تعاطفك لا يكفي: هل الإحساس بالآخرين غير أخلاقي؟
يعتقد معظم الناس أن التعاطف قد ينتج عنه خير كبير، وأن حل مشكلات العالم ربما يكمُن في مزيد من الود بين البشر، لكن أستاذ علم النفس «بول بلوم» يرى أن التعاطف قد يكون محدودًا ومتحيزًا، وربما لا يراعي آلام الآخرين كما نظن، ويتساءل في مقاله المنشور على موقع «TED Ideas» عمَّا إذا كان التعاطف يحسن حال العالم فعلًا.
يميل الناس إلى تصديق هذا لأن التعاطف يدفعنا للتعامل مع معاناة الآخرين كما لو كانت معاناتنا الشخصية، مما يحفزنا للتصرف حيال هذه المعاناة من أجل إنهائها. لكن التعاطف يشبه بقعة ضوء نوجهها نحو موضوع بعينه دونًا عن غيره من الأشخاص أو الكائنات، وبقعة الضوء هذه تتميز باهتمامها القاصر، وهذه إحدى مشاكل التعاطف: الاعتماد عليه غير ممكن في عالم مليء بالأشخاص المحتاجين، وفي عالم قد تؤدي فيه مساعدة شخص إلى معاناة أكبر في المستقبل.
علاوةً على ذلك، تضيء بقعة الضوء ما نوجهها نحوه فقط، لذا فالتعاطف يعكس تحيزاتنا. فمثلًا، حتى مع معرفتنا أن معاناة أحد جيراننا سيئة بقدر معاناة شخص يعيش في دولة أخرى، إلا أن التعاطف عادةً يكون أسهل كثيرًا مع الأقرب إلينا أو الأشبه بنا، أو الأكثر جاذبيةً وضعفًا وأقل تخويفًا.
لكل هذه الأسباب، يكون التعاطف محدودًا ومقصورًا على «الأفراد». فبطبيعته، لا يدفعنا التعاطف إلى حساب تأثير تصرفاتنا في «المجتمعات» مثلًا، ولا البيانات الإحصائية أو التكاليف والفوائد، وكلها تصبح ضرورية في عالمنا المعقد، الذي يمكن لأفعالنا فيه أن تمتد بتأثيرها في الزمان والمكان بطرق يصعب التنبؤ بها.
تعاطفنا لا يكفي أبدًا
تهتم الحكومات والأفراد بحوادث القتل الجماعية، فيما يتضاءل الاهتمام بحوادث القتل اليومية، التي تتفوق بدرجة هائلة في عدد ضحاياها.
تكمن المشكلة الحقيقية في أننا لا نملك أبدًا ما يكفي من التعاطف تجاه الآخرين، فيجب علينا، كما نتعاطف مع من نحب، أن نتعاطف مع الملايين في دول العالم، بنغلاديش وبيونغ يانغ والسودان، ويجب كذلك أن نتعاطف مع كبار السن الذين لا يملكون ما يكفي من الطعام، وضحايا الاضطهاد الديني والفقراء الذين تعوزهم الرعاية الصحية المناسبة، والأغنياء الذين يعانون القلق الوجودي، وضحايا الاعتداء الجنسي، والمتهمين ظلمًا بالاعتداء الجنسي، لكننا ببساطة لا نستطيع.
يمكننا، فكريًّا، تقدير حياة كل هؤلاء وأخذهم في الاعتبار عند اتخاذ القرارات، لكن ما لا نستطيع فعله هو التعاطف معهم جميعًا، وأحيانًا لا يمكننا التعاطف مع شخصين أو ثلاثة في الوقت ذاته، لأن التعاطف بالنسبة إلى البشر انتقائي جدًّا، يصبح قويًّا للغاية مع من نحبهم، ويخفت مع المختلفين أو الغريبين عنا، أو المخيفين بالنسبة إلينا.
هذه «الرياضيات الأخلاقية المنحرفة»، في رأي بلوم، جزء من السبب وراء اهتمام الحكومات والأفراد بحادث إطلاق نار على مدرسة ابتدائية في ولاية كونيتيكت الأمريكية، فيما يتضاءل هذا الاهتمام كثيرًا إذا تعلق الأمر بحوادث القتل اليومية، التي تتفوق بدرجة هائلة في عدد ضحاياها.
تستجلب حوادث إطلاق النار على مجموعات كبيرة، في المدارس أو الملاهي أو غيرها من أماكن التجمع، قدرًا هائلًا من التعاطف، مع أن إيقاف تلك الحوادث في بلد مثل الولايات المتحدة، بحسب المقال، لن يؤدي إلى خفض معدلات جرائم القتل إلا بنسبة 1% فقط، بحسب المقال، ويوضح هذا إلى أي مدى يُوجَّه تعاطفنا عادةً إلى موضوعات فردية وغير ذات تأثير حقيقي.
يوضح المقال أنه في العام الذي وقعت فيه جريمة كونيتيكت، كان عدد أطفال المدارس المقتولين في حوادث فردية في ولاية شيكاغو أكبر من كل ضحايا كونيتيكت من الأطفال للعام نفسه، ولم يذكرهم أحد، فيما أُغرقت كونيتيكت بالتبرعات حتى عجزت حكومة الولاية عن استقبالها وتوزيعها.
اقرأ أيضًا: العالَم لا يشعر بالتعاطف.. على الأقل جزء منه
مزيد من التعاطف مع الأرقام الكبيرة فقط
التعاطف لا يبالي بشكل خاص بالعواقب التي نراها في الإحصائيات، مثلما يبالي بتلك التي تقع على أفراد معينين.
يدعونا بول بلوم إلى تخيُّل أننا نعرف بوجود لقاح معيب تسبب في مرض فتاة صغيرة لطيفة عمرها ثمانية أعوام، تُدعى «ريبيكا». إذا رأينا ريبيكا تعاني، واستمعنا إليها وإلى عائلتها، فإننا سنمتلئ بالتعاطف، وسنوَدُّ التصرف حيال الأمر. لكن لنفترض أن إيقاف برنامج اللقاح هذا سيتسبب مثلًا في وفاة 12 طفلًا آخرين بطريقة عشوائية؟ هنا يصمت التعاطف، لأن البشر يعجزون عن التجاوب مع إحصائية مجردة، لدرجة أننا قد نختار أحيانًا أن يموت عدد كبير ومجهول من الأطفال على أن يموت طفل واحد نعرف مجرد اسمه.
يشير بلوم إلى أن مثل هذه الاختيارات المغلوطة تحدث فعلًا، ففي عام 1987 مثلًا، كانت ولاية ماساتشوستس تطبق نظامًا للاستئذان أو «الإجازات» في السجون، وكان يُسمح للمساجين بالخروج لفترة من أجل غرض ما، كحضور مأتم أو زيارة مستشفى أو مقابلة عمل، ثم العودة إلى السجن مجددًا.
عندما خرج «ويلي هورتون» من السجن وفق هذا القانون، اغتصب امرأة بعد أن هاجم خطيبها وقيَّده، مما أدى إلى هجوم عنيف على نظام الإجازات، أدى إلى إلغائه وكان جزءًا من أسباب خسارة «مايكل دوكاكيس»، حاكم ولاية ماساتشوستس آنذاك، في الانتخابات الرئاسية أمام جورج بوش الأب عام 1988.
دار الجدل وقتها بشأن هورتون، لكن ذلك الجدل تجاهل الإحصائيات والأرقام التي أشارت إلى أن نظام الإجازات أسهم في تخفيض نسب عودة المساجين إلى ارتكاب الجريمة، إذ يشير بلوم إلى نتائج تقرير أكدت انخفاض النسبة 15% في الولاية منذ إدخال نظام الاستئذان، لكن التعاطف مع ضحية هورتون كان أشد من قدرة أي رقم على الإقناع.
قد يعجبك أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع اﻵخرين؟
هل التعاطف غير أخلاقي؟
هذه المشكلات تتجاوز السياسة، وما يهم حقًا بالنسبة لتعاملاتنا اليومية ليس التعاطف، بل قدرات مثل ضبط النفس والذكاء وانتشار أوسع لنوع من الشفقة. يمكن للأشخاص الذين يتعاطفون للغاية أن يتورطوا في معاناة الآخرين، وإذا تشبعت بمعاناة الآخَر تكون أقل قدرةً على تقديم المساعدة له على المدى الطويل، لأن تحقيق الأهداف طويلة المدى يتطلب إيقاع ألمٍ قصير المدى، حتى تتمكن من مواصلة المساعدة.
في رأي بول بلوم، يجب على كل أبٍ صالح مثلًا أن يُرغم ابنه على فعل أشياء ويمنعه من فعل أخرى، وهذا قد يجعل الطفل تعيسًا الآن لكنه قد يكون مفيدًا له في المستقبل. المهم أن جعل الأطفال يعانون لوقت مؤقت من أجل مصلحتهم الخاصة شيء يمكن فعله عن طريق الحب والذكاء والشفقة، لكن التعاطف قد يعيقه.
لا يعني هذا أن التعاطف على إطلاقه أمر سيئ، إلا أنه قد يكون سيئًا من الوجهة الأخلاقية أحيانًا، إذا أدى إلى تعاسة مستقبلية للشخص الذي نتعاطف معه، أو تسبب في بؤس عدد أكبر من الناس المجهولين، على حساب رعاية نقدمها إلى مجموعة أصغر من الناس نعرفهم بالاسم.
آية علي