هل طغت مباني مكة الشاهقة على التجربة الروحية فيها؟
وراء زجاج إحدى غرف مجمع أبراج «آل البيت» في السعودية، قد يكون هنالك حاجٌّ يصلي جماعةً مع المصلين في ساحة الحرم المكي، دون أن يضطر إلى الاحتكاك بهؤلاء المتكدسين حول الكعبة، مُتمتعًا بالفتوى التي تُبيح له ذلك، ومُستمتعًا برؤية واضحة للكعبة، على عكس مَن سيضطرون إلى الصلاة في الساحات الخارجية بسبب الازدحام.
يضم ذلك الزحام كثيرًا ممَّن يأتون من أطراف مكة، حيث الفنادق الرخيصة، ليؤدون مناسكهم، حتى أن بعضهم يقضي اليوم بجوار الحرم دون أن يكون هناك داعٍ لذلك، فقط كي يتجنب المشوار الطويل ذهابًا وإيابًا. لو رفع أحدهم رأسه لرأى تلك الأبراج العالية الدخيلة على المشهد المُقدس، التي قد يُخيل إليه من طولها أنها على وشك أن تجثم على أنفاس الحجاج.
كل عام، تنقل قنوات التليفزيون في بثٍّ متواصل الحدث الإسلامي الأهم: الكعبة ومِن حولها الحجاج، كلٌّ منهم يرتدي زي الإحرام، لا تستطيع تمييزهم عن بعضهم وهم يؤدون المناسك التي من المُفترض أن تكون مؤتمرًا سنويًّا للمساواة، إلا أن المساواة تصير خرافة حين نقارن الحاج الذي يبيت إلى جوار «المسجد الحرام» بذلك الذي يؤجر مكانًا بالقرب من ساعة مكة التي تعلو «أبراج البيت»، ويدفع ما بين 1800 و4700 دولار لليلة واحدة، وفقًا لصحيفة «الغارديان» وموقع فندق «فيرمونت» أبراج الساعة.
تطل مجموعة الفنادق تلك على الكعبة من فوق السحاب، وبينها ثالث أطول أبراج العالم، ويمكن رؤيتها من بُعد 30 كيلومترًا، وهي فخر مكة الذي كلفها 15 مليار دولار، لكن «وقف الحرمين الشريفين»، الجهة الحكومية الممولة لمشروع «أبراج البيت»، نجح أن يجعلها سببًا لدخول الطبقية إلى الحج والعمرة، وبيت الله الذي كان أكبر ما في تلك المدينة بات مع مرور الوقت أصغر ما فيها حجمًا، فهل أصبح جَنْي المال في مكة أهم من المقدسات الدينية؟
مدينة الإسلام على أنقاض تراث المسلمين
تبرر السعودية توسعات الحرم بأنها ضرورية لاستيعاب أعداد الحجاج المتزايدة عامًا بعد عام.
المدينة المقدسة التي يشبِّهها كثيرون مؤخرًا بمدينة الخطيئة، لاس فيغاس، فقدت الكثير من تراثها الإسلامي المعماري، بدءًا بالمنزل الذي وُلد فيه النبي مُحمد الذي تحول إلى مكتبة مكة المكرمة، مرورًا بمنزل السيدة خديجة زوجته الذي هُدم ليُقام مكانه حمامات عامة، ومنزل أبي بكر الصديق الذي بُني على أنقاضه فندق هيلتون، ومن الحِقبة العثمانية هُدمت قلعة أجياد وقام مقامها برج الساعة، الأمر الذي تسبب في توتر بين تركيا والسعودية، بعد أن أعلنت الأولى اعتراضها على هدم أثر ينتمي إلى الدولة العثمانية.
بشكلٍ عام، ينقل موقع «ذي أتلانتك» عن معهد شؤون الخليج في واشنطن أن 95% من مباني مكة القديمة هُدمت في العقدين الماضيين برعاية شيوخ الوهابية، الذين يرفضون وجود مثل هذه الأبنية خوفًا من أن تؤدي إلى الشرك بالله، وهو الهاجس الذي دفع ابن عثيمين، أحد أهم شيوخ الوهابية، إلى أن يتمني هدم القبة الخضراء التي تعلو قبور النبي محمد وصاحبيه أبي بكر وعمر في المدينة.
على الجانب الآخر، تدافع السعودية عن نفسها لتبرير أعمال الهدم والتوسع المتزايدة بالقرب من الحرم بأنها ضرورية لاستيعاب أعداد الحجاج المتزايدة عامًا بعد عام، وأنه على خادم الحرمين الشريفين أن يسعى في خدمة الحجاج والمعتمرين القادمين إليهما.
هذا صحيح رقميًّا، فتوسعات الحرم مستمرة منذ حُكم الملك عبد العزيز إلى وقتنا الحالي، وتهدف المشاريع الحالية إلى أن تستوعب ساحات الحرم سبعة ملايين مصلٍّ عام 2040 بدلًا من نحو ثلاثة مليون حاليًّا، لكن هل زيادة الطاقة الاستيعابية للحرم هي السبب الحقيقي والمباشر للتوسعات؟
اقرأ أيضًا: كيف تهيمن ماكينزي على صناعة القرار داخل السعودية؟
الطريق من الروحانية إلى الرأسمالية يمر عبر مكة
يذكر المعماري والأكاديمي المصري علي عبد الرؤوف، في كتابه «من مكة إلى لاس فيغاس»، أن السلطات السعودية كانت على قدر عالٍ من الحساسية في التعامل مع الحرمين المكي والنبوي حتى نهاية سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، وحافظت مشروعاتها خلال تلك الفترة على التوازن المطلوب بين الحداثة والأصالة في الطابع المحلي، والمساواة بين المستفيدين منها، مثل مدن الحجيج وصالة الحج في مطار الملك عبد العزيز الدولي.
استمر ذلك الحرص في عهد الملك فهد، الذي كانت توسعاته قفزة نوعية وكَمَّية، لزيادة الطاقة الاستيعابية للحرم مع الحفاظ على التجربة الروحانية والإنسانية فيه.
بعدها فقد السعوديون مع الوقت حساسيتهم تجاه الحرمين، فالدراسات التي أعدتها مكاتب استشارية دولية بين عامي 1985 و2000 لتطوير مكة، كانت تلتزم بالعلاقة البصرية بين «المسجد الحرام» والمناطق المحيطة به، إلا أن السلطات السعودية لم تكن حريصة على مقاومة الأفكار التنموية الربحية السريعة، وأسقطت الأبعاد الروحانية من المعادلة.
هذا الموقف يمكن تلخيصه في إجابة حبيب بن مصطفى زين العابدين، وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية، حين سُئل عن هدم المعالم الأثرية الإسلامية في مكة، وكان رده أن «الحج فرصة طيبة لزيارة مكة والمدينة، والتسوق، وقضاء إجازة سعيدة».
يُمكن رؤية إجابة زين العابدين في ضوء الدخل الذي تحققه السعودية من السياحة، المعتمدة بشكل أساسي على المزارات الدينية حتى هذه اللحظة.
وفقًا لمنظمة السياحة العالمية، حققت السعودية المركز الثامن عشر ضمن الدول الأكثر زيارةً على مستوى العالم في 2014، وجنت من هذه الزيارات 8.2 مليار دولار في نفس العام، مع وجود تضارب بين أرقام تقارير المنظمة، التي قدَّرت دخل السعودية من السياحة ككل عام 2012 بـ7.4 مليار دولار، وتقارير أخرى قدَّرت دخلها من السياحة الدينية في نفس العام بـ16.5 مليار دولار، لكن الرقم الأخير أكده المستشار الاقتصادي السعودي زيد الرماني لموقع «سي إن إن».
بعد الأزمة الاقتصادية التي مرت بها السعودية مع انخفاض أسعار النفط، بدأت في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز تبحث عن مصادر أخرى للدخل، كان من بينها السياحة الترفيهية، فكيف لا تستغل بلاد الحجاز ما تمتلكه بالفعل لتضخيم عائدها المادي؟ حتى لو استبدلت الذي هو محلات تجارية مثل «ماكدونالدز» و«ستاربكس» و«باريس هيلتون»، بالذي هو منزل ميلاد النبي وزوجته خديجة وصاحبه أبي بكر.
قد يعجبك أيضًا: هل تستطيع السياحة القضاء على الفقر؟
في صفحة مشروع «أبراج البيت» على موقع شركة «إعمار»، ستقرأ السطور التالية: «مجمع أبراج البيت، الذي يطاول أبنية العالم بأبراجه السبعة، يجاور الحرم الشريف ليشكل جزءًا من مشروع وقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين، إذ يجمع بين روعة البناء وكرم العطاء. صَرْحٌ أبدعه روَّاد التصميم المعماري، و يعتبر من أكبر المشاريع من حيث الكتلة البنائية».
«وعلى بعد أمتار من المسجد الحرام، وتحديدًا في برج ساعة مكة الذي يُعد الأطول بين أبراج البيت السبعة، تقع وحدات إعمار رزيدنسز بفيرمونت مكة بين الطابق 30 والطابق 41، ويصل طول برج ساعة مكة إلى 601 مترًا، وتتألق في أعلى قمته أكبر ساعة في العالم تُعلِم المسلمين بأوقات الصلاة، ويصل قطرها إلى 40 مترًا، ممَّا يشكل أضعاف ساعة «بيغ بن» في لندن.
«وإذا رغبت في الاطمئنان على أهلك وأحبائك خارج المملكة، فلديك هنا أحدث التقنيات لتبقى على اتصال دائم بهم. أما المركز التجاري فيقدم لك أرقى الأسماء والعلامات التجارية من خلال 600 متجر متنوع، فلن تحتار في شراء أجمل تذكار من هذه الأرض الطاهرة لكل من ينتظر عودتك».
هذا نص ترويجي لفندق «فيرمونت» أبراج مكة، ذُكرت فيه مميزات متعلقة بروحانية المكان مرتين: مجاوَرَة الفندق للحرم، والساعة التي تُعلِم الناس بمواقيت الصلاة (بافتراض أن هذا سبب بنائها بالفعل)، أما بقية المنشور فيدور حول التفاخر بضخامة المباني وبرج الساعة، وذِكر طولها وقطرها، وتعداد المحلات التي يمكنك أن تشتري منها هداياك المباركة من الأراضي المقدسة. رَبِحَ البيع والشراء، وخسرت التجربة الإيمانية.
مكة التي لم تعد تحب أهلها
عملية زرع وجه مكة بناطحات السحاب لم تقتصر على التخلص من المباني التراثية وحسب، إنما شملت إزالة العديد من بيوت أهل مكة، وقد رصدت السعودية 120 مليار ريال عام 2013 لتعويض مالكي 5700 عقار، بمتوسط 21 مليون ريال للعقار الواحد.
تتراوح أسعار الشقق في مكة بالقرب من الحرم بين 450 ألفًا وثلاثة ملايين ريال في حي أجياد، وفقًا للإعلانات المنشورة على موقع حراج للتجارة، ممَّا يعني أن هذه التعويضات ستكون مُرضية لأصحاب العقارات.
لكن بعض المتضررين تحدثوا إلى جريدة «الإندبندنت» دون كشف هوياتهم، ليعبروا عن استيائهم من الطريقة التي أُخليت بيها منازلهم: «لم تكن هنالك تحذيرات قبلها بوقت كافٍ، أتى شخص فجأة ليخبرنا أن منزلنا سيُهدم»، ولم يكن لأحد منهم حق الرفض.
لا تُهاجَم السعودية لمحاولتها تطوير المسجد الحرام، بل لإزالتها للتراث، والطريقة التي هدمت بها منازل أهل مكة.
الجانب السيئ من الموقف هو لجوء السلطات السعودية إلى التشويه كي تبرر أعمال إزالة بيوت أهل مكة، فاستخدمت مصطلح «العشوائيات»، وقالت إن بعض هذه الأحياء نشأ بـ«وضع اليد»، وأن كثرة الأحياء في مكة يرجع إلى زيادة أعداد بعض الجاليات المقيمة بصورة غير شرعية ومخالفة لنظام الإقامة، وأخيرًا أكدت أن 38% من إجمالي الحوادث الجنائية في مكة وقعت في تلك الأحياء العشوائية.
الآن، زوار مكة الجدد سيقيمون في فنادق فاخرة، بُنيت على أراضي أحياء كانت تسكنها جاليات أجنبية وأقليات من بنغلاديش وباكستان وغيرها، طُردوا من بيوتهم كي تربح المملكة مالًا أكثر في مواسم الحج.
العمارة المقدسة والمباني الدينية
بالطبع، لا تُهاجَم السعودية لمحاولتها تطوير وزيادة سعة «المسجد الحرام» لاستقبال عدد أكبر من الحجاج، بل لإزالتها التراث المعماري الإسلامي متمثلًا في البيوت القديمة، والطريقة التي هدمت بها بيوت أهل مكة التي تنتمي إلى هذا التراث، لتبني مكانها كُتلًا إسمنتية قبيحة وغريبة على المشهد الروحاني الذي يُفترض وجوده في هذه المدينة، في الوقت الذي كان من الممكن أن تبني فيها مبانٍ جديدة، ومقدسة كذلك.
لا يوجد خلط فيما كُتب، فوفقًا للمعماري علي عبد الرؤوف، يتسع مفهوم «العمارة المقدسة» ليشمل العمل المعماري الذي يحقق تكاملًا روحانيًّا وجماليًّا ووظيفيًّا، فوصف القداسة متجاوز للمباني الدينية، ويمكن إطلاقه على حارة ضيقة أو مبنى برلمان أو حتى مدينة كاملة، ويتحقق في بنية المعمار هندسيًّا، في الأبعاد والفراغات وتصميم الواجهات والمساقط، ويُمكن أن لا يوصف مبنى ديني بالقداسة، لأنه حتى لو كان قادرًا على استيعاب المصلين، فإنه لا يساعدهم بالضرورة نفسيًّا وحسيًّا على دخول الأجواء الروحانية الملائمة للعبادة.
تهتم العمارة الإسلامية في بناء مساجدها بخلق فراغ مفتوح يسمى «الساحة»، لتوفير مجال بصري يُعظِّم من قيمة المسجد ويطلق العنان للتجربة الروحانية في التعبد. يتضح ذلك في مسجد السلطان حسن والجامع الأزهر في القاهرة، والمسجد الأزرق في إسطنبول.
بالتالي، فبناء ناطحات سحاب في محيط الحرم المكي ينتزع منه بشكل أو بآخر جزءًا أصيلًا من قداسته المعمارية الإسلامية، حتى ولو التزمت هذه الناطحات بطراز مكي أو زُيِّنت بزخارف إسلامية. ناطحة سحاب وراء ناطحة سحاب وستفقد مكة البقية الباقية من قداستها، وتصبح مجرد أكبر مركز تجاري يقتصر جمهوره على المسلمين.
أسامة يوسف