الزواج كصفقة: هاتوا ما عندكم، نعطِكم ما عندنا
في كتابه «الزواج والمال والطلاق في العصور الإسلامية» يورد الكاتب، «يوسف رابوبورت»، حكاية على لسان المؤرخ الشامي خليل بن الصفدي، في عام 732 هجرية، و1332 ميلادية، والذي قُدر له أن يكون موجودًا في القاهرة ليشهد زفاف «آنوك»، الابن الأثير وولي العهد للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وقد اصطحبت العروس، ابنة أحد الأمراء، جهازها الذي تتطلب حمله إلى القلعة جهود 800 من الحمالين، ومئة من البغال، ووقف الصفدي لمشاهدة الموكب الكبير الذي يحمل الأصناف الأكثر نفاسة من الملبس والأثاث والحُلي، وقد أبلغ أحد الكُتاب أن الذهب وحده يزن نحو 80 قنطارًا مصريًّا، أي ما يعادل 80 ألف دينار، وتلك التقديرات رجم بالغيب على كل حال، إذ ليس بإيدينا تسجيل رسمي لقيمة جهاز العروس، وذلك لأن جهاز العروس لا يُسجل في عقد الزواج، في حين يُسجل المَهر المُقدم من الزوج إلى العروس.
برز الحديث عن المهر وجهاز العروس في اتفاقات الزواج بين النخبة في المجتمع المملوكي بشكل جلي وواضح في بدايات القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، كانت متطلبات الزواج تلك مدعاة للفخر للطبقة العُليا، وكانت أيضًا مدعاة للمنافسة بين الأمراء والملوك، فيُغالون على بعضهم في طقوس الأعراس وقيمة المهر وجهاز العروس للإعلاء من شأنهم بين الناس، حتى إن الصفدي يذكر أن العجز المالي في خزانة السلطنة، في عهد السلطان الناصر محمد، يعود جزء منه إلى الإنفاق المفرط على تجهيز بنات السلطان.
نقل ملكية
كانت طقوس الزواج في العصور الوسطى عند العرب من أعراف المدينة، وخير يعم على الفقراء.
في دراسة أجرتها «أماليا زومينيو» عن الزيجات في العصور الوسطى للعرب، تبين أن الزيجات كانت أشبه بعملية نقل الملكية من الآباء إلى الأبناء ومن الزوج إلى الزوجة، إذ يدفع الآباء مبالغ طائلة في جهاز العروس أو مساعدة البنين في تكاليف الزواج، وهي أيضًا نقل ملكية من جيل إلى الآخر. وتتحدد تكاليف الزواج وفقًا للمستوى الاجتماعي، وتسري عملية العرض والطلب، وكلما زادت تكاليف الزواج كان هناك نزاعات تنشأ بين الأُسر، وبخاصةً بين الآباء والأمهات الذين لا يشعرون بالأمان تجاه بعضهم، فيكون المال ضامن الاستقرار الأسري، وكلما زادت تكاليف الزواج من ناحية الزوج كانت مساحات الأمان الاجتماعي جلية، وكلما كان جهاز العروس ثمينًا شعر أهل الزوج بأصالة العروس وكرم أهلها.
في السياق ذاته، يُحدثنا محمد المويلحي في «حديث عيسى ابن هشام» عن أعراس الأثرياء، ويوضح أن الغرض من التكاليف الباهظة للعُرس أن يذاع بين الناس تشريف هؤلاء الكبار والعلماء في تلك الأعراس، ويقيمون الولائم التي ينفقون فيها ثرواتهم كي ينالوا الشهرة. ومنهم من أنفق في إقامة العرس جميع ماله، ثم بقي عليه من الدين ما أخلَّ بنظام معيشته، ويرد على ذلك قائلًا: «ما كنت أعهد أن الأعراس تكون على هذه الحال من استخدامها للشهرة والصيت، بل كنت أعهدها تقام لائتناس صاحب العرس بأصحابه وأصدقائه ومشاركتهم له في صفوه وهنائه، ولإطعام المساكين ومساعدة الفقراء».
على الرغم من مادية هذه الحقبة، فإن هذه الطقوس كانت جزءًا من أعراف المدينة، تلك الأعراف التي يوجد بها كثير من القيم التي تحفظ وتنظم العلاقات بين الناس، وأيضًا كان لطقوس هذه الأعراس جزء من الخير الذي يعم على فقراء المدينة، الذين لا يستطيعون إقامة عُرس كهذا، لكن يمكنهم حضور تلك الأعراس والتمتع بما فيها من إطعام ومساعدات.
لكن بعد ظهور الدولة الحديثة كان الأمر أكثر تعقيدًا وفجاجة على مستوى العلاقات الزوجية، وعلى مستوى المجتمع ككل.
قد يهمك أيضًا: المرأة كبضاعة: زوجات تُباع وتشترى
مؤسسة الزواج القومية الحديثة
بعد ظهور الدول القومية الحديثة في مصر، والتي شهدت تحريك القوى العاملة، وسن القوانين التي امتدت تشريعاتها القضائية إلى صلب العلاقات الاجتماعية، وأصبحت الدولة محدِّدًا مباشرًا للعلاقات الزوجية، ولها سلطة مؤسسية على الزواج، والتي تختلف عن السلطة العائلية السابقة عندما كان رأس الأسرة في موازين القوى داخل الأسرة، والتي كان العُرف فيها هو الذي يحدد طبيعة سلطات هذا الحكم، ويحدد واجبات الزوج تجاه الزوجة والعكس بالعكس، لذلك أصبح هناك تنميط سائد في تشريعات الأحوال الشخصية.
على سبيل المثال، كان عقد الزواج في ظل الحكم العثماني مجرد ورقة بيضاء تُملأ بصيغة خاصة تتكرر من عقد إلى آخر، إضافة إلى عناصر متغيرة تختلف بحسب الحالة وتتبع ظروف المكان والزمان الذي عُقِد فيه الزواج. أما عقود الزواج الحالية، بعد الإصلاحات التشريعية والقانونية التي أتت بها الدولة القومية الحديثة، والمبنية على رغبة الدولة في وضع المعايير، فقد أصبحت أوراقًا مطبوعة بها فراغات لا تسمح بالتصرف في شروط الزواج، ولذلك تحد من قدرة المجتمع على تشكيل عقود زواج تناسبهم.
مُحددات الدولة لمفهوم الأسرة يجعل ما دونها لا يعد أسرة.
قياسًا على ما سبق، ترى أميرة الأزهري، في كتابها «النساء والأسرة وقوانين الطلاق في التاريخ الإسلامي»، أن العلاقة بين الجنسين شهدت تدهورًا مستمرًّا على مر التاريخ، فالعلاقات العاطفية التي كانت تُعافر من أجل بقائها، وكان يعترضها أعراف الأهل والعصبية القبلية، أصبحت تُمحى عن الأنظار تدريجيًّا بتراجع قوانين الأسرة أمام قوانين الدولة التي أدعت انها جاءت لحفظ حقوق المواطنين، وسنت التشريعات ومحاكم الأسرة للحد من طغيان البشر على بعضهم، ما أسهم في تحول العلاقات الزوجية إلى إجراءات جعلت الحديث عن قيم المودة والرحمة والحب أشياء ثانوية تأتي بعد الإجراءات المادية الأولية.
قد يعجبك أيضًا: كل الزيجات الفاشلة، تفشل لنفس السبب
لذلك، فإن الحديث عن تحول الزيجات من علاقات تراحم إلى علاقات مادية تعاقدية يجعلنا ننظر إلى مأسسة الزواج وجعله تحت وطأة السلطة.
يري «كينيث أم كونو»، أن مُحددات الدولة لمفهوم الأسرة يجعل ما دونها لا يعد أسرة، فالمقاومات الدينية والوطنية، كأيدولوجيات متصارعة لا تبيت في مكان واحد دون خلاف، تجعل الأسرة تحت طائلة الدين والدولة، أو الدولة فقط، لأنها صاحبة السيادة والقادرة على صنع القوانين وتأويل النصوص الدينية وجعلها مُحركًا من محركات السلطة، وفقرة «حرص الدولة على تماسك الأسرة واستقرارها وترسيخ قيمها» تنزع قدرته الفرد من فعل ذلك، وأيضًا تجعل الفرد يعول على الشأن القانوني لحماية الأسرة والحفاظ على حقوق المرأة من الرجل والعكس بالعكس.
الدولة في مواجهة الأسرة.. أريد حلًّا
في نهايات القرن العشرين كان للسينما دور في إظهار عوار الدولة في حل قضايا الأسرة، ولعب المخرج سعيد مرزوق دورًا مهمًّا في ذلك، من خلال عدة أفلام، صوَّر فيها المرأة كجانب عاجز ضعيف في مواجهة علاقات زوجية واجتماعية قاسية، وتحت ظلال قانون الدولة وغيابه في آن واحد، إذ إن القوانين التي ادَّعت الدولة أنها ستقوم على «تماسك الأسرة واستقرارها» لم تستطع استيعاب الحالات الاجتماعية، ووجد الناس القانون الذي وُضع للإحاطة بمشكلاته مفارقًا لهم، وفي مواضع أخرى يقف ضدهم.
قضى سعيد مرزوق أسابيع في دور المحاكم يراقب حالات حقيقية من الطلاق والنفقة. فنقل مشاهد المحكمة لنرى بعينه المآسي التي تتكشف.
كان من الأفلام المميزة في تاريخ مرزوق، فيلم «أريد حلًّا»، الذي تسبب بعد عرضه في إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية، والسماح للمرأة المصرية بحق الخلع، والتخلي عن زوجها، بشرط التخلي عن جميع مستحقاتها وحقوقها المادية.
الفيلم يحكي قصة حقيقية كتبتها الصحفية حُسن شاه عن امرأة تريد الطلاق من زوجها الذي رفض طلبها، فتلجأ إلى القانون الذي يهدر حقها وكرامتها، وتخسر القضية بعد مرور أربع سنوات. الفيلم من بطولة فاتن حمامة التي كانت آنذاك في الرابعة والأربعين من عمرها، وتتقاسم مع مرزوق حسًّا سياسيًّا، وبخاصة بعد عودتها من المنفى عام 1971، إذ قالت إنها تعرضت لمضايقات في الستينيات بعد رفضها التعاون مع المخابرات المصرية، وقدمت سلسلة من الأفلام في ذلك العقد تعكس إحساسها بالالتزام الاجتماعي، مثل «أفواه وأرانب» (1977)، عن امرأة ريفية فقيرة مجبرة على الزواج لدعم عائلتها، و«لا عزاء للسيدات» (1979)، والتي تتعامل فيه أيضًا مع تسامح المجتمع مع سلوك الزوج المستبد.
لقطات قاعة المحكمة واحدة من أكثر ملامح الفيلم تشويقًا، فقد قضى المخرج أسابيع في دور المحاكم يراقب حالات حقيقية من الطلاق والنفقة. لذلك ينقل لنا مرزوق مشاهد المحكمة لنرى بعينه المآسي التي تتكشف: النساء اللواتي تعرضن للضرب والإساءة، وبعضهن يطعنَّ في النفقة، ومطلقات تعرضن للطرد إلى الشارع دون مأوى. كل تلك المشاهد التي صُممت هندسيًّا لإضفاء طابع إنساني يجعلنا نشارك الشخصيات في القهر، ويجعلنا محاصرين في قاعات المحكمة بقوانينها وإجراءاتها القانونية التي لا ترحم، وفي كل مرة تدخل الكاميرا إلى مبنى المحكمة، فإن الإحساس بالعجز المليء بالدهشة يكسر الشاشة بصريًّا ونفسيًّا.
الانفتاح الاقتصادي.. وسحق الطبقة المتوسطة
كانت حقبة سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته طاحنة للطبقة المتوسطة التي ازدهرت نوعًا ما في ظل توسع جمال عبد الناصر بحصولهم على التعليم والرعاية الصحية والتوظيف والخدمات العامة، ثم جاء أنور السادات بالتحرر الاقتصادي المتهور وغير الكفء الذي أدى إلى هلاك الطبقة المتوسطة. كانت رغبة السادات أن يخلق طبقة جديدة من المستثمرين وأصحاب الأعمال الحرة الذين يمكن أن يتواطأوا معه سياسيًّا، فقد كان ولاء الطبقة المتوسطة يقع على عاتق عبد الناصر الذي كانت إصلاحاته الاقتصادية تصب في مصلحة الطبقات البسيطة، لكنها جاءت على حساب استقرار اقتصاد الدولة.
نالت القرارات السياسية من الأسرة المصرية، فقد نشأ وقتها الحديث عن أزمة الإسكان والموظف الذي يرفضه الآباء عند تقدمه للزواج، طامحين في زوج من طبقة أصحاب الحرف والأعمال الحرة المنتمين للانفتاح الاقتصادي، وأحلام الثراء السريع، والرغبة في الاستفادة من الزيجات ببناء علاقات قائمة على المنفعة، والتي بطبيعة الحال أثرت في مفاهيم الفرد عن الزواج والأسرة، وأدت إلى تراجع المنظومة القيمية والأخلاقية التي يخلقها العُرف والدين، ويُستبدَل بها صراعات اقتصادية يتربص فيها الإنسان بأخيه الإنسان، ويعمل على إقصائه، ليحل البيع والشراء محل المودة والرحمة، وتبقى العلاقات عبارة عن صفقات رابحة أو خاسرة يدخل فيها الأفراد بالنظر إلى أكبر قدر من المكاسب، وأقل قدر من الخسائر.
إذا تماشينا مع مبدأ البيع والشراء في العلاقات، من وجهة نظر عبد الوهاب المسيري فإن أن هذا المبدأ أيضًا يتخلله أخلاقيات تجعل لكلمة «الشرف» عهد وميثاق أقوى من العقود القانونية، لكن مبدأ المنافسة والعرض والطلب يجعل تلك الأخلاقيات تهوي سريعًا، ويبقى التعاقد ماديًّا بين أشياء، أو بين بشر قد تشيئوا، ويشوبها سلوكيات أخلاقية وقيمية يكون التخلص منها ضروريًّا حتى لا تمثل عائقًا في طريق تحقيق صفقات رابحة.
من الأمثلة التي رأى فيها المسيري الصراع بين التعاقدية والتراحمية، نظام «النقطة» في الأفراح المصرية، قائلًا إن النقطة في الأفراح المصرية يبدو كما لو كانت عملية تبادلية، مع أنها في واقع الأمر نظام توزيع أجزاء من الثروة. تلك لمحة مهمة ننظر فيها من خلال نظام الزكاة لإدراك التراحم كمرجعية نهائية في المعاملات بين الناس، وإلى مفهوم النقطة الذي جعل تلك النقود دَينًا يُكتب ويُرد لصاحبه، ثم انحدر هذا المفهوم أكثر مع بداية القرن الحادي والعشرين، وأصبح مشروعًا تجاريًّا.
اقرأ أيضًا: بين «النقطة» و«العانية»: عادات الشرقيين في هدايا الأفراح
جاء السبكي، عام 2009، بفيلم «الفرح» ليُصور المشروع الربحي الفوضوي التي تحول فيه العروسان إلى أشياء قابلة للإيجار لإتمام الصفقة مقابل المال، وينتهي الفيلم بمشهد عزاء نرى فيه الحارة المصرية متداعية ومبعثرة بعد هزيمة الرجال: الابن والأب المهزوم أمام ابنه والزوج المهزوم أمام زوجته والعريس المهزوم أمام المجتمع (ياسر جلال). المجتمع فى «الفرح» مهزوم وعاجز وليس له إلا الله، لكنه لا يذهب إليه إلا فى اللحظات الأخيرة. مع تتر النهاية..
في النهاية، يبقى الرهان على فطرة الإنسان، تلك الفطرة التي كانت وما زالت العمود الفقري لروح الإنسان الذي يُبقيه قادرًا على مواجهة التحديات اليومية المُتسارعة التي تلاحقه، لما تحمله تلك الفطرة من قيم تتقاطع بشكل رئيسي مع مفهوم الإنسانية والبشرية الأوسع، والتي تطلق تصورات عن الروابط بين الناس.
إسلام كرّار