوراق، ثم قبَّلتني ودفعتني على السرير، وخلعت عني سروالي الداخلي، ومارست الجنس الفموي. بعدها نامت فوقي وحصل الجماع بيننا». هكذا تقول رواية بينيت التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز».
آسيا نفت التهمة وأكدت أنها لم تتحرش بجيمي. هذه هي النسخة البسيطة للقضية.
القصة الثانية وقعت مع أفيتال رونيل، البروفيسورة والفيلسوفة الشهيرة، المثلية جنسيًّا، التي تجاوزت الستين من عمرها. قضيتها المعقدة جدًّا تتلخص في أن أحد طلبة الدكتوراه الذين كانت تُشرف على أطروحتهم، يُدعى «نيمرود ريتمان»، اتهمها بالتحرش الجنسي. بعد تحقيق استمر 11 شهرًا في جامعة نيويورك، أوقفت أفيتال عن العمل لمدة عام كامل دون راتب. هذه أيضًا النسخة البسيطة للقضية.
اتهامان لسيدتين من أصل آلاف التهم الموجهة إلى رجال، فهل إعادة النظر الآن في حركة «أنا أيضًا» لا يزال مبكرًا؟ أو: هل المقارنة جائرة أصلًا؟
كلا، كل التفاصيل مهمة. للمرة الأولى منذ 10 أشهر تبدأ مقاربة تعقيدات هذه الحركة النسوية بشكل علني، وإن كان مؤلمًا. من المهم أن المتهمتين نسويتان، ومن المهم أيضًا أنهما متهمتان بالاعتداء الجنسي على شابين أصغر منهما، ومن المهم كذلك أنهما تحدثتا في وقت سابق عن التحرش الجنسي ووقفتا في وجه المتحرشين. كل ذلك مهم في مقاربة قضايا التحرش الجنسي، وفي فتح مساحة نقاش بعيدًا عن التخوين والتهديد والهجوم. لكن المهم أيضًا، انطلاقًا من هاتين القضيتين، إعادة تعريف المفهوم العام للتحرش الجنسي.
هناك أنواع أخرى من التحرش، مختلفة عن تحرش الرجال المباشر المبني أساسًا على الجنس، لكنها تحرش كذلك.
لماذا تتحرش بروفيسورة مثلية بأحد طلابها، وهو طالب مثلي كذلك؟ وما الفاصل الحقيقي بين التحرش الجنسي والفعل الجنسي؟ وما أهمية الجنس فعليًّا في التحرش الجنسي، أو التحرش بشكل عام، كوسيلة لإعلان السيطرة على الآخر؟
في تحقيق لمجلة «النيويوركر»، نشرت الكاتبة «ماشا جيسين» مجموعة مراسلات بينها وبين طلاب وأساتذة وأصدقاء محيطين بأفيتال رونيل في جامعة نيويورك، من بينها رسالة لسيدة متحولة جنسيًّا تُدعى «أندريا لونغ شو»، عملت لمدة فصل جامعي واحد أستاذة مساعدة لرونيل.
تشرح أندريا شخصية أفيتال، وتؤكد أنها لا تملك معطيات حول تحرشها الجنسي بأي طالب. لكنها تعرف أن شخصيتها مضطربة، وأنها «تعاني من عقدة الاضطهاد، وترى أنه من واجب الآخرين دفع ثمن هذا الاضطهاد وحمايتها منه».
في التحقيق نفسه، نجد استعادة لمنشور مجهول الهوية على فيسبوك يطرح قضية رونيل من جانب آخر: «استعباد الآخرين، تدميرهم وتدمير مستقبلهم، تحطيم شخصيتهم».
إنه تحرش آخر، مختلف عن تحرش الرجال المباشر المبني أساسًا على الجنس، لكنه تحرش. استعطاف الطالب (الآخر) والسيطرة عليه والتحكم في مشاعره وحياته ومستقبله، كل هذا تحرش، وكله في إطار العلاقة المرتبكة والمشاعر العاطفية، مع استغلال المتحرش لسلطته الكاملة على الضحية نتيجة فارق السن والمرتبة الاجتماعية.
اقرأ أيضًا: «صيد المتحرشين»: هل تمتلك النساء حق الشكوى حقًّا؟
أما القضية الأخرى، قضية آسيا أرجنتو، فتبدو أكثر مباشرةً وتقليدية: لقد أَجبرت الشاب على ممارسة الجنس معها، ثم أعطته نقودًا ليسكت، وبعد تسريب الاتهام نفت التهمة. إنه «ديجا فو» ذكوري بكل تفاصيله، قصة تشبه كل قضايا التحرش السابقة التي كان أبطالها رجالًا، مع إضافة أمر يعطي القضية كثيرًا من الإثارة: علاقة آسيا بحركة «أنا أيضًا»، وأنها كانت مع صديقتها «روز ماكغوين» أبرز صوتين يطالبان بتصديق روايات ضحايا التحرش دون طرح أسئلة.
من السذاجة أن نساوي بين التحرش الذي تتعرض له النساء بحجمه وتأثيره النفسي، والتحرش الذي يتعرض له الرجال من النساء.
طيِّب، تبين أن النساء كالرجال تمامًا، يتمتعون بمقدار عظيم من الخبث والكذب، وأن الجنسين قادران على التحرش، وقد يكونان ضحايا لمجرم متحرش.
النِّسَب طبعًا ليست متساوية، ومن السذاجة والظلم أن نساوي بين التحرش الذي تتعرض له النساء من الرجال، بحجمه وتأثيره النفسي والحياتي، والتحرش الذي يتعرض له الرجال من النساء.
لكنه موجود، موجود ليثبت أن موضوع التحرش الجنسي كله، كملف واحد، أكثر تعقيدًا من التسطيح الذي عاشه العالم منذ انكشاف قضية هارفي واينستين، ومن الخطابات الشعبوية. منظومة السلطة والقوة هي التي تعطي هامشًا واسعًا للمتحرش ليمارس جريمته لسنوات، وتعطيه أيضًا صلاحية رشوة الضحية ليتستر على الجريمة. هذه السلطة والقوة قد تكون بيد الرجل في غالبية الأحيان، أو في يد المرأة في بعض الأحيان.
المراجعة التي بدأت تحصل لحركة «MeToo» توصلنا إلى النتيجة الأخيرة: العقاب.
مَن يُفترض به أن يصدر الحكم على المتحرش؟ ومن ينفذ التحقيقات؟ هل هي المؤسسات الخاصة كما في حالة جامعة نيويورك، أم القضاء الرسمي؟ وهل تحقيقات المؤسسات الخاصة (التي ينتمي إليها المتحرش وظيفيًّا أو أكاديميًّا) تهدف فعليًّا إلى معاقبة المتحرش، أم فقط حماية اسم المؤسسة نفسها، ومنع القضية من الوصول إلى القضاء الرسمي؟ هل التشهير هو الحد الأقصى الذي يطمح إليه ضحايا التحرش؟
التحرش جريمة. كل عرض أو كلام أو فعل جنسي لا يحصل على رضا الطرف الآخر تحرش. هذه بدهيَّات بسيطة لا تحتاج إلى إعادة تعريف، بل إلى تعميم وردع وعقاب.
لكن للأسف، إلى جانب البدهيات هناك تفاصيل أكثر تعقيدًا: لا توجد ضحية مثالية، ولا يوجد جلاد مثالي. الضحية ذاتها قد تكون جلادًا، والجلاد قد يتحول إلى ضحية. الجريمة نفسها هامشها أوسع من الشكل التقليدي للتحرش. كلها تحديات أمام حركة «MeToo»، التي نجحت في قولبة الكوكب، وجعلت للنساء في جميع أنحاء العالم صوتًا، وللمتحرش وصمة تلاحقه. آلاف الشهادات وثَّقتها الحركة، وكل ضحية بطلة في هذا الحراك النسوي، بعيدًا عن أسماء طنانة مثل آسيا أرجنتو أو غيرها، وإن بقيت أرجنتو، رغم اتهامها الأخير، ضحية تحرش جنسي من واينستين.
عام مر على التغيير العالمي الكبير. عام فقط، ما زلنا في البداية.
ليال حداد