مبروك عليكم وعلينا: الزواج في مصر لمن يدفع فقط
تحول الزواج في مصر إلى حلم مستحيل ينتظر الشباب بعد إنهاء مرحلة تعليم تتجاوز 15 عامًا، وبالتالي، وحدهم المدعومون من الأهل يمكنهم تحقيق الحلم والزواج، عادةً عبر «الصالونات».
لا يهتم المدعوون إلى حفلات الزفاف كثيرًا بالإيجابيات، ولا بالمعاناة التي خاضها العروسان حتى يجلسان في «الكوشة» يحدِّق فيهما الجميع، بل يدققون جميعًا بحثًا عن أي سلبيات، سواءً في تفاصيل العُرس أو في السمات الشخصية للعروسين.
«دخول الدنيا» عبر زواج الصالونات
في مزاج يبعث على الموت، يتمنى أغلب الشباب أن «يدخل دنيا»، وهو تعبير مصري يعبِّر عن الزواج وبدء ممارسة الجنس، لكن كيف ومتى وأين؟ تغيب كل تلك الأسئلة وسط هالة عظيمة من عدم الوعي، تربَّعت على عرش العادات والتقاليد دون منازع.
أنواع الزيجات في مصر قليلة للغاية في إطار ثقافة المجتمع، والزواج التقليدي هو النوع الأكثر انتشارًا في أغلب المحافظات، ويسمى «زواج الصالونات» لأنه يبدأ في العادة في صالون منزل العروس. يكون هذا النوع من الزواج ظالمًا للطرفين عادةً، لأنه لا يسمح لأيٍّ منهما بالحصول على معرفة متعمقة عن شخصية الآخر وطباعه وطموحاته، وكأنها عملية بيع وشراء، لتصبح المشاركة المعنوية والروحية في الزواج معانٍ لا قيمة لها.
يتم زواج الصالونات بناءً على ترشيح الأقارب أو الأصدقاء، ويذهب الشاب إلى منزل العروس المُرشحة، فيجلس معها مرة أو اثنتين في صالون منزلها، ثم يعلنان القبول أو الرفض.
يبقى السؤال الأهم قبل الموافقة على الزواج هو: كم ستدفع؟
دعنا نتوقف هنا قليلًا، فأيُّ خبرة حياتية تلك التي ستجعلك تفهم شخصًا في جلستين فقط؟ يأخذنا هذا إلى تأكيد أن الأمر برُمَّته لا يخرج عن نطاق المقايضة، إذ يرى الشاب جمال الفتاة ومفاتنها، وتعرف هي شكله ووظيفته ومكانته الاجتماعية، لتتحول الخطوة الأهم في حياة كل شاب وفتاة إلى قرار عابر وسطحي لا تحكمه أي معايير.
الزواج لمن يدفع أكثر
يزيد الأمر سطحيةً تعامُل الأهل من وجهة نظر مادية بحتة، إذ لم يعتَدْ أغلب المصريين السؤال عن الدين أو الخُلُق عند الزواج، ربما لأننا، وكما يقول الجميع، شعب متدين بطبعه. ويبقى السؤال الأول والأهم في الموافقة على الزواج هو: كم ستدفع؟
أولوية أهل العروس أن يكون لدى المتقدم لخطبة ابنتهم وظيفة وشقة.
الظروف الاقتصادية المريرة التي يعاني منها المصريون جعلت الأهل لا يبالون بالمعنى الحقيقي للزواج من سكن ومودة ورحمة، فكل ما يهم الأب والأم أن تعيش ابنتهما حياةً كريمة مثل حياتها في منزل والديها وأفضل، وبحيث لا تكون أقل مكانةً من قريبتها الفلانية ولا جارتها العلانية. لا يوافق الأهل على عريس لديه شقة إيجار، أو يعمل بشكل حر، ويتعاملون بتعالٍ مع من يتقدم لخطبة ابنتهم، ويطلبون مهرًا يقصم ظهر أي شاب ميسور، فما بالك بشاب عاطل أفنى عمره في التعليم دون طائل.
أصبح كثير من الأهل، بمن فيهم من يصدعون رؤوس غيرهم بضرورة التيسير على الشباب في أمور الزواج، لا يريدون مساعدة من يبدأ طريقه ويحتاج إلى شريكة تدفعه إلى الأمام وتشجعه على استكمال أحلامه، يتقاسمان الهموم والإنجازات، يتقدمان خطوة ويتعثران أخرى، ينتقلان من سكن إلى آخر، يعرفان معنى الحياة.
هكذا صارت أولوية أهل العروس أن يكون لدى المتقدم لخطبة ابنتهم وظيفة وشقة. لا تتغير الفكرة حتى بتغير أنواع الزواج، سواءً كان بين الأقارب أو ثمرة علاقة حب دامت لفترة، أو حتى زواج مصلحة، الكل يتبع نفس الطريقة في الاستعداد لحفل الزفاف وتجهيز مسكن يصلح للخلود.
تعليم فاشل وعنوسة وراء كل باب
يثور سؤال بإلحاح: كيف لشابٍ قضى أكثر من 15 عامًا في تعليم عقيم لا يؤهله لسوق العمل أن يُنهي دراسته ثم يشتغل مباشرةً، ويشتري شقة في غضون سنوات قليلة، ويدفع مهرًا خرافيًّا، ويلتزم بكل شروط الزواج المجحفة والظالمة بالنسبة للوضع الحالي، في ظل أزمات اقتصادية تحاصر مصر في جميع القطاعات؟ وهل من السهل توفير قدرٍ كافٍ من المال للزواج بهذه الطريقة المتدنية التي تتبع أسلوب «من يُنفق أكثر هو الأفضل»؟ وكيف يحدث ذلك والبطالة تجتاح البيوت وتنتشر ظلالها فوق المقاهي؟
على الجانب الآخر، ومع تعنُّت الأهل في التنازل عن بعض الشروط، يعزُف بعض الشباب عن الزواج حتى يمكنه تلبية احتياجات أهل العروس، ممَّا يتسبب في تقدُّم فتيات كثيرات في العمر دون شريك، وتزداد المشكلة وتتفاقم مع تنامي ظاهرة العنوسة بين الشباب والفتيات، حتى باتت تسكن وراء كل باب في مصر.
اقرأ أيضًا: كوكب الأرض يطلب منا التوقف عن الإنجاب
انعكاسات أخلاقية ومظاهر كاذبة
يتحول كل ذلك التعنت ضد الشباب إلى مشاعر تبحث عن مخرج، يكون أحيانًا عن طريق المواقع الإباحية، وقد يتجاوز ذلك إلى البحث عن فريسة في الشارع، بالنظر أو الهمس وربما اللمس وما سواه.
قد يعجبك أيضًا: المواقع الإباحية هي التي تشاهدك
يظل تجاهل مشكلة الزواج في مصر العامل الرئيسي الذي يخلق مجتمعًا مشوهًا وغير سوي، تتناثر فيه علاقات غير كاملة وحوادث تحرش واغتصاب. ولا بد أن نعي أن التكنولوجيا لها عظيم الأثر في خلق ازداوجية كبيرة في معايير أفكار الشباب نحو الزواج والحب والحياة عمومًا، وللأسف يغيب دور الأسرة والمؤسسة التعليمية والدينية، وكالعادة يغيب دور الدولة.
يختلف الأمر قليلًا بين الريف والحضر، ففي الريف يسعى الأب دائمًا إلى مساعدة ابنه، على الأقل في ما يتعلق بأزمة السكن، إذ يبني له منزلًا مستقلًا أو حتى طابقًا آخر فوق شقته. لكن في الحضر، ونتيجةً لازدحام المدن الشديد، يعيش الأهل في شقة واحدة، وتمنعهم متطلبات الحياة من ادِّخار المال من أجل الأبناء، وهكذا حين يفكرون في الزواج تواجهم مشكلة البحث عن شقة.
يتكون جهاز الشقة من أشياء بعيدة تمامًا عن الأولويات، وتكون الحاجة إلى إبهار الناس هي الدافع الحقيقي والوحيد وراء شرائها، وليكن مثلنا الأهم في هذه الحالة هو «النيش»، وهو دولاب لحفظ الأواني والأطباق والأكواب التي لا تُستخدم إلا في حال وجود ضيوف مميزين للغاية. قِسْ على ذلك أجهزة وأشياء عديدة تُشتَرى فقط لأن بنت الجيران أو بنت العم اشترتها، ويصاب بعض الشباب، إن لم يكن أغلبهم، بهذا المرض ويفعلون ما يفعل الناس دون تفكير.
لماذا أصبحت حياتنا بهذا التعقيد؟ لماذا نجهز شقة صغيرة وكأنها قبر سنُخلَّد فيه؟
دعني أحكي لك شيئًا رأيته بعيني، ففي الفترة الأخيرة، وخلال شهر حَفَل بأعراس أصدقائي، دخلت شققًا كثيرة للمساعدة في بعض التجهيزات بناءً على طلب هؤلاء الأصدقاء، ووجدت أنها تشبه بعضها بشكل مثير للتساؤل.
مثلًا، هناك زخارف الأسقف المزودة بكثير من الإضاءة الملونة، التي تحول مسكن الزوجية إلى ما يشبه «الكبارية» إن جاز التعبير، وهو ما منعت نفسي من قوله لأحد أصدقائي كي لا أجرحه. كذلك، لماذا الإصرار على تجهيز غرفة الأطفال بأثاث كامل ورسوم كارتونية على الحوائط من قبل حتى أن يتم الزفاف؟ وبالطبع قد تمضي سنوات عديدة حتى يستخدمها الأطفال، إن قُدِّر لهم أن يروا الحياة.
أضف إلى ذلك كثيرًا من الكماليات التي تستنزف آلاف الجنيهات، مثل الستائر ذات الجودة العالية، وحوامل التليفزيون المعلقة في الصالة وغرف النوم، ونظام الصوت والسماعات الصغيرة في أركان المنزل، وغيرها من الديكورات.
ماذا لو تعاملنا مع الحياة ببساطة؟
أسأل نفسي دومًا: لماذا أصبحت حياتنا بهذا التعقيد؟ لماذا نجهز شقة صغيرة وكأنها قبر سنُخلَّد فيه؟
هل أصبحنا نعبد الناس أكثر من عبادتنا ربَّ الناس؟
معظم من حضرت أفراحهم في الفترة الأخيرة كانوا عاطلين عن العمل، ويعتمدون بشكل شبه كُلِّيٍّ على مساعدة أهلهم. لو نظرت إلى الأمر بالمنطق وبشكل عملي لوجدت أن ما يُنفقه الشاب على شقته يمكن أن يؤسس له مشروعًا صغيرًا، يستطيع أن ينفق منه على أسرته ويتجنب خلافات ما بعد الزواج.
لماذا نعتبر الزواج هو الإنجاز الوحيد في الحياة؟ ماذا لو سكن العروسان في شقة بسيطة؟ في غرفة بسيطة؟ ماذا لو كانت الحياة أبسط من ذلك؟
قد يهمك أيضًا: لماذا نزداد قلقًا يومًا بعد يوم؟
في قريتنا الكبيرة التي ما زالت تحتفظ بطابعها الريفي، يتناسى الناس معنى المشاركة الزوجية، يتناسون سبب الزواج من الأساس. يصير الزواج بالنسبة إليهم خطوةً مهمةً كي يعرف الناس ماذا لديهم وماذا يمتلكون، فهل أصبحنا نعبد الناس أكثر من عبادتنا ربَّ الناس؟
محمود جمعة العريني