مهدي عامل: الماركسية في إطار عربي مهيب
تضعنا الكتابة عن مهدي عامل، بما هي محفوفة بالأخطار، أمام معضلات عدة: أهمها القدرة على مسايرة الحالة الثورية في فكره، دون السقوط في خطاب أيديولوجي مساير أو مناوئ، مخافة جعل القراءة الموضوعية المطلوبة والضرورية، مجرد غطاء لانفعال ذاتي يفتقر إلى أي رصانة معرفية.
في الوقت نفسه، تثير فينا كتابات عامل، من ناحية الشكل، رهبة هائلة بسبب جمالها المهيب. تتسارع دقات القلب قليلًا، مع رعشة عرضية في الأطراف، وأحيانًا يعصف بالجسد ألم فجائي. كل هذا جراء قدرة عامل المبهرة على اللعب باللغة، كأنها أنثى تتغنج بشاعرية مفرطة تارة، وكأنها قذيفة تضرب بِنَى اللغة التقليدية تارة أخرى، فتدمِّر وتمحي ما كان منها، شكلًا ومضمونًا.
يبرز هذا المفكر الماركسي، في فرادته، ذا وجود جدلي، يناقض من منظوره الفذ مختلف أشكال الرجعية داخل بنية المجتمعات العربية، ويجمع في الآن ذاته بين الثقافة في شكلها العلمي وجمالية القلم.
على صعيد الممارسة، كان مهدي عامل «مثقفًا عضويًّا» بالمعنى الذي قصده «غرامشي»، أي إنه تخطَّى حملَه مشروعًا اجتماعيًّا وأخلاقيًّا مناصرًا للفئات الشعبية، إلى الانكباب المطلق على تحقيق الهيمنة لثقافة شعبية مناضلة، بما هي النقيض الطبقي للفئة المهيمنة على وسائل الإنتاج والسلطة (البرجوازية).
من هنا، نستجمع ما تبقى لدينا من شجاعة، محاولين رسم بورتريه لشخص طالما كان نقطة نظرية فاصلة في تاريخ الماركسية العربية. سنعلن، قبل أي شيء، بنوع من الكليشيه: إن مهدي عامل فكرة، والفكرة لا تموت. إذ لو كانت حركة التاريخ، كما ارتأى ماركس وإنجلز، صراعًا للطبقات، وإذا كانت البرجوازية لا تزال مهيمنة اقتصاديًّا وسياسيًّا ومعرفيًّا، فإن عامل يظل حاضرًا أيضًا كإمكانية وشيكة، كما لو كان «شبحًا يجتاح العالم العربي».
الثقافة حركة ضد السكون
ليست «الحضارة» عند مهدي عامل مفهومًا روحيًّا أو مجردًا، وإنما مفهوم يتحدد في ارتباطه المادي التاريخي ببنية المجتمع.
«عاليًا، متعاليًا، بالتأمل يحيا وللتأمل»، هكذا كان الفكر في نظر مهدي عامل، «له الثبات في المطلق، وللتاريخ المادي التغير والحركة».
أي إن شرط التناقض حاضر في التاريخ المادي، كضرورة محركة للتاريخ بما هو سيرورة من تطاحن الطبقات الذي يدفعه إلى الأمام، فيبدع وجوده ويضمن له البقاء. وفي معاكسة هذه الطبيعة ينحدر الفكر إلى هامش الواقع، فيكون رومانسية مائعة أو إذعانًا صوفيًّا أو فلسفة مثالية: وهمًا، ما لم يقم على أي أساس مادي. من هنا ترتسم الثقافة عند عامل ثورة، وتنبني على نقض هذا السكون المثالي، بالتقدمية ضد الرجعية، والشعبية ضد البرجوازية، والحرية ضد الهيمنة، والحركة ضد السكون.
بهذا المنطق يكون الفكر حركة والسكون ظلامية، وهكذا تكلم مهدي عامل في «نقد الفكر اليومي» قائلًا: «قف في الصفر، حدق بعين الصفر، ترى الغامض في الآتي، والواضح في الذاهب في الموت. فالمرئي بهذي العين، ومن موقع ذاك الفكر، هو الماضي في وضوح هو الوضوح الفاشي». في المقابل: «سر في الزمن الثوري (المتغير بتناقضاته)، وحدق فيه بعين الفكر العلمي (المادية الجدلية)، تر الواضح في الآتي، يستقدمه الحاضر بمنطق تناقضاته».
أي سؤال يجب طرحه من خلال هذا التصور حول أزمة «الركود العربي» التي هي في رأي كثير من النقاد أزمة «سكون» لهذا الواقع؟ هل هي أزمة حضارة عربية؟ يجيب مهدي على السؤال بسؤال، وفي كتاب تناول فيه الرد على آراء النخبة العربية في هذا الصدد يطرح ساخرًا: أزمة الحضارة العربية، أم أزمة البرجوازيات العربية؟
ليست «الحضارة» عند عامل مفهومًا روحيًّا أو مجردًا، وإنما مفهوم يتحدد في ارتباطه المادي التاريخي ببنية المجتمع، أي إنها تُفهم من خلال أبعاد المجتمع المادية: السياسة والعلاقات الاجتماعية ونمط الإنتاج. هكذا لفهم حاضر الحضارة العربية، بحسب مهدي عامل، لا يجب الرجوع للماضي، بل دراسته من منطلق الواقع المعاصر العربي الذي هو واقع الإمبريالية ونمط إنتاجها التبعي، وبهذا تكون أي مساءلة للأزمة الحضارية العربية، ما لم تُطرَح في شكلها الطبقي، وما لم تعتمد أدواتها العلمية (المادية والديالكتيك)، مساءلة باطلة، تفتقد إلى أي اختلاف في الرؤى، أو هي بالأحرى لغة طبقة معينة، مهيمنة ووحيدة.
أي تطور يُرجى للحضارة العربية ما دامت المقاربة الوحيدة للقضية مقاربة سكون؟ يتساءل عامل، مُشخِّصًا عوائق هذا الانتقال من طور إلى آخر، في وجود فئة طبقية بعينها، مسؤولة عنه، تناور في تقديم نفسها حلًّا، فيما هي المعنية بتأبيد هذا الواقع، والمنتفعة من عرقلة حركته الحتمية للأمام، وهذه هي البرجوازيات العربية التابعة. هنا يقف المثقف العربي، في رأي عامل، بجانب الرجعية إذا لم يعتمد أدوات علمية في دراسة القضية، أي إذا نظر فيها بعين الواعظ العنصرية، محمِّلًا المسؤولية للإنسان بدل السلطان.
قد يهمك أيضًا: كيف غيَّر كارل ماركس وجه العالم؟
الماركسية بين الشرق والغرب
يلتقي مهدي عامل وابن خلدون في تعريف الحضارة بوصفها انتقالًا من طور مادي إلى آخر، إذ يرى ابن خلدون أنها انتقال من نمط الحياة البدوية أو المجتمع القبلي إلى نمط الحياة الحضرية، أي الحياة الطبقية بتعبير مهدي عامل. وإن كانت هذه المادية الخلدونية تستند إلى فلسفة تجريبية في صيغة أولية، فإن تصور عامل يقوم على أساس أعمق، هو المادية الجدلية بقوانينها الثلاث، كما حددها كارل ماركس.
من هنا يدخل مهدي عامل، ويدخلنا معه، بوتقة صراع الرؤى بين الشرق والغرب، إذ أين يقع الفكر العلمي بين هذين السياقين؟ هل هناك علم للشرق وعلم للغرب، أم إن العلم في مجمله ظاهرة غربية؟ برأي عامل لا هذا ولا ذاك، لأن «الفكر العلمي له طابع كوني، ولا يصح أن يقال عنه غربي أو شرقي».
يعارض عامل بهذه الرؤية كل المنبهرين بالغرب، والقائلين بفروق جوهرية بين العقلين الشرقي والغربي، الذي يُفترض بآخرها أن يكون قادرًا على فهم الظواهر الاجتماعية من الداخل وإدراك جوهرها الميتافيزيقي، فيما يبقى الشرقي رهين ظاهرها الذي يؤصله فقط في اللاهوت.
يضع هذا الموقف عامل في معارضة صريحة لأفكار إدوارد سعيد، الذي يعلن في استشراقه أنه «ليس في وسع أي باحث أن يقاوم ضغوط أمته، ضغوط التقليد البحثي الذي يعمل في سياقه»، هكذا يكون كارل ماركس والماركسية عند سعيد «حالات استثناء. وإن لم تكن استثناءات، فهي تعقيدات وتشابكات شيقة لهذه الشراكة اللامتساوية بين الشرق والغرب»، مستندًا في طرحه إلى موقف ماركس تجاه الاحتلال البريطاني للهند، والذي يبرز متعاطفًا مع الشرق باعتبار الاستعمار قسوة ووحشية صريحة، وفي نفس الوقت معيدًا إنتاج نفس نظرة الاستعلاء الغربي باعتباره الاحتلال مُنضِّجا للواقع الطبقي، ما يجعل خلق ثورة اجتماعية أمرًا ممكنًا.
يرد مهدي عامل بتساؤل: هل القلب للشرق والعقل للغرب؟ منتقدًا بذلك منطق إدوارد سعيد الذي ينضبط بدوره وفق أسس المدرسة التجريبية، فيرى الفكر الغربي كلًّا متماثلًا في مكوناته، فيمكن الحكم على طبيعته كليًّا بالتعميم والقطع. في رأي عامل، يُغفل هذا المنطق التناقضات الأولية المبدعة للفكر، بوصفها تناقضات طبقية تتولد الأفكار من خضم طبيعتها الصراعية.
كان الفكر العلمي عند عامل كونيًّا، لا هو شرقي مغترب عن واقعه المادي، ولا غربي يستشرق ها هنا، في بلادنا العربية.
يرفض عامل فكرة «الأمة» من حيث المبدأ، ويرفض بالتبعية أن يميز هذه الأمة نوع بعينه من الفكر: شرقي أو غربي. إذ إن هذه الأمة تنحل في النهاية إلى طبقات، وينحل فكرها كذلك إلى فكر طبقي، «فهل هو فكر أمة أم فكر الطبقة السائدة (البرجوازية)؟»، يتساءل عامل.
يصل ارتباك هذه النظرة عند إدوارد سعيد إلى مستوى لا يقدر فيه على فهم الفكر إذا كان مناقضًا للثقافة «الغربية» التي افترضها هو كتلة واحدة، وهكذا يقر بأن الماركسية مجرد «تعاطف إحساني» مع الشرق، في نفس الوقت تنظر إليه بعين التعالي الغربي، حين تشترط مسارًا تاريخيًّا محددًا من التناقضات والانتقالات بين الأطوار المادية، أو كما يذكرها كارل ماركس في بيانه الشيوعي: «أسياد وعبيد، نبلاء وأقنان، برجوازية وبروليتاريا».
إذًا، رأى عامل الماركسية فكرًا علميًّا، لا جزءًا من «العقل الغربي»، وهي تحاول درس حركة المجتمعات الإنسانية واستشرافها انطلاقًا من التناقضات القارَّة فيها. وبحسب عامل، لم يسقط ماركس في افتراضات اسشراقية، بل إن سعيد نفسه هو الذي وقع في فخ الاستشراق، حين اعتقد أن المادية حكر على الغرب، ولم ير ماركس الشرق بعين رومانسية، أو يراه مجالًا لفكر ذي طبيعة «روحية».
كان الفكر العلمي عند عامل كونيًّا، لا هو شرقي مغترب عن واقعه المادي، ولا غربي يستشرق ها هنا، في بلادنا العربية.
في نقد الدولة الطائفية
في وقت كان فيه العالم العربي، بمثقفيه، يطرح أسئلة الحداثة فكرًا وممارسة، كانت أصوات أخرى تعلو بخطاب الماضي، مقاومة لضرورات العصر. ما جوهر الماضي العربي الذي اتخذه مثلًا ميشال شيحا سندًا للحاضر والمستقبل في تصوره عن لبنان؟ هذا الجوهر هو الطائفية بوصفها خصوصية لهذه الأرض.
يُعَرِّف شيحا المجتمع اللبناني بأنه مجتمع ائتلاف عائلات روحية، ومن داخل هذا التعريف، من السهل أن ننظر إلى النزاع الطائفي باعتباره مجرد عادة تاريخية، وتشبث بواقع قديم، أي دون أن نحاول بحثها بشكل فعلي أو متعمق، ولا يؤول هذا إلا إلى التطبيع مع وجودها.
في رأي عامل، ليست الطائفية ظاهرة تنتمي إلى المجال الديني، رغم أنها تظهر وتتشكل داخل هذا المجال، وهي لا تجد أصلها في العقيدة، بل في البنى الاجتماعية المادية. ينطلق مهدي عامل من هذا التصور لنقد مفهوم «الطائفة» بما هو أداة لتمويه الصراع الطبقي الواضح في حالة الحرب الأهلية اللبنانية، فيتساءل مستنكرًا: «كيف تكون الحرب طائفية حين يكون الموقف من إسرائيل، مثلًا، محورًا للصراع فيها؟ وكيف تكون طائفية حين يحتدم فيها الصراع بين القوى الرجعية (الطائفية)، وهي من مختلف الطوائف والقوى الوطنية الديمقراطية، وهي أيضًا من طوائف متعددة؟».
بهذا يوجه عامل مطرقة نقده إلى رأس النص الأكاديمي الباحث عن هوية لبنان في الطائفية، فيرد بأن الطائفية ليست أكثر من أيديولوجيا بالمعنى الماركسي، أي سياسة، تتمثل فيها العلاقة بين ما هو اقتصادي (البنية التحتية) وما هو نظري (البنية الفوقية)، لتلتقي في صناعة الواقع، وفي حالة لبنان واقع الحرب الأهلية. هكذا تكون الطائفية، كأي مكون أيديولوجي آخر، عنصرًا من عناصر الهيمنة الطبقية للبرجوازية اللبنانية بنمط إنتاجها التبعي، وأداة لتأبيد شروط وجودها.
على مقاس الطائفية ترتسم فلسطين كذلك، كقضية ذات طابع طائفي/ ديني، وهو ما يعارضه عامل متشبثًا بعنوان لينين الشهير «الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية»، وفي صراع طبقي يحتدم عالميًّا، تصبح القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من نضال الجماهير الشعبية للانعتاق من الرأسمالية، ما يجعلها قضية لا تخص دينًا أو طائفة بعينها، وإنما الكل مَعنيٌّ بها عنايته بالوجود البشري الحر.
في نظرية الحزب الثوري
يقال إن «لويس ألتوسير» استطاع تنقية الماركسية من «الرومانسية التاريخية» التي أكدت موقع الإنسان الفرد، أو الذات، كنقطة ارتكاز للفلسفة، ليطور مذهبه البنيوي الذي أعاد بناء التاريخ ارتكازًا إلى بِنى موضوعية، وجعل الذوات الإنسانية منتَجًا تابعًا لها. بطريقة مشابهة، وإن لم تكن مماثلة، ومتأثرًا بالتطورات التي طالت النظرية الماركسية منذ غرامشي وحتى نظرية التبعية، يحدد مهدي عامل أنطولوجيا الوجود الاجتماعي في «الفعل الطبقي»، بمعنى أن هذا الوجود الاجتماعي هو ذاته ممارسة طبقية، تعبر عن نفسها في مستويات اقتصادية وسياسية وأيديولوجية، وتكون فيه هذه المستويات أبعادًا لصراع طبقي جوهري.
الممارسة الطبقية في جوهرها سياسية، إذ إنها تقوم على أساس الصراع، وتتحدد بحسب ثنائية المُهَيمِن والمُهَيمَن عليه، فعلًا وردَّ فعل. هكذا يرى عامل إمكانية اختزال مستويات الوجود الاجتماعي كلها إلى مستوى السياسي، إذ يُجرَّد كل فعل طبقي من مخاتلته، أي إن كل فعل اقتصادي أو أيديولوجي هو في عمقه فعل سياسي.
تعمل هذه الرؤية على إسقاط الفصل بين المجالات الاجتماعية المختلفة، التي تعمل كتكتيكات تمويه تنتهجها البرجوازية في صراعها ضد قوى الشعب، فيقر عامل في كتابه «مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني»، بأن «نزع الطابع السياسي عن الصراع الطبقي هو الطابع السياسي الخاص بالممارسة السياسية للطبقة المسيطرة. حين يظهر الصراع الطبقي في شكله الرئيسي صراعًا أيديولوجيًّا أو اقتصاديًّا، أي حين يكون المظهر الرئيسي في التناقض السياسي مظهرًا غير سياسي، يمكننا القول إن الممارسة السياسية للطبقة المسيطرة هي الممارسة المسيطرة في تطور صراع الطبقات الاجتماعية».
بهذا الشكل تتمثل السياسة عند عامل محورًا للوجود الاجتماعي، تنصهر فيها كل التناقضات الاجتماعية (عرقية أو طائفية أو دينية أو إثنية أو غير ذلك) في صراع واحد هو صراع الطبقات. لكن أي فعل، على أي مستوى اجتماعي، يعبر عن وجود الجماهير الشعبية بموقعها الطبقي الخاضع؟
كجواب لهذا التساؤل، تنبني نظرية الحزب الثوري عند مهدي عامل، باعتبارها ممارسة سياسية ثورية، تتقاطع داخلها مجمل تنظيراته. وداخل هذه النظرية يفرق عامل بين مفهومين: الهيمنة الطبقية وسيطرة الجهاز، وبشكل أوضح، بين الممارسة السياسية للبرجوازية في أحزابها، حيث تهيمن كل فئة منها على جانب من السلطة من ناحية، وسيطرة الجهاز الجامع لفئات هذه البرجوازية وأحزابها دفاعًا عن الطبقة ككل، أي جهاز الدولة من ناحية أخرى.
يعبر عامل عن هذا التمييز قائلًا إن «سلطة الدولة في خدمة الفئة أو الطبقة المهيمنة التي تمتلكها، أما جهاز الدولة، فأداة سياسية في خدمة الطبقة المسيطرة أو التحالف الطبقي المسيطر، أي إنه الأداة التي بها يتم الإبقاء على علاقة السيطرة الطبقية في إطارها البنيوي القائم»، وهنا تكون فيها وظيفة جهاز الدولة في كليته وظيفة رجعية، تسعى للحفاظ على الشرط التاريخي لوجود الطبقة المهيمنة، فيما تكون السلطة لمن يفوز بها في تطاحن داخلي يحتدم بين فئات البرجوازية على تنوعها.
هكذا لا تبلغ الأيديولوجيا الليبرالية أبعد من ديمقراطية «برجوازية تمثيلية» تتداول السلطة فيها فئات مختلفة من الطبقة البرجوازية، في الوقت نفسه الذي تعمل فيه هذه الديمقراطية على تأبيد أدوات السحق الطبقي ضد الطبقة أو الطبقات الخاضعة. الديمقراطية إذًا واحدة من أدوات الرجعية، على حد القول الساخر للمنظر الماركسي «ليون تروتسكي» في مقاله «الخلقيون والمنافقون ضد الماركسية»: «الأساس الطبقي لھذه الموعظة الفخمة والزائفة (الأخلاق الليبرالية)، ھو البرجوازية الصغيرة المثقفة، والأساس السياسي ھو عجزھم واضطرابهم في وجه الرجعية المتقدمة».
البرجوازية الصغيرة في نظر عامل، بأدوات إنتاجها المركبة والهجينة، لا تمتلك نمط إنتاج متسق يحدد لها كينونتها في الصراع الطبقي. لهذا تصبح أفق هيمنتها محدودة، وإن كانت ناجحة بخطابها الأخلاقي في تسلق هرم جهاز الدولة. لكن مع كل خطوة في ارتقائها هذا الهرم، تصبح أكثر تماهيًا مع البرجوازية في كليتها.
في اختلاف نوعي مع ما سبق ينبني الحزب الثوري في نظرية مهدي عامل، أي حزب العمال والكادحين، كتنظيم ثوري. فليس الحزب الثوري جهازًا لتأبيد شروط طبقية معينة، ولا هو ذراع للدولة تابع لتصوراتها البرجوازية، بل هو التعبير السياسي عن الطبقة العاملة، والتي تستطيع من خلاله هدم البنى القائمة ومناقضة كل وجود سياسي حالي، وحينها فقط تنبثق الحرية من الثورة، وتضمحل كل أشكال الصراع الطبقي، ومن ثمَّ كل تمثلاته: الفاشية والطائفية وسكون الفكر.
سفيان البالي