شام يا عمَّان: طريق سوريا الذي ابتلعته الحرب
«شام يا عمَّان، شام يا عمَّان»، نداء طالما كان يسمعه كل أردني بمجرد وصوله إلى أول منطقة العبدلي وسط العاصمة عمان، حيث يزعق سائقو السيارات الذاهبة إلى دمشق لأكثر من 70 رحلة في اليوم.
لم يعد صوت «شام يا عمان» يتجاوز حناجر السائقين، الذين كانوا يمثلون جسرًا يوصِّل الأردنيين إلى محبوبتهم دمشق عاصمة سوريا، حيث يقضون إجازات نهاية الأسبوع، أو حتى لتذوق «كاسة بوظة» من محل الحلويات «بكداش» في نفس اليوم «صد رد»، أو حتى لتجهيز العروس من هناك.
في 2018، تكون سبعة أعوام قد مضت على انقطاع العلاقة الأسرية بين الأردنيين وجيرانهم السوريين، منذ بدء الحرب في سوريا. أعوام لم تكن قاسية فقط على السوريين، بل أيضًا على الأردنيين الذين ربطتهم علاقة قوية بالأرض الشامية.
طالما كانت سوريا بالنسبة إلى الأردنيين ذلك المكان الذين يقضون فيها أوقاتًا قادرة على أن تأخذ حيزًا جميلًا في ذاكرتهم.
كان موقف السيارات في منطقة العبدلي يعج بالمسافرين، الذين يخرجون منذ ساعات الفجر الأولى للتمكن من حجز مقعد في السيارات التي توصلهم إلى دمشق. خُلوُّ الموقف من الركاب مشهد موجع لا يعرفه إلا كل أردني ذاق طعم مرارة الحرب، وقُطعت صلة رحمه في سوريا قهرًا لا رغبةً.
السائق أبو جهاد يسترجع ذكرياته عن تلك الأيام، حين كان يقود سيارة عمومية يوميًّا من عمَّان إلى الشام. يقول إنها «أجمل أيام حياتي دون مبالغة. ما يزال صوت شام شام يغرد في مسامعي».
يصف أبو جهاد لـ«منشور» حركة المسافرين الأردنيين النشطة عندما كانوا يذهبون، ويصر على كلمة «يذهبون» بدلًا من «يسافرون»، إلى سوريا بـ«الضوضاء الجميلة»، فطالما كانت سوريا بالنسبة إلى الأردنيين ذلك المكان الذين يقضون فيه أوقاتًا قادرة على أن تأخذ حيزًا جميلًا في ذاكرتهم: «فيه ناس كانوا يروحوا عالشام عشان يشتروا خُضرة ويرجعوا».
أما الآن فـ«الحال مو زي قبل ولا حتى شبهه»، وأبو جهاد، كغيره من السائقين، باع سيارته التي كانت شاهدة على قصة عمانية-شامية، ويعمل في مجال قطع غيار السيارات. بالنسبة إليه، سوريا كانت قصة جميلة، لكن الواقع مختلف، والحقيقة مؤلمة. هناك وجع كبير ينمو، وجع اللاعودة إلى سوريا وذكرياتها.
ربما تكون عبارة «سَئا الله»، التي يتداولها الشاميون بمعنى التحسُّر على الأيام والذكريات الجميلة، منصفة إلى حد ما لوصف حالة العبدلي اليوم، فالمنطقة يخيم عليها سكون تسبقه ذكريات تتحدث عن قصة خط عمَّان الشام، ذلك الذي يكاد يكون علامة مسجلة.
أطبق الصمت على المنطقة بعد أن كانت أصوات السائقين تصدح معلنةً قرب الانطلاق إلى الشام. كان صوتًا اعتاد عليه الأردنيون كلما مروا من منطقة العبدلي، جزءًا من ثوابت تلك المنطقة لا يقل أهميةً عن وجود مجلس النواب هناك.
ذكريات تمر على بال الشباب ربما أكثر من كبار السن، فلم يعد الشباب الأردني يردد عبارة «يالا عالشام؟»، التي اعتادوا إصدارها دون تخطيط مسبق، تتبعها حقيبة صغيرة وجواز سفر ومصروف «على قد الحال»، وأقدام تحط من عمَّان إلى الشام.
«ياما كنا ننزل ع الشام بدون تخطيط، والله كانت أحلى أيام». يقول الشاب مصطفى قبيلات متحسرًا على أيام لم تكن وقتها للحدود قيمة بين الأردنيين والسوريين، مستذكرًا نهايات الأسبوع عندما كان يخرج فيها مع عائلته دون تخطيط مسبق لتناول «أطيب طعام غداء» في منطقة باب توما.
يقول مصطفى، موضحًا اشتياقه لتفاصيل كثيرة في ذكرياته عندما كانت الشام بقعة الفرح بالنسبة إليه وإلى الأردنيين: «سمعت عن فيينا كثيرًا، وعن جمالها، وأكاد أجزم أنها لا تفوق باب توما جمالًا».
سبع سنوات مضت على الحرب في سوريا، ونال الشقيق الأردن قدرًا كافيًا من الغصة والألم. كُبت نداء «شام يا عمان»، وأُحبطت تلك العلاقة الأخوية التي كان صدى متانتها أقوى من ذلك النداء. معاناة وحسرة في وقت لا يبدو فيه أن الألم سينتهي قريبًا.
غادة كامل الشيخ