بين الشيوعية والتعصب: كيف آمن لينين بالرأسمالية ثم انقلب عليها؟
يُنظر إلى «فلاديمير لينين»، مؤسس الدولة السوفيتيية، اليوم باعتباره مفكرًا يملأ الصفحات بكلام مبالَغ في نقده للرأسمالية من كل جوانبها، ومبالَغ في مثاليته عن عظمة العمال والفلاحين والشعب، وعظمة روسيا التاريخية التي ستقود العالم وتنير الطريق لأوروبا، نظرًا للأصالة والعراقة والروح التي تمتاز بها، لكن يغيب عن بال كثيرين أن هذا بالضبط ما كان يسخر منه لينين في بداية مسيرته، بل أنه وصف أصحاب تلك الدعاوى بـ«الشعبويين الرومانطيقيين الطوباويين (الساعين إلى تحقيق مُثُل عليا بعيدة عن الواقع)».
من كتابات لينين شديدة الأهمية كتابه «أي ميراث نجحد؟»، الذي ألفه عام 1897 للرد على مفكرين روس شنُّوا هجومًا على «التلامذة الشباب»، أي أتباع ماركس وإنغلز، وانتقدوهم بأنهم أصحاب فكر خارج عن الحياة والنضال الروسي، واتهموا الماركسيين بأن أفكارهم مستوردة وغريبة عن الفكر الروسي، وتمثل قطيعة مع الكتاب والرواد الروس الكبار في القرن التاسع عشر.
يجيب لينين على هذه الاتهامات بأن الشيوعيين هم الورثة الحقيقيون لأفكار الكُتاب الروس الكبار المستنيريين، ويرى أن العكس هو الصحيح، أن مهاجمي الشيوعية الشعبويين هم من ينكرون في حقيقة الأمر تراث الكُتاب التقدمي، وفي إجابة لينين يظهر بجلاء إدراكه فوائد دخول الرأسمالية في الحياة الروسية.
آمن لينين أن المفكرين التقدميين الروس، خصوصًا في العقدين السادس والسابع من القرن التاسع عشري، قد رأوا في أوربا نموذجًا يجب على روسيا الاقتداء به، وكان لديهم إيمان بوجوب المضي في الإصلاح شوطًا أكبر حتى مما نُفِّذ، وليس إلغاء الإصلاح والعودة بالقنانة والرجوع إلى النظام المشاعي القديم في روسيا، الزمن الذي يستدر دموع الشعبويين باعتباره روح البلد الضائعة.
لم يحن لينين لزمن كانت فيه الدنيا خيِّرة قبل أن تصاب الأمة الروسية بعدوى الرأسمالية، بل استهزأ بأتباع هذا الرأي، وأكد أن الوضع الجديد أفضل.
يورد لينين مقاطع كاملة لكاتب روسي هو «سكالدين» لإيضاح طريقة تفكير الكُتاب الروس في العصر السابق، عصر الإصلاح والنهضة، وكيف كانوا ينظرون إلى الحياة القديمة في روسيا وإلى الأسلوب الزراعي الروسي «المشاعة»، فسكالدين يرى أن «العائلة البطريركية، وامتلاك الأرض المشاعي، وقانون العرف والعادة، كل ذلك إنما حكم عليه التاريخ بالزوال حكما مبرمًا».
ينتقد سكالدين كذلك المتشبثين بالحياة القديمة لروسيا، ويقول إن «أولئك الذين يودون أن يديموا ويخلدوا لنا هذه الآثار الموقرة من القرون الغابرة، يثبتون بذلك أنهم أقدر على الولع بفكرةٍ ما، من النفاذ إلى الواقع وفهم سير التاريخ».
يدافع الرجل عن التطور الرأسمالي لأنه يعتقد أنه «من الأسباب التي تؤخر تطور عمل الفلاحين، وبالتالي رفاهيتهم، علاوةً على جهلهم وعلى الضرائب، أنهم مربوطون بمشاعاتهم وبحصصهم من الأرض. ربطُ اليد العاملة في مكان معين وتقييد المشاعة العقارية يسفران عن نشوء وضع غير ملائم إطلاقًا لتطور العمل والمبادرة الشخصية والملكية العقارية الصغيرة».
يعقب لينين على كلام سكالدين بالقول إن «التلامذة يدعمون تمنيات سكالدين لأنها تعبِّر عن مصالح الطبقات الاجتماعية التقدمية، عن المصالح الحيوية لعموم التطور الاجتماعي في السبيل المعني، أي في السبيل الرأسمالي. التلامذة لا يتهجمون على الميراث، بل على ما أضافه الشعبويون من رومانطيقي وبرجوازي صغير إلى الميراث».
في ذلك العهد كان لينين ينظر إلى الرأسمالية كضرورة تاريخية تجلب معها عددًا من المنافع وتدفع بالبلاد إلى التقدم، رغم التناقضات التي تخلقها، وورغم الظلم والاضطهاد الواقع على العمال في النظام الرأسمالي. لينين ليس لديه حنين إلى زمن سابق كانت فيه الدنيا عادلة وخيِّرة، قبل أن تصاب الأمة الروسية بعدوى الرأسمالية. بالعكس، يستهزئ بأتباع هذا الرأي، ويؤكد أن الوضع الجديد في مجمله أفضل من العهود القديمة.
يستشهد لينين بكاتب آخر من كُتاب العصر السابق هو «إنغلهارت» لوصف أي نوع من الريف كان الريف الروسي، ولانتقاد نظرة الرومانسيين إلى هذا الريف، ويقول إن «الشعبويين، على اختلاف تلاوينهم، أسهموا بقسط كبير جدًّا في تجميل المشاعة، وفي جعلها مثالًا أعلى، وليس عند إنغلهارت أي شيء من هذا القبيل، فهو يكشف دون هوادة القناع عن فردية المزارع الصغير المدهشة، بدلًا من أن يلوك الجمل الشائعة عن روح فلاحنا المشاعية، وبدلًا من أن يعارض هذه الروح بفردية المدن».
«وهو يبين بكثرةٍ من التفاصيل أن فلاحينا تمتلكهم الروح الملاكية المتطرفة حين يتعلق الأمر بالملكية، وأنهم يكرهون العمل المشترك، وذلك لدوافع شخصية أنانية، فحين يجري العمل بصورة مشتركة، فإن كل فرد يخشى أن يشتغل أكثر من اللازم».
بالطبع، آراء لينين التي ترى في الرأسمالية إنجازًا بشريًّا يجب المرور به ليست شيئًا يخصه هو فقط، فكتلميذ مخلص لماركس وإنغلز، اعتقد لينين، مثلهما، أن الشيوعية لن تأتي فقط إلا بعد المرور بالرأسمالية، بل بعد أن تبلغ الرأسمالية مداها الأقصى.
لذا كان لينين في ذلك العهد يدفع نحو إعطاء الفرد الروسي حريته القصوى في المبادرة والعمل، ويسخر من الرومانطيقيين الشعبويين، ومما يصفه بولعهم بتنظيم الإنتاج، ويشترك مع إنغلهارت في تهكمه من كل محاولة لتوفير سعادة الفلاح عبر تنظيم يأتي من الأعلى، ويشاركه سخريته من «حِكمة الطبقات القائدة وضميرها ومعرفتها ووطنيتها».
يرفض لينين أي إجراء سلطوي يتدخل في حياة الفلاح بحجة أن «الخير في ذلك»، مثل تجريم بيع المسكرات في الطواحين، والتدخين في غابة الصنوبريات، وصيد سمك الكراكي في الربيع، وقطع أشجار البتولة من أجل مايو. يرفض لينين الوصاية على الفرد الروسي، وفي أثناء قراءتك لكتاب لينين هذا، تتوقع أن يصرخ في الفقرة القادمة: «اللعنة، دعه يعمل، دعه يمر».
إلى أي عالم جديد نتجه؟
يلخص لينين سمات الرومانطيقيين الشعبويين الروس في ثلاثة ملامح:
- الاعتقاد بأن الرأسمالية في روسيا ظاهرة انحطاط، ظاهرة تقهقر، ومن ثَمّ رغبتهم في تأخير ووقف الرأسمالية، وإلى غير ذلك مما يسميه لينين «الولولات الرجعية».
- الاعتقاد بأصالة النظام الاقتصادي الروسي بوجه عام، والفلاح مع مشاعيته وتعاونيته بوجه خاص، والاعتقاد بأن المشاعة الفلاحية أرقى من الرأسمالية وخير منها.
- تجاهل الصلة بين المثقفين والمؤسسات الحقوقية السياسية في البلاد، والمصالح المادية لطبقات اجتماعية معينة. بمعنى احترام وتقديس الشعبويين الرومانطيقيين للمثقفين كقوة للخير مطهرة من أي مصالح، وأن هذه القوة قادرة على «جر التاريخ في اتجاه آخر»، و«صرفه من طريقه»، أي أن الرومانطيقيين يتجاهلون العوامل المادية والاجتماعية، ويبالغون في تعظيم الكُتاب والمثقفين كأن بيدهم تغيير العالم باستخدام الكلام الطيب.
اللافت أنه بعد هذه الراديكالية من لينين، وتشبثه بفكرة ضرورة الرأسمالية كتمهيد للشيوعية، فإنه حين تمكّن حزبه من الاستيلاء على السلطة ضرب بهذه الثوابت عرض الحائط، وأطلق على الداعين إلى التأني والتمهل في الانتقال من الرأسمالية أوصافًا مثل «الجبناء» و«الخونة» و«الانتهازيين».
تبعًا للمعتقَد الماركسي، فإن روسيا، بسبب تأخرها الصناعي والرأسمالي، من أواخر البلدان الأوربية والمتقدمة التي يمكن أن تقوم الشيوعية فيها.
وربما بسبب إغفال لينين لهذا المبدأ الرئيسي للاشتراكية العلمية، سارت الثورة البلشفية والدولة السوفييتية في اتجاه مظلم لم يكن يتخيله أحد. فبدلًا من إعطاء الحرية للعمال، انتزعت الدولة السوفييتية أي عفوية للعمال، وألزمتهم بالتقيد بالأوامر الآتية من القيادة المركزية الشيوعية. وبدلًا من خضوع العامل للنظام خلال ساعات العمل في المصنع، صار العامل الروسي خاضعًا للسلطة في المصنع والشارع والمقاهي والبارات والكنيسة، وفي أي مكان يمكن أن يذهب إليه.
احتاجت روسيا إلى الرأسمالية قبل الاشتراكية، لكن الشيوعيين لا يصلحون لقيادة الرأسمالية، فقفزوا فوق هذه المرحلة ليبرروا وجودهم في السلطة.
ثورة أكتوبر البلشفية سبقت قدومها ثورتان كبيرتان، هما ثورة 1905 وثورة فبراير 1917، والأخيرة جاءت في خِضم حرب عالمية طاحنة.
الثورات الاجتماعية تقضي في المعتاد على النظام الموجود، الذي كان يربط حركة المجتمع ببعضها، فينطلق في أذهان مواطني عهد الثورة سؤال: أيُّ عالم يبدأ في الظهور بعد نهاية النظام القديم؟ ما صفة العالم الذي سيقضي فيه الشعب عمره ويتحدد به مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة من بعده؟
إثر التمكن من إسقاط النظام، وبعد انقطاع الخيط الذي يربط الأشياء ببعضها، وبعد زوال السلطة التي تعطي لكل شيء اسمًا ومعنى، يحين الوقت لخلق عالم من العدم ومنح الأشياء أسماء جديدة. تلي الثورة لعبة «كراسٍ موسيقية»، يعلم المشتركون في السياسة أن موسيقى الثورة ستتوقف عاجلًا أو آجلًا، وتنتهي الاضطرابات إلى فوز واحد من اللاعبين بكرسي الحكم، هذا الفائز وحده لديه الحق في إصدار الأوامر وبناء العالم الخاص به.
وإذا كانت الظروف الاقتصادية لروسيا لا تسمح لها بإنشاء دولة اشتراكية قبل المرور بمرحلة الرأسمالية، وبما أن الشيوعيين لا يصلحون لقيادة الرأسمالية، كان من المنطقي للبلاشفة أن يقفزوا فوق مرحلة الرأسمالية ليبرروا وجودهم في السلطة، ثم ينظرون بعدها إلى هذا «القفز التاريخي» جاعلين منه استراتيجية أكثر إخلاصًا للماركسية في رأيهم.
وبما أن الواقع الروسي كان بعيدًا عن المثال الشيوعي، فالحل هو إعادة هندسته اجتماعيًّا واقتصاديًّا بالقوة، لمحاولة اللحاق المتأخر بالمثال، أو على الأقل إيهام الناس بإمكانية تحققه.
الهندسة الاجتماعية
«إعادة بناء المجتمع مشروع كبير، يتعين أن يسبب إزعاجًا شديدًا لعديدين وعلى امتداد طويل من الزمن، وبناءً على هذا، لَسَوف يصُم المهندس اليوتوبي آذانه عن العديد من الشكاوى، ولَسَوف يكون من ضمن مهامه في الواقع قمع اعتراضات غير معقولة، ولَسَوف يقول مثلما قال لينين: لا يمكنك أن تصنع عِجة دون كسر بعض من البيض». من كتاب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» لـ«كارل بوبر».
أسلوب «الهندسة المتدرجة» لا يسعى لدولة مثالية، بل يزيل أسباب التعاسة ويكافح ضد شرور المجتمع الأكثر إلحاحًا.
اعتاد لينين أن يسخر من التعصب القومي، وكان يرى في الوطنية الشوفينية تدنيًا في الفكر، لكن الشيوعية، أكثر الأفكار عقلانيةً وتقدميةً وماديةً كما نظر إليها الشيوعيون، ارتدت آخر الأمر إلى المصدر ذاته الذي تنبع منه الوطنية المتعصبة، الحلم في كيان جميل رائع نعيش فيه مهما كان الواقع الفردي للمواطنين.
المهم أن هذا الشيء الذي بذلنا جهودنا فيه ينمو ويكبر ويكسب الصراعات مع الدول وكيانات المجتمعات والشعوب الأخرى وأصحاب التيارات المخالفة لنا، لا يهم إن حدث قمع لحرية آلاف الأفراد أو عانت الأغلبية من الفقر وتمتعت الأقلية بميزات العهد الجديد، المهم أن الكيان الجديد في مجمله بخير كي يمكننا الضحك وإغاظة الأعداء. تَحَوُّل الطبقات إلى جماهير كان أساس «التوتاليتاريا (الشمولية)»، مثلما تقول «هانا آرنت».
في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، يستخدم «كارل بوبر» مفهمومَين في ما يتعلق بالمشروعات السياسية الطموحة:
- الهندسة الكلية: إحداث تغيير على المجتمع ككل من أجل الوصول إلى المثال الذي ينادي به العقل بهدف تخليص المجتمع من كل ما فيه من بشاعة من الجذور.
- الهندسة المتدرجة: قد تأمل أو لا تأمل في أن يقيم الجنس البشري في يوم من الأيام دولة مثالية، لكنها بدلًا من السعي إلى تحقيق دولة مثالية والوصول لسعادة الإنسان، ستجتهد لإزالة أسباب التعاسة أولًا، وستكافح ضد شرور المجتمع الأكثر إلحاحًا.
مثلًا، سيغير المهندس المتدرج برامج الصحة والتأمين عن العمل والعدالة، أو برامج إصلاح التعليم، وفي هذه الحالة، إن أخطأ لن يكون خطأه صعبًا في التعديل أو التحسين، مقارنةً بالمهندس الكلي اليوتوبي الذي غير كل شيء دفعة واحدة.
رأى كارل بوبر أن السؤال الفلسفي الذي سيواجه المهندس اليوتوبي هو: هل الغاية تبرر الوسيلة؟ ربما كان هذا سؤالًا سهلًا بالنسبة إلى البلاشفة في فترة الثورة، ربما السؤال الأكبر الذي واجهه لينين والبلاشفة كان: هل الشر ضرورة حقًّا؟ هل يجب علينا الصبر على الرأسمالية؟ هل يجب علينا الرضا بوجود أغنياء وفقراء، وكبار مُلاك ومعدمين؟ هل علينا السكوت والوقوف مكتوفي الأيدي والإذعان لفظاعات الحياة؟
الحركة كجوهر للسياسة
«الحملة الدعائية عصية على المَسّ، بسبب الحجج القائمة على واقع تَعِد الحركات بإبداله». من كتاب «أسس التوتاليتاريا» لـ«هانا آرنت».
الحركة البلشفية، مثلها مثل الحركات التوتاليتارية في التاريخ، كالفاشية والنازية وداعش، لا تمتلك أيديولوجيات محددة وثابتة، وحتى إن انطلقت من نظرية ما، لديها قدرة مهولة على الانفلات منها، ولا يحاكِمها أغلب أعضائها بمقدار تطبيقها للنظرية.
الحركات التوتاليتارية جوهرها، كما تقول هانا آرنت، فكرة النشاطوية، أي الولع بأداء أنشطة وأفعال بدلًا من النظريات والحجج الكلامية، ومن الممكن تشخيص هذه الحركات بأنها مصابة بـ«فيتشية الحركة» (الإيمان بوجود قوى هائلة سحرية في شيء ما)، وتقدس التنظيمات المتطرفة الحركة باعتبارها وحيًا وكشفًا روحيًّا، عندما يتعرض له «الشخص المختار» يقفز من النشوة، إيمانًا منه بأن الروح القدس قد نزلت عليه.
«فيدور دوستويفسكي»، الروائي الروسي، حين أراد كتابة رواية عن الحركات السياسية التي كانت تعج بها روسيا، اختار لها عنوان «الممسوسون».
المنتمون إلى تنظيمات توتاليتارية، كالحزب البلشفي للينين، من الصعب عليك أن تناقشهم أو أن تفتح معهم الكتب لتثبت حجتك، سينظرون من أعلى إليك باعتبارك شخصًا مأسوفًا عليه لم تشمله النعمة، لذا فمن المستحيل أن يفهم، وبدلًا من الإجابة عليك سيصنعون فعلًا مدهشًا تحتار في تفسيره، مثل تصفية قادة حزبهم ذاته، أو التعاون مع آخِر شخص يمكن توقعه، كتعاون ستالين مع أدولف هتلر، قبل أن ينقض هتلر العهد.
الفكرة الوحيدة الراسخة عند المنتمين إلى التنظيمات التوتاليتارية أنهم يحيون حياة عظيمة، وأنهم وجدوا السعادة، وأن عليهم المُضي على هذا النحو ما داموا يستطيعون.
عمر علاء