انتفاضة مايو 1968: أخطر محاولة لتغيير العالم
50 عامًا مرت على أحداث مايو 1968 في فرنسا، التي كثيرًا ما توصف بأنها كانت مجرد «تمرد طلابي» قادته بطريقة مراهقة روح التمرد والعفوية لدى الشباب، وإلى جانبهم العمال الذين يطالبون بأجور أعلى وببعض الإصلاحات الإدارية.
لكن مايو 68 كانت أضخم وأهم من مجرد تمرد أو مَطالب برفع الأجور، وقد شهدت كذلك انضمام أبرز المثقفين والفنانين من أمثال «جان بول سارتر» و«سيمون دي بوفوار» و«جيل دولوز» و«جان لوك غودار» إلى صفوف الطلبة والعمال، ومَثَّلت احتجاجًا جذريًّا ضد سلطة «شارل ديغول» الأبوية والحزب الشيوعي على السواء، الرأسمالية والبيروقراطية الحزبية معًا، ضد المديرين والنقابيين، ضد مجتمع أفرغته السلع من القيمة وأماتت حيويته وواقعيته، ومن أجل عالم خالٍ من الاستلاب الرأسمالي عرفه الطلاب والعمال في الشوارع وأماكن العمل لأسابيع قليلة، وظنوه ممكنًا على الدوام.
كان حدثًا فارقًا لم تعد الرؤية القديمة للعالم قبله هي ذاتها بعده، وقد أعاد ابتكار الفلسفة، سواء تلك التي احتفظت بأدنى أمل واقعي أو نظري في إمكانية نقد لا يمكن للرأسمالية استعادته، أو تلك التي قضت على الثورة (في صورتها التقليدية المتخيلة على الأقل) بالموت في عالم معقد تحكمه السلعة، وفيض من ديناميات كثيفة ومتشابكة للسلطة تبتلع كل المحاولات ضدها، ذلك العالم الذي أسهمت مايو 68 تحديدًا في كشفه على «لاحقيقيته»، حيث «الواقع» المطلوب تغييره مُنعدِم.
البداية: اقتراح متواضع لعلاج البؤس
« أيها الصغار لا تصمتوا، تكلموا، قاوموا الكبار في العالم كله». الشاعر الياباني «سانكيشي توجي».
في عام 1966 أصدرت مجموعة من طلبة جامعة ستراسبورغ من أعضاء الاتحاد الوطني للطلاب الفرنسيين بيانًا حظي بانتشار واسع بعنوان «حول البؤس الطلابي، واقتراح متواضع لعلاجه»، استخدموا فيه تحليلًا يتعدى التحليل الماركسي الأرثوذكسي للأوضاع المجتمعية المتردية المُنتِجة للاغتراب والقلق، والتي ينعكس أثرها بشكل واضح على حال الطلبة، مُستلهمة فيه أفكار «الأممية المواقفية» حول «الاستعراض» باعتباره أحدث أشكال الرأسمالية، وأصعب مراحل الصراع الطبقي.
التكنولوجيا، رغم القفزات التي حققتها، لم تقلل ساعات العمل أو تخفف القلق بشأن الاكتفاء الذاتي، عكس ما كان يُنتظَر منها.
«الأممية المواقفية» حركة تأسست قبل ذلك ببضعة أعوام، طالبت بإنهاء الفصل الذي أحدثته السلعة بين المستهلك والواقع، بحيث تحولت العلاقات الاجتماعية إلى كتلة متشابكة من التمثيلات (الاستعراض) التي تقدمها السلع، بينما تتسبب تلك التمثيلات في إضفاء صفات السلعة نفسها على العلاقات الاجتماعية، وهي الخواء والتكافؤ، وفي إفراغ المواقف التي يحياها الإنسان بصورة يومية من القيمة والمعنى والمتعة.
تتحول المواقف إلى عمليات تمثيل لنماذج مُسبَقة تقدمها السلعة التي هي محكومة بالخواء، وبشح اللذة التي تَعِد السلعة بها، لكنها لا تشبعها لأنها في الوقت الذي تَعِد فيه بذلك لا تفعل غير أن تؤجل الوفاء بوعدها إلى لحظة أخرى، إلى سلعة جديدة أخرى، بحيث تضمن استمرارية الإنتاج الربحي الذي هو في المجمل الهدف الأول والأخير للمجتمع الرأسمالي، الذي يتسبب تحديثه المستمر في «بلترة» مزيد من الناس، أي تحويلهم إلى «بروليتاريا» (طبقة العمال)، بضمهم إلى صفوف المُستغَلين والمُستَلبين.
كان الفيلسوف الألماني المقيم في أمريكا «هربرت ماركوز» قد تحدث بالفعل عن طبقات/فئات جديدة ستشكل ماهية الصراع ضد الرأسمالية، وكان الطلبة في مقدمتها، وقد انتقد في كتابه «الإنسان ذو البعد الواحد» ما آلت إليه المجتمعات الصناعية الحديثة من اغتراب الإنسان (تحت حكم النظم الرأسمالية والشيوعية على السواء) باعتبار أن الإنتاج الحديث صارت مهمته خلق حاجات وهمية تعزز النزعة الاستهلاكية لدى الأفراد، الذين يتحولون شيئًا فشيئًا إلى عقول مُستَلبة تنحصر مهمتها في الإنتاج واستهلاك الحاجات الوهمية.
يرى ماركوز أن التكنولوجيا رغم القفزات التي حققتها لم تقلل من ساعات العمل، أو تخفف القلق بشأن الاكتفاء الذاتي، على عكس ما كان يُنتظَر منها، لكنها انقلبت ضد مهمتها، أي تحرير الشرط الإنساني، وعلمت على تقييده. الحل من وجهة نظره يتمثل في استعادتها باعتبارها أداة ثورية مهمة لصالح مجتمع تعزز فيه من حرية الإنسان وامتلاكه لاختياراته ووقته.
كانت كتابات ماركوز ذات تأثير كبير أيضًا على الحركة الطلابية في الولايات المتحدة، وامتد تأثيره إلى أوروبا وفرنسا، واحتلت أفكاره حيزًا مهمًّا من نقاشات الطلبة خلال أحداث مايو.
بصورة أعم، وطبقًا لرؤية المؤرخ البريطاني «دومينيك ساندبروك»، فإنه «بحلول ستينيات القرن العشرين كان لدينا لأول مرة شباب امتلكوا وعيًا خاصًّا مشتركًا بينهم كجيل واحد». وفي ظل الانتعاش الاقتصادي لعالم ما بعد الحرب العالمية في الغرب، والانتشار الواسع للتعليم الجامعي، بدأ الشباب «يدركون أنفسهم باستقلالية أكبر ضد معتقدات آبائهم وقيمهم»، وبالتالي كان ذلك من أهم أسباب انتشار الانتفاضات بشكل واسع وبصورة متزامنة في مدن مختلفة مع اختلاف الدوافع الأعمق لها بالطبع.
من بين دوافع الشباب للانتفاض كانت فيتنام المشتعلة تحت القصف الأمريكي، بينما المقاومة الفيتنامية آخذة بالصعود، يضاف إلى ذلك أثر الثورة الثقافية الصينية وماو، الذي كان صيته لامعًا في فرنسا، في إلهام الشباب حول العالم للتحرك ضد الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة على السواء، كذلك لم يكن قد مر على اغتيال أمريكا للمناضل الكوبي تشي جيفارا سوى بضعة أشهر. وعلى عكس كثيرين من رموز اليسار في ذلك الوقت كان الرجل خارج الصورة التقليدية للتقيُّد بهرمية السلطة أو بالنزعة البيروقراطية، وهو ما تلاءم مع نزعة الشباب الراديكالي المضادة للبيروقراطية.
هجوم شامل على المجتمع
«خلال أسبوع واحد ألقى ملايين الناس عن كاهلهم عبء الشروط المستلبة، وروتين البقاء، والتزييف الأيديولوجي، وعالم الاستعراض المقلوب. منح المهرجان أخيرًا إجازات حقيقية لأناس لم يعرفوا سوى أيام العمل وتصاريح الغياب، ذاب الهرم الهيراركى مثل كومة سكر تحت شمس مايو، كانت الشوارع تخص أولئك الذين يحفرونها». «الحياة اليومية، وقد أعيد اكتشافها فجأة، أصبحت مركز كل الغزوات الممكنة، أعلن الناس الذين قضوا كل حياتهم في المكاتب أنهم لم يعودوا يستطيعون العيش بالطريقة التي كانوا يحيون بها». «رينيه فينيت».
في 22 مارس 1968 احتل مئات الطلبة المبنى الإداري لجامعة نانتير احتجاجًا على القمع الذي تعرضت له مسيرة في باريس مناهضة لحرب فيتنام اعتُقِل خلالها عدد من الطلبة. بدأت احتجاجات نانتير قبل ذلك، وكانت ضد القيود المفروضة على حق استقبال الزائرين في السكن الجامعي، لكنها تصاعدت بعد هذه الحادثة.
خلال اجتماع الطلاب بمبنى الإدارة أداروا نقاشًا حول الحرب، وحول حكومة الجنرال ديغول التي كانت بصدد إجراء تعديلات على نظام التعليم تحد من عدد الملتحقين بالجامعات، وعن التحالف الأخير بين الحزبين الشيوعي والاشتراكي.
حاصرت الشرطة الجامعة، وفض الطلاب الاجتماع من تلقاء أنفسهم، ليُستدعى «قادة» الاجتماع إلى مجلس تأديبي. كان بين الطلبة شاب من أصول ألمانية-يهودية يدعي «دانييل كوهين بندت»، سيُدعى في ما بعد «داني الأحمر» في إشارة إلى لون شعره وآرائه السياسية الراديكالية. بعدها صدر قرار بإغلاق الجامعة في الثاني من مايو ليتظاهر طلاب السوربون في الثالث من مايو احتجاجًا على القرار، وعلى إحالة زملائهم في نانتير إلى التحقيق.
هاجمت الشرطة مظاهرات السوربون، وكان الرد أن نظَّم الاتحاد الوطني للطلاب، يوم السادس من مايو، مسيرة شارك فيها أكثر من مئتي ألف من الطلاب والأساتذة والمثقفين باتجاه السوربون مطالبين بالإفراج عن المعتقلين، وبإخلاء الجامعة من قوات الشرطة، التي حاصرت السوربون واعتدت على المتظاهرين بالهراوات، لتتحول الشوارع المحيطة إلى ساحة قتال، ويحتمي الطلاب خلف المتاريس التي أقاموها، مستخدمين كل الأدوات التي وجدوها أمامهم ليجبروا الشرطة على التراجع مؤقتًا.
استمرت المسيرات حتى العاشر من مايو، فقد هاجمت الشرطة التظاهرات مرة أخرى بعنف مفرط مستخدمة الغاز المسيل للدموع، وتحصن الطلاب مرة أخرى خلف المتاريس التي أقاموها حول الحي اللاتيني (حي الطلاب في باريس) مستخدمين حجارة الرصف وزجاجات المولوتوف في مواجهة الشرطة في ما عُرف بـ«ليلة المتاريس».
وإدراكًا بأن انتفاضة الطلبة وحدها غير كافية لدعم حراك اجتماعي شامل، دعا الطلاب العمالَ في اليوم التالي إلى الإضراب العام، لينضم طلبة المدارس الثانوية، وتستجيب اتحادات العمال وأكبرها الاتحاد العام للعمل «CGT»، وتعلن الإضراب ليوم واحد في 13 مايو، ويبدأ العمال في احتلال المصانع في اليوم التالي، ليصل عدد المضربين إلى مئتي ألف، ويشارك نحو مليون شخص في مسيرة واحدة تجوب باريس.
في نهاية اليوم كانت الشرطة قد انسحبت من الحي اللاتيني، لكن ساحات المدارس والجامعات لم تزل تحت سيطرة الشرطة، وعند عودة الطلاب إلى الجامعة بعد إعادة فتحها احتلوا القاعة الرئيسية، وأداروا النقاشات والمناظرات داخلها، وفعلوا الشيء نفسه بمسرح الأوديون، ترافق ذلك مع إعلان السوربون كجامعة شعبية، والمطالبة بإقالة الحكومة. ورفع الطلاب شعارات تحمل روحًا سيريالية ومواقفية واضحة: «عِش دون وقت ميت» و«الجمال في الشارع» و«تحت حجارة الرصيف، الشاطئ».
حقق الديغوليون في أول انتخابات بعد مايو 68 الانتصار الأكبر في تاريخ فرنسا البرلماني، وبدا أن الحركة انهزمت، ولا يوجد تفسير واحد لهذا النجاح الساحق.
بالتوازي، توالت الأخبار عن إضرابات عمالية بحلول يوم 16 مايو تخطى حجمها مليوني عامل في جميع القطاعات (المصانع، والمناجم، والسكة الحديد، والمواني، والخطوط الجوية، وجراجات الأتوبيس، ومكاتب فرز البريد). من بين المصانع الواقعة في الإضراب كانت شركتا «رينو» للسيارات و«سود أفياسيون» لتصنيع الطائرات، وأصدر الطلاب المضربون بيانًا أيدوا فيه إقامة مجالس عمالية لاحتلال المصانع وإدارتها، الفعل الذي كان قد انتشر بشكل عفوي بالفعل منذ 14 مايو، واستمر ضد أوامر الحزب الشيوعي ورغبة النقابات في احتواء الإضراب وتحييده بمطالب اقتصادية محددة برفع الأجور.
رأى بعضهم ذلك بذرة لحكومة شعبية وثورة كبرى. وفي الأسبوع الثالث وصل حجم الإضرابات إلى 10 ملايين عامل (أكبر إضراب في تاريخ فرنسا). في 29 مايو اختفى الرئيس ديغول، وانقطعت أخباره تمامًا لست ساعات سافر خلالها سرًّا إلى ألمانيا الغربية، والتقى الجنرال «جاك ماسو» قائد القوات الفرنسية في برلين ليطمئن إلى وقوفه بجانبه في حال قرر فض اعتصامات باريس بالقوة.
في نهاية مايو أعلنت الحكومة عن انتخابات برلمانية جديدة، وتفاوضت مع الأحزاب الكبرى واتحادات العمال لإنهاء الإضراب، وأقر الرئيس ديغول زيادات في الأجور إلى جانب بعض الإصلاحات الإدراية في المصانع والجامعات وتعديل اللوائح.
في 23 يونيو أجريت الانتخابات، وفي أول انتخابات بعد مايو 68 حقق الديغوليون انتصارًا هو الأكبر في تاريخ فرنسا البرلماني، في ما بدا كأن الحركة انهزمت، ولا توجد إجابة واحدة لتفسير هذا النجاح الساحق في البرلمان.
لكن أحد التفسيرات القوية تكمن في القول بأن البرجوازية ارتعبت، أو إنها كانت مرتعبة بالفعل منذ إقرار الإجازات مدفوعة الأجر في ما بين الحربين العالميتين.
« أمكن للخادمات(بعدما أصبحت لهم أجازات مدفوعة) أن يأتين إلى الشواطئ في دوفيل، (بالنسبة للبرجوازيين الفرنسيين كان ذلك) كأن عصر الديناصورات يعود فجأة، كان أسوأ من الألمان، أسوأ من وصول الدبابات الألمانية إلى الشواطئ»، كما يصف جيل دولوز في حواره مع «كلير بارنت» الوضع ما قبل الحرب بعد إقرار الإجازت المدفوعة. دولوز عضو سابق في حركة 22 مارس، ومن المشاركين في انتفاضة مايو، ومن أهم فلاسفة ما بعد الحداثة.
يضيف الرجل تعليقًا على مايو 68: «أصحاب العمل لم ينسوا ذلك قط، وأعتقد أنهم طوروا خوفًا وراثيًّا، لا أريد أن أقول إن مايو 68 لم تكن شيئًا على الإطلاق، كانت شيئًا آخر، لكنهم لم ينسوا 68».
«كن واقعيًّا، اطلب المستحيل»
«طفرة هائلة من الحس الاجتماعي والتلاحم اجتاحت أولئك الذين كانوا ينظرون إلى أنفسهم من قبل على أنهم دُمى معزولة وعاجزة تتحكم فيها مؤسسات لا يستطيعون لا السيطرة عليها ولا فهمها». «دانييل سينجر».
ما الذي حدث في الشوارع خلال الأحداث؟ السرد الإعلامي يُلقي الضوء على مشاهد مطارادات بين الشرطة والمتظاهرين، مظاهر اعتيادية للشغب قد نراها إلى اليوم، أو إضراب عام (كبير أو ضخم بعض الشيء) يدور حول مطالبات برفع الأجور.
لكن ما حدث بالفعل خلال أسابيع من الاجتماع في الشوارع وفي قاعات المدارس والجامعات والمصانع كان يفوق ذلك.
تضامن جميع المحتجين لبضعة أسابيع ضد العمل القسري، ومن أجل إنقاذ الحياة اليومية من بشاعة العقل الأداتي الذي أنتجته ثقافة رفع الإنتاج إلى مرتبة تتفوق على الغرض منه، أي تحقيق الحاجات البشرية، وتيسير الحياة اليومية، والتواصل بين البشر. ما حدث أنه «توقف إلحاح الذهاب إلى أي مكان». بالنسبة إلى الطلبة الذين جربوا إخراج «كمية الطاقة الإبداعية التي جرى سحقها خلال زمن البقاء، خلال الأيام المحكوم عليها بالإنتاج والتسوق، والتلفزيون، وبالسلبية التي رٌفِعَت إلى مرتبة المبدأ».
لبضعة أسابيع، حولت انتفاضة 68 الحديث الممل عن عمل الأشياء إلى الاستمتاع بالأشياء، من التمثيلي إلى الواقعي المفعم باللذة الشاعرية.
طالب المتظاهرون بدمج الفن بالحياة اليومية، اتحدت الشعارات التي رسموها على الجدران، والتي حملت كثيرًا روح السيريالية، مع الواقع، جربوا التواصل البشري كما لم يفعلوا من قبل، في الشوارع توقف المئات والآلاف وتحدثوا إلى بعضهم بعضًا، وكأنهم يفعلون ذلك لأول مرة، واجه الطلبة واقع السلطة بمنطق الثورة «هنا، والآن».
طلبوا المستحيل ربما، لكن المستحيل الذي لا يمكن إرجاؤه إلى لحظة أخرى، المستحيل الذي إما أن يفرض نفسه الآن، وإما أن يضيع إلى الأبد. ففي الوقت الذي عَطَّلت فيه البرجوازية كل منافع التكنولوجيا الحديثة لصالح مزيد من خلق البؤس والقلق، وفي الوقت الذي وقفت فيه بيروقراطية الأحزاب والثورة المؤجلة إلى جانب بشاعة الحياة اليومية، كان الطلاب والعمال يطالبون بـ«الجمال في الشارع»، أحد الشعارات التي أرادوها واقعًا يُنهي الاستلاب.
لبضعة أسابيع، حولت انتفاضة 68 الحديث الممل عن عمل الأشياء إلى الاستمتاع بالأشياء، من التمثيلي إلى الواقعي المفعم باللذة الشاعرية للعالم الذي كان مختبئًا خلف الاستعراض، لكن الاستعراض كان مستعدًّا بما فيه الكفاية كي يستعيد المحاولات الموجهة ضده إلى صفه، وبعد كل خطوة جديدة كان الاستعراض يستعيدها داخل خطابه، وعند كل مطالبة جدية بالتغيير كان سقف المطالب ينضغط تحت ثقل استعادات الاستعراض كي يصل إلى مطالب يمكن التفاوض عليها، وقد تضطر الحاجة إلى صناعة مشاهير ونجوم ثوريين يمكن استعادة الحدث الثوري بأكمله من خلالهم، باختزال المشاركين جميعهم إلى هذا الشخص أو ذاك، وحيث تكون الشهرة يمكن للاستعراض أن يكون مرنًا، إذ يتعامل مع أحد تمثلاته.
الثقل التاريخي والخطابي الذي أنتجته الأحداث وما بعدها يؤكد مدى عمقها وبعدها عن النظرة الإعلامية السطحية السائدة.
تفاعلت مايو 68 مع كل ما أنتجته الثقافة المضادة قبلها:
- المحاولات السيريالية في عشرينينات القرن العشرين وثلاثينياته لدمج الحياة اليومية بالفن، ويتضح أثرها جيدًا في الشعارات المنقوشة على جدران الجامعات والبنايات في باريس خلال الأحداث
- استفزازات الدادائية شبه العدمية ضد فقر البرجوازية الثقافي، وضد الحرب ومحاولاتها إلغاء المفهوم السائد للفن لإنهاء الفصل القائم بينه وبين الحياة
- المواقفية وسعيها خلف خبرة معيشة أكثر ذاتية وأصالة وكشفها عن الاستعراض الذي يبتلع كل خبرة حقيقية ومحاولاتها مقاومة استيعاب واستعادة الاستعراض لها ولكل حركة وخطاب ثوري داخل آلياته، حيث يحكم بالفشل على الثورة
- تفسيرات «فرانكفورت» ما بعد التنويرية لعالم يُستَلَب فيه الإنسان بواسطة العقل الذي كان ذات يوم أداة التنوير لتحرير العالم، عقل أداتي موجه فقط للإنتاج بطريقة آلية
- التحليل النفسي، كتابات أشخاص مثل «فيلهم رايش» الذي أدخل الكبت الجنسي كعامل رئيسي في تحليله للمجتمعات الشمولية (النازية والستالينية) ألهمت الطلبة الذين ألقى بعضهم ببنسخ من كتاب رايش «علم النفس الجماهيري للفاشية» على الشرطة
وكما تفاعلت مايو 68 مع كل الثقافة المضادة قبلها، فقد أثرت بدرجات متفاوتة في الثقافة المضادة بعدها، أو حتى الثقافة التي تخلت عن كونها مضادة بالمعنى التقليدي، واعترفت بيأس بأن كل محاولات قلب العالم الرأسمالي باستخدام نظرية كلية (الماركسية، التحليل النفسي، المواقفية، إلخ) محكومة بالفشل المؤبد، وحتى إن اجتمعت عدة نظريات داخل نظرية واحدة، فقد استنتجت فلسفة ما بعد مايو 68 أن النزوع الكلي لدى النظرية أيًّا كان الجانب الذي تتخذه، يمثل المشكلة بحد ذاتها.
صناعة النجوم الثوريين، السيطرة الهرمية، قتل الحركة
«الثورة لا تعرض الحياة على الناس، بل تجعلهم يحيون. على أي منظمة ثورية أن تتذكر دومًا أن هدفها ليس تحويل أعضائها إلى مُستمِعين مُطيعين لخطابات مُقنِعة من قادة خبراء، بل جعلهم مُتحدثين عن أنفسهم، من أجل تحقيق درجة متساوية من المشاركة أو على الأقل السعي لتحقيقها». «غي ديبور».
الطريقة التي انتهت بها مايو 68 كانت محبِطة بصورة كبيرة، فجأة تنحصر المطالب الجذرية في المطالبة ببعض الزيادات في الأجور والإصلاحات الإدارية، هزيمة فتحت باب النقاش حول «الاستعادة»، أي كيف تنجح الرأسمالية الحديثة في استيعاب كل الخطابات الموجهة ضدها كي تعمل في صالحها، حتى وإن كان ما تصدره تلك الخطابات يوحي بمعارضتها.
فجأة تتحول الحركة إلى سكون تام، وكثير من الثوريين يتحولون إما إلى مرتدين (لفظ يحمل دلالة دينية مُسقَطة على الثورة) «يمينين» ضد أبسط ما نادت به الثورة، وإما إلى ضيوف دائمين في وسائل الإعلام والتثقيف (أجهزة الأيدولوجيا في تعريف غرامشي وألتوسير من بعده)، يتاجر النوع الثاني بتاريخه، يتوقف الزمن فجأة عند اللحظة التي كان فيها ثائرًا ذات يوم، بينما يُدلي بدلوه في كل الأمور التي قضت بالطبع على أي إمكانية لهذا الحلم الجميل العفوي الذي اتضحت مدى عبثيته.
لا أقصد هنا بالطبع الفلاسفة ما بعد الحداثيين الذين اتفقوا بالفعل على «شبه استحالة» النقد الخالص الرأسمالية لأن كل محاولة بالفعل مستعادة، أي تمكن النظام الرأسمالي من احتوائها لمصلحته.
النجم، باعتباره ممثلًا للحركة الثورية في وسائل الإعلام، يمكن تكميم الحركة الثورية والتفاوض عليها من خلاله حتى القضاء عليها.
استنتج هؤلاء تلك النتيجة من مقاربات ذات شأن في طرحها، وتحدثوا من مقعد الحريص على إحياء أي إمكانية باقية من الحلم الجميل استنادًا إلى الواقع، وليس من مقعد المُتاجر والناقم على غباء رفاقه الذين لم يدركوا الفشل في حينه، وبالتالي لم يدركوا التيار المنتصر ليسايروه.
أحد أقوى وسائل الاستعادة كانت صناعة نجوم للحدث يمكن التفاوض معهم وعليهم، يدرك الاستعراض بصورة ممتازة أن منطق النجومية يظل في خدمته، حتى وإن كان النجوم ثوريين.
عن طريق النجم يمكن اختزال كل ما تستطيعه المجموعة من عمل إلى ما يمثله النجم، يحمل النجم معه خواء وتكافؤ السلعة. والنجم، باعتباره ممثلًا للحركة الثورية في وسائل الإعلام، يمكن تكميم الحركة الثورية والتفاوض عليها من خلاله حتى القضاء عليها، بحيث يتفق ما يَعِد به النجم، وهو بالضرورة ما تعد به الحركة الثورية، مع ما تعد به السلعة. ففي اللحظة التي تَعِد فيها السلعة بتحقيق الخبرة أو اللذة، فإنها تنكث بوعدها فقط للحفاظ على استمراريتها. خواؤها لا يُحتم عليها أن تحقق أو تُحيل إلى أي شيء آخر سوى نفسها.
كذلك، يصير النجم الثوري خاويًا لا يحيل إلا إلى الحركة باعتبارها دائما شيئًا مؤجلًا تمامًا كلذة سلعية مؤجلة.
هناك أسماء بالرغم من أهميتها الفعلية في تنظيم الحراك وتنشيطه، فقد أُشير إليها باعتبارها العقول المسؤولة والمدبرة للحدث وحدها، مثل دانييل بندت أو «داني الأحمر» الذي أهلته مشاركته الفعالة في الأحداث منذ البداية وشخصيته الكاريزمية وآراؤه الراديكالية المعادية للبيروقراطية للظهور كأحد «قادة» الطلبة المتجاوزين للخلافات العميقة بين أجنحة شكلت جزءًا مهمًا من الحراك: الأناركيين، والتروتسكيين، والشيوعيين التقليدين من أعضاء الحزب الشيوعي الفرنسي، والماويين الذين برزوا قبل الحراك وفي أثنائه عن طريق «اتحاد شيوعي فرنسا».
داني الأحمر صَوَّرته الصحافة الشيوعية الرسمية في فرنسا بـ«الألماني الفوضوي»، ووصفته «الغارديان» البريطانية على الجانب الآخر بالمسؤول عن الأحداث إلى جانب هربرت ماركوز.
بعيدًا عن ذلك اعتبرت جرائد أخرى التروتسكي «آلان كريفين» والماوي «آلان غيسمار» قادة للأحداث، بالطبع لم يتعمد هؤلاء المناضلون أو المفكرون مساعدة خصومهم، لكن أسماءهم لم يكن متاحًا أمام الرأسمالية سوى استغلالها بأفضل طريقة، ويبدو بذلك أن حركة دون سيطرة هرمية قد تشكل أكبر خطر على الرأسمالية لأنها ببساطة تهدد طبيعتها المتشبعة بالهرمية والتسلط وتواجه «خطط الاستعادة» بقوة أكبر.
يشير الفيلسوف السلوفيني الماركسي «سلافوي جيجك» في كتابه «بداية كمأساة وأخرى كمهزلة» إلى أن الرأسمالية نجحت في استعادة انتفاضات مايو عن طريق روح جديدة، فقد «أعادت بنجاح المساواة والخطاب المعادي للهرمية الخاص بـ1968، مقدمة نفسها بوصفها انتفاضة تحررية ضد تنظيمات المجتمع الظالمة التي ميزت كلًّا من رأسمالية الشركات والاشتراكية الموجودة واقعيًّا، تخلصت منها الروح الجديدة التحررية بواسطة رأسماليين (cool) لائقي المظهر».
الفلسفة قبل، الفسلفة بعد .. الثورة قبل، الثورة بعد
«لا تقع في هوى السلطة». ميشيل فوكو.
قبل مايو 68 وخلالها كانت النظرة الفلسفية المعارضة للرأسمالية أبسط، والخصوم فيها واضحين بصورة لا تقبل الشك، فطبقًا للفهم الأرثوذكسي للماركسية هناك تناقض يحكم العالم يشكله المبدأ الاقتصادي، وطبقتان متصارعتان بارزتان تشكلان الصراع التاريخي: واحدة تنتج، وأخرى تستولي على ثمرة هذا الإنتاج، وتحكم، وتقمع، وتخدع الطبقة الأولى باستخدام مجموعة من الأفكار والحجج والمؤسسات (الأيدولوجيا) لتحتفظ بتلك الثمرة إلى الأبد. وذات يوم عن طريق الثورة ستقود أولاهما العالم إلى المستقبل المزدهر، الذي سينتج عن حل التناقض بانتصار تلك الطبقة أخيرًا.
لكن ما حدث بعد مايو 68 في فرنسا، وربما قبلها، هو اقتراح تفسيرات وتحليلات أخرى للثورة والعمل عليها. في 1967 أصدر الفيلسوف الفرنسي غي ديبور كتابًا بعنوان «مجتمع الاستعراض»، واحتل هذا الكتاب مكانة مهمة في نقاش اليسار الفرنسي حتى بداية الأحداث. ديبور كان أحد مؤسسي الأممية المواقفية، مستكملًا نقد ماركس وجورج لوكاتش لفيتشية السلعة ومُحدِّثًا إياه.
تحدث ديبور ربما لأول مرة عن أن شيئًا جديدًا برز داخل المجتمعات الصناعية الحديثة، وربما سيشمل العالم لأنه يميل إلى عولمة نفسه، ظاهرة تُعطِّل التحليل القديم القائم على أساس الإنتاج والتراكم، هذا الشيء سماه «الاستعراض»، فحيث تتراكم السلع، فإنها تفرض منطقها، الخواء والتكافؤ، ولا تعبِّر السلعة عن أي قيمة، ولا تُحيل إلى شيء آخر سوى نفسها، شيء يقتل الخبرة المعيشة لمصلحة خبرة وهمية تعد بها لذة لن تفي بوعدها لأنها في الوقت الذي يُفترض بها أن تفعل، تختفي لتحل محلها سلعة أخرى تفعل ذات الشيء. السلعة «س» لن تجلب السعادة لأنها تخلق الطلب على السعادة لا السعادة نفسها، وبالتالي تخلق الطلب على إنتاج سلع أخرى تضاهيها في عرض السعادة كواقع يمكن للسلعة أن تحققه، وهكذا تضمن استمرارية الإنتاج وتحقيق الأرباح.
الاستعراض هو آخر ما وصلت إليه الرأسمالية الحديثة، والذي يساعدها وتساعده في علاقة تبادلية يستفيد منها كلاهما من الآخر على تمزيق معاني الذاتية.
بهذه الطريقة تُخفي السلعةُ اللذةَ التي يمكن أن يحصل عليها الإنسان من خبرة معيشة بعيدًا عن أي نموذج مسبق للحكم عليها أو تمثيلها. ومع فرض منطق السلعة على المجتمع كتطور أخير للرأسمالية الحديثة وللاستهلاك المفرط الذي أنتجته في مراحلها المتأخرة، تتحول كل الخبرات والمواقف اليومية إلى تمثيل يتم بناءً على نموذج مسبق تفرضه السلعة، وبالتالي لا يعود لدى المرء فرصة لاكتشاف الخبرة التي ستنتج عن موقف ما بنفسه، أو ما هي طبيعة اللذة أو المتعة التي سيختبرها.
كل شيء محدد مسبقًا ومعروف بطريقة قدرية مرسومة بدقة تصفها السلعة، التي ما إن تمكنت من الانتشار المكثف عن طريق الدعاية حتى فرضت منطقها تمامًا على أبسط المواقف التي يجربها أحدهم في الحياة اليومية، لكن المأساة تنشأ كما سبق الذكر عن أنه في اللحظة التي تَعِد فيها السلعة بتحقيق الخبرة أو اللذة، فإنها تنكث بوعدها فقط للحفاظ على استمراريتها. خواؤها لا يُحتم عليها أن تحقق أو تُحيل إلى أي شيء آخر سوى نفسها.
يسمي ديبور ذلك بـ«الاستعراض»، ومهمة الاستعراض الأساسية في رأيه (تقريبًا المهمة الوحيدة) طمس الواقع والتاريخ والذات بإخفائهم تحت طبقات عديدة من النماذج المفبركة للخبرة والذاتية واللذة، إبعاد المواقف التي يمكن أن تضمن للإنسان تجربة شاعرية لا يمكن خلالها التمييز بين الفن والحياة، إبعادها إلى الخلفية. ووسيلة الاستعراض في ذلك قد تكون الصور التي لا تكون مسؤولة بقدر ما تكون مجرد وسيلة استوعبها الاستعراض تمامًا كما يستوعب كل شيء.
الاستعراض هو آخر ما وصلت إليه الرأسمالية الحديثة، والذي يساعدها وتساعده في علاقة تبادلية يستفيد منها كلاهما من الآخر على تمزيق معاني الذاتية، واللذة، والواقع، والمعنى، والتاريخ.
بعد الأحداث ستبرز رؤى متأثرة بصورة أو بأخرى بما أحدثته مايو 68 من شرخ، وما آلت إليه من نتائج.
قبل مايو 68 كانت البنيوية الصاعدة بقوة ترى أن كل التجارب والخبرات أُنشئت داخل بنيات موجودة بالفعل، عكست البنيوية التصور السائد للغة باعتبارها أداة للتعبير عن العالم إلى حد اعتبارها أداة تنتج العالم، وستغلب تلك الرؤية على العلوم الإنسانية والاجتماعية في ما بعد على حساب الإنسان كمحرك فعال للتاريخ. أما بعد مايو 68، فسوف يمتد الخط البنيوي إلى أبعد من ذلك، إذ ستخضع المفاهيم التقليدية للسلطة والثورة للنقد والتفكيك.
متجاوزةً التحليل الماركسي الأرثوذكسي، ومُتأثرةً في بعض الأحيان كذلك بروح ماركس الشاب أو ماركس الذي حجبه الاتحاد السوفييتي، ستسبتدل الفلسفات (ما بعد البنيوية-ما بعد الحداثة) بالبنية الاقتصادية الإنتاجية كموقع وحيد للسلطة والأداء الاقتصادي كأداة تفسير وحيدة، الخطاب والمعرفة كما عند فوكو. فإذا كان ديبور وغيره من المواقفيين يزعمون بأن هناك واقعًا يخفيه الاستعراض ويمكن الكشف عنه، فإن فوكو يرى أنه لا وجودًا واقعيًّا في ما وراء الخطاب، وبالتالي، فإن التأكيد المستمر من المواقفيين، وكذلك من المشاركين في أحداث مايو، على أن هناك رغبات أو خبرات أكثر أصالة مما يقدمه التمثيل الاستعراضي يصبح فارغًا.
سيطور «ألتوسير»، الفيلسوف الفرنسي الماركسي، أطروحة غرامشي حول المجتمع المدني، ويستحدث مفهوم الأجهزة الأيدولوجية للدولة في كتابه الذي تلى الأحداث بعام واحد «الأيدولوجيا وأجهزة الدولة الأيدولوجية».
يرى ليوتار أن قوى الثورة التقليدية التي كانت موجودة خلال أحداث مايو 68 قائمة على نفس الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الذي تعارضه.
ستبرز فلسفة ما بعد الحداثة التي يعبِّر عنها بجدارة «جان فرانسوا ليوتار» و«جيل دولوز»، وما ستنتجه من شك تجاه النظريات الكلية والرؤى الكبرى للعالم، إذ سيتم نسف معاني الذاتية والتاريخ والطبقية لصالح عالم معقد تكون السلطة سيلًا متدفقًا داخل العلاقات الاجتماعية، وتكون الأيدولوجيا فيه كما عند ألتوسير الذي يجب تمييزه بالطبع عن ما بعد الحداثة، عامل البناء الأساسي للذات التي تصير نتاجًا للبنية الأيدولوجية التي تنشئها.
ميشيل فوكو، جان بودريار، جيل دولوز، جان فرانسوا ليوتار، جميعهم شاركوا في مايو 68، وسيحاولون في جزء مهم من كتاباتهم الإجابة عن سؤال فشل الثورة، وستصل ما بعد الحداثة على يد ليوتار إلى هدم تام للنظريات الكلية (الماركسية على رأسها بالطبع)، إذ ستُعتبر رؤية كلية شمولية للعالم تحمل داخلها نفس مزاعم الحقيقة الواهية التي لا تستند إلى شيء سوى إلى إيمان بسيط يوحي بقدرة شاملة على تفسير العالم من خلال إبراز التناقضات وحلها في ما يتعارض مع حجم التفكيك المطلوب لمجمل العلاقات الاجتماعية على أدق المستويات.
يرى ليوتار أن قوى الثورة التقليدية التي كانت موجودة خلال أحداث مايو قائمة على نفس الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الذي تعارضه، باعتبار أن النقد الذي توجهه الثورة للمؤسسة يعتمد على نفس العلاقة المراتبية التي هي جوهر السلطة، يمارس النقد السلطة باعتبار أن لديه ما هو أفضل. وفي رأي ليوتار، فإن ذلك يتلائم تمامًا مع العلاقة السلطوية الذي يسعى النقد لنسفها فيما هو يحافظ عليها. وقد يكون ذلك السبب الرئيسي في فشل مايو 68 وأي ثورة أخرى في المستقبل.
بالطبع انتقد فلاسفة معاصرون نظرة ما بعد الحداثة التشاؤمية باعتبارها قبولًا لصورة الرأسمالية عن نفسها، بينهم واحد من أهم الفلاسفة الماركسيين، والذي يُعرِّف نفسه بصفته منتميًا مخلصًا لمايو 68 هو الفيلسوف الفرنسي «آلان باديو»، الذي كان عضوًا في «اتحاد شيوعيي فرنسا» الماوي خلال الأحداث، وقد ظل مقاطعًا لكل الانتخابات بعدها حتى الآن.
لم يزل باديو متفائلًا حيال النقد الذي مهمته أن يكشف الأيديولوجيا الرأسمالية التي تروج لموت الأيديولوجيا، مؤيدًا فرضية «التمرد الشعبي» وإمكانية نجاحه.
وقد نشر كتابًا حول الانتفاضة والشغب بعنوان «الميلاد الجديد للتاريخ»، وهو حول الانتفاضات العربية في 2011، التي اعتبرها بمثابة ميلاد جديد للتاريخ في أشكال جديدة من الاحتجاج ضد الرأسمالية، عاكسًا رؤية ما بعد الحداثة التنبؤية حيال التاريخ، التي دعمها انهيار الاتحاد السوفييتي والأيدولوجيا الشيوعية الرسمية، باعتباره منتهيًا، وكأن الرأسمالية قد صارت قدرًا محتمًا أو مجتمعًا لا تحكمه أيديولوجيا مهمتها تبرير وتأبيد أوضاعها القائمة.
جان بودريار، الفيلسوف الفرنسي الماركسي في أثناء مايو 68، وأحد أكثر ما بعد الحداثيين تشاؤمًا حيال الثورة لاحقًا، نظريًّا على الأقل بغض النظر عن تفاعلاته الشخصية مع السياسة، سيسير على نفس الخط الذي اتخذه غي ديبور من قبل، الاستعراض موجود ويحاول إخفاء الواقع وتبديده.
في مراحله المبكرة حاول بودريار البحث عن مواقع آمنة يمكن عبرها الرد على الاستعراض وبناء النقد مع تجنب الاستعادة، لكنه في النهاية رأى أن الواقع الذي تحدث ديبور عنه بأنه يمكن التمييز بينه وبين تمثيله، وبالتالي يمكن الكشف عنه، قد اختفى تمامًا، وأن الذي يوجد الآن هو «ما فوق الواقع». طبقات مختلفة من تمثيل الواقع نجحت في فرض نفسها إلى درجة أنهت أي حديث عن الخبرة الأصيلة، الحواجز بين الواقع والاستعراض التي بحث عنها ديبور والمتظاهرون في مايو 68 كي يخترقوها إلى الواقع هي بالنسبة إلى بودريار قد تحطمت تمامًا وإلى الأبد لصالح تمثيلات لانهائية للاستعراض نفسه، تنهي أي أمل في نقد تام غير مُستعاد من الرأسمالية.
بالنسبة إلى بودريار، فإن شعار مايو 68 «تحت حجارة الرصف، الشاطئ» الذي يرمز إلى البحث عن شيء حقيقي/جمال ذاتي أصيل تحت حجارة الاستعراض، لا يمكن الأخذ به، لكنه يرى كذلك أن مايو 68 بمقاومتها الشديدة للاستيعاب كانت نوعًا من «الحدث الخالص»، شيء أقوى من أن يُفسَّر.
جيل دولوز إلى جانب «فليكس غوتاري»، المحلل النفسي الفرنسي، انطلقت كل أعمالهما اللاحقة تقريبًا من لحظة مايو 68، ومن أهمها كتاب «ضد أوديب»، وفيه كما يقدم فوكو للكتاب بعنوان «مقدمة لحياة لافاشية»، إذ وصف دولوز وغوتاري بأنهما «لاحقا الآثار المُستهان بها للفاشية في الجسد»، و«استخرجا الفاشية المنقوعة في سلوكنا».
اتخذ الثنائي خطًّا معارضًا للتحليل النفسي التقليدي الذي ينظر إلى الرغبة نظرة سلبية باعتبارها نوعًا من الفقر والعوز، فيما يرى الثنائي أنها نشاط فعال، إيجابي، جوهري في الإنسان، تتشكل خلاله الحياة، وبأن محاولات كبتها على الطريقة الفرويدية لأريكة التحليل النفسي التي تعزل المريض عن الكل الاجتماعي.
وترد المشكلة إلى الجزء الأسري المكون من ثالوث الأب والأم والابن تأتي في سبيل الحفاظ على النظام الرأسمالي الذي تخلق بنيته شروط القمع النفسي، أو كما يقول دولوز: «إذا كنت سأهذي، فلن يكون ذلك عن طفولتي، عن شأني الخاص الصغير، إننا نهذي، الهذيان كوني، المرء يهذي عن نهايات العالم عن الجزئيات، عن الإلكترونات، وليس عن بابا وماما».
كان الكتاب أشبه بولادة فكرية جديدة لمايو 68، وبخاصة بنزعتها السيريالية المتدفقة، باعتبارها ثورة ضد الرأسمالية التي تحولت لآلة ضخمة لقمع الرغبات وإنتاج القلق عن طريق فصل «اقتصاد الرغبة» عن «الاقتصاد السياسي»، إذ تشعر الرأسمالية بأن الرغبة تهدد نمط الإنتاج الربحي وتعزلها إلى دائرة خاصة هي عيادة المحلل النفسي. خرج نقدهما عن التقليد الماركسي الأرثوذكسي الذي لا يولي اهتمامًا كبيرًا بالرغبات أو بالنزعات الفردية التي تحركها تلك الرغبات، وبتأجيله إياها للحظة نجاح/تحقق الثورة، فإنه بذلك يؤجل الثورة إلى الأبد.
في الكتاب يظهر التحليل النفسي كموقع آخر لممارسة السلطة ولاختزال المعاناة النفسية، والمحللون النفسيون «كمجموعة من الكهنة» كثيري الحديث عن الإخصاء الذي هو أسوأ من الخطيئة، يحيل الـ«Psychoanalysis» الرغبة إلى موضوع واحد، بينما عند دولوز وغوتاري تتدفق الرغبة خلال تجميعة «Agencement»، في طرحهما تتعلق الرغبة بتجميعة مترابطة، بمعنى أن المرء حين يرغب، فهو يبني مجموعة أشكال وأنماط وعادات متصلة ببعضها في تجميعة يريدها المرء أن تتحقق دفعة واحدة، بينما يحيل الـ«Schizoanalysis»، وهو المفهوم المضاد عندهما، إلى الـ«Psychoanalysis»، إلى جوانب حضور القمع والتسلط والإقصاء والتهميش المجتمعي وانعكاساتها على الفرد، وحيث اللاوعي طبقًا لدولوز هو «مصنع لإنتاج الرغبات بعكس الرؤية التحليلية النفسية باعتباره مسرحًا، حيث تكون المسألة أن هاملت أو أوديب يذرعانه باستمرار إلى ما لا نهاية».
أما بالنسبة إلى رؤيتهما حيال مايو 1968، فإن دولوز وغوتاري يريان أن الأحداث لم تنته فعلًا. بالنسبة إليهما، فإن مايو 68 كانت أكبر من أن تحدث بالفعل، بمطالب أكبر من أن تتحقق، ليس لأنها غير مشروعة أو مستحيلة، لكن لأن الأحداث لم تُنتج أو تؤدي إلى حتمية ما كما فعلت كل الأحداث السابقة عليها، «من الثورة الفرنسية إلى الكوميونة وحتى الثورة الروسية، حيث الحتمية هي الشيء الذي يلتقطه المؤرخون»، فيما تمثل مايو 68 العكس، باعتبارها حالة غير مستقرة تفتح بابًا جديدًا للممكن في الحاضر، وليس للممكن باعتباره محددًا بتوقيت معين ومحكوم بحتمية ما.
أمين حمزاوي