تطور أم تشوه: عن وسائل التواصل الاجتماعي وطرق التواصل البشري
في ظل مركزية مواقع التواصل الاجتماعي في العصر الذي نعيشه، يشارك كثير من الأزواج تفاصيل حياتهم الخاصة على هذه المواقع بشكل يومي. وبينما يرى بعضهم هذا السلوك غير مفهوم ومحرِجًا بعض الشيء، أي التحدث علنًا عن المشاعر طيلة الوقت ودون وجود سياق، يراه آخرون طبيعيًّا، بل ومحببًا، ويدل على حميمية ما.
قبل إصدار الأحكام، وهو الشق الأسهل في هذه المسألة، يتطلب منا الأمر أن ننظر إلى الدوافع النفسية التي أدت إلى انتشار مثل هذه الظاهرة، ومعرفة تأثيرها في تصوراتنا عن مفاهيم معينة، كالحب والعلاقات الإنسانية والمهارات الاجتماعية في التواصل مع شركائنا، سواء من خلال الشاشات أو من دونها.
أزواج سعداء أم مُدَّعون؟
انتشر عدد من الأبحاث العلمية في مجال الدراسات النفسية حول الظواهر المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي وطرق تفاعلنا معها.
في معرض البحث عن أسباب ظاهرة العلاقات على فيسبوك تحديدًا، والتي تتمثل في مشاركة الصور وتعبيرات الحب والتهنئة، والأسباب التي تجذبنا لمشاركة حياتنا تحت ستار تفاعل الأسرة والأصدقاء والمعارف، فلا جدال في أن الأمر يتعلق بإظهار الذات أو «الأنا». بل يمكن القول، طبقًا لعدد من الدراسات النفسية، أن جُل ما نفعله هو الصراخ: «أنا موجود. أنا مهم».
يشارك البعض حياتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي لإعطاء الناس فكرة أفضل عنهم وعما يهتمون به.
في دراسة نشرتها مجلة «الشخصية وعلم النفس الاجتماعي»، نرى أن أولئك الذين يفتقدون الاستقرار في علاقاتهم بشركائهم هم الأكثر ميلًا للحديث عن تلك العلاقات على وسائل التواصل الاجتماعي. ويوضح ملخص الدراسة أنه عندما يزداد إحساس بعض الأفراد بعدم الأمان تجاه مشاعر شريكهم، فإنهم يميلون إلى جعل علاقاتهم أكثر ظهورًا للآخرين.
بينما رصد مجموعة من الباحثين في جامعة أريزونا، سلوك مجموعة من الطلاب في محاولة لإيجاد رابط بين الشعور بالوحدة وزيادة عدد المشاركات على موقع فيسبوك، وضع الباحثون مقياسًا لـ«مستويات الشعور بالوحدة» في أثناء نشر التحديثات على الفيسبوك، ليجدوا أن المستوى عادة ما يقل كلما نشر الطلاب تحديثات جديدة على حساباتهم الخاصة، حتى لو لم يُعجَب بها أحد أو يعلق على محتواها.
في حين أظهرت دراسة أخرى، أن واحدًا من أقوى دوافع المشاركة قائم على إحساسنا بالهوية. إذ تقول الدراسة التي أجرتها صحيفة «نيويورك تايمز»، إن 68% من المستطلعين يشاركون حياتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي لإعطاء الناس فكرة أفضل عنهم وعما يهتمون به. وقدَّم الطبيب النفسي «كارل روجرز» تفسيرًا ممكنًا لهذا، موضحًا أن شخصياتنا تتألف من «الذات الحقيقية» (حقيقة ما نحن عليه)، و«الذات المثالية» (ما نريد أن نكون عليه). ووفقًا لروجرز، فإننا نحاول الاقتراب بسلوكياتنا من الذات المثالية. وعلى هذا الأساس، يمكن اعتبار المحتوى الذي نتشاركه مع الآخرين انعكاسًا للشخص الذي نريد أن يراه العالم.
لا تبدو نتائج هذه الدراسات مفاجئة، فنحن لدينا حاجة جوهرية لرؤية أنفسنا جيدين وذوي أهمية وقيمة. لا يتوقف الأمر عند ذلك، فهذه الحاجة يمكن أن يكون لها أثر تحفيزي بالغ الأثر في سلوكنا، ما يجعلنا نسعى للحصول على اعتراف الآخرين، وبخاصة في علاقتنا بشريك الحياة.
لكن، هل يعني هذا أن الأزواج الذين يبدون أسعد على فيسبوك، قد لا يكونون هكذا في الواقع؟ الأمر ليس بهذه البساطة. فنحن بحاجة إلى معرفة ما إذا كان من شأن هذه الظواهر أن تؤثر في مفاهيمنا عن الحب والعلاقات الإنسانية، وهل يُكسبنا استخدام مثل هذه الوسائل في التعبير عن مشاعرنا، مهارات جديدة في التواصل مع شركائنا؟
الحب في زمن الاستهلاك
نتعامل مع علاقاتنا كسلع يمكن أن تُستبدَل، فقد عفا الزمن على فكرة تقويم العلاقات، تمامًا كما توقفنا عن إصلاح الأغراض الأخرى.
في كتابه «الحب السائل»، يناقش عالم الاجتماع «زيغمونت باومان» فكرة تغير مفهومنا عن الحب والعلاقات الإنسانية. يقول إنه في ظل عصر الاستهلاك الذي نعيشه، أصبحت الروابط الإنسانية «خفيفة وسائبة وهشة»، ونحن بصدد خسارة المهارات اللازمة لجعل علاقاتنا مستقرة.
نحن لم نعد نعرف كيف نبذل أقصى جهدنا في حياتنا الحقيقية للحفاظ على مثل هذه العلاقات، وفي كثير من الأحيان، نعتمد على وهم التواصل الاجتماعي والفكرة التي نصدرها عن أنفسنا، وهذا ليس كافيًا.
يصف باومان علاقاتنا في العصر الحالي بـ«المتناقضة»، إذ يرى أن هناك تعارضًا بين رغبتنا في ما هو سهل ومريح في الحياة، وتوقنا في الوقت ذاته للحميمية والحب الحقيقي العميق والعلاقات الحقيقية. نحن بصدد الدخول في عصر يحتفي بتطور وسائل التواصل، والعلاقات الافتراضية التي تُمارس عبرها، بشكل أكبر من العلاقات الواقعية. فالتواصل عن طريق التكنولوجيا جعل العلاقات الحميمية أكثر تواترًا وضحالة، وأكثر كثافةً واقتضابًا.
يضيف باومان أننا نتعامل مع علاقاتنا، بل وحياتنا، كسلع يمكن أن تُستبدَل في حال أخلَّت بوظائفها، أو أن شيئًا ما في العلاقة لم يَسِر على ما يرام. فقد عفا الزمن على فكرة تقويم العلاقات، تمامًا كما توقفنا عن إصلاح الأغراض الأخرى. تتشتت علاقاتنا الإنسانية بين احتياجنا الدائم للشعور بالأمن والحرية، وهما من الحاجات التي لا يمكن أن توجد في آن واحد. إذ نكون بحاجة إلى الأصدقاء والشركاء الذين لن يخذلونا ونضمن وجودهم وقت الحاجة إليهم. فمن ناحية، نحن نبذل قصارى جهدنا في التواصل على هذه الشبكات لنتجنب الشعور بالوحدة وتلافي الفشل في علاقاتنا، ومن ناحية أخرى، نخشى الالتزام بشخص واحد كي لا نفوِّت شيئًا مختلفًا أو تجربة جديدة، وكأننا نتوق لملاذ آمن، لكننا نخشى في الوقت ذاته أن تُكبَّل حريتنا.
الوسيط هو الرسالة
النقطة الرئيسية، والأكثر جدلًا، هي أن باومان يربط مفهوم المهارات الاجتماعية بالعالم الحقيقي وحده (مقارنة بالعالم الافتراضي على شبكات التواصل الاجتماعي). ويدَّعي أنه، نظرًا إلى قدرة العالم الافتراضي على لعب دور تفاعلي في خلق مجتمعات معينة، يفشل كثيرون في تعلُّم المهارات الاجتماعية «الحقيقية». لكن هذه الفكرة في الواقع تتجاهل الأهمية المتزايدة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمهارات اجتماعية في المجتمع الحديث.
فالقدرة على التنقل بين عدد كبير من وسائل التواصل تكتسب أهمية متزايدة في المجتمع يومًا بعد يوم، ويزداد تأثيرها في الطريقة التي نعمل ونتفاعل بها أيضًا. من الواضح أن باومان يدرك هذا التغيير، لكن الافتراض بأن المهارات المكتَسبة من وسائل التواصل أقل جدوى من المهارات الاجتماعية السابقة، يتجاهل أهمية هذه المهارات الجديدة وفوائدها.
تشتهر مقولة «مارشال ماكلوهان»، أستاذ علم التواصل المعروف: «الوسيط هو الرسالة». ومما لا شك فيه أن وجود وسائط تواصل جديدة، سيغير المهارات التي نعطيها الأولوية ونراها مفيدة اجتماعيًّا.
يقدم ماكلوهان عددًا من الأمثلة في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، الانتقال من التواصل الشفهي المنطوق إلى التواصل المكتوب أدى إلى التركيز على مهارات مختلفة، والانتقال من القوس والسهم إلى البندقية، أكد بالمثل على أولويات اجتماعية ومهارات مختلفة. ينطبق الشيء نفسه على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لإظهار حبنا واهتمامنا لشركائنا. فهي وسيلة مختلفة، وهناك رسالة مختلفة يمكن أن نقدمها من خلالها.
من المهم التأكيد على أنه، بالرغم من أن استخدام وسائل التواصل للتعبير عن الحب والتقدير تجاه الأشخاص المقربين، يعزز مهارات اجتماعية مختلفة، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنها أقل قيمة من تلك التي نمارسها في العالم الحقيقي.
نحن بحاجة إلى توخي الحذر عند الحكم على التغيرات القيمية التي تحدث في المجتمع، بما في ذلك المهارات والمثل الاجتماعية الجديدة التي نكتسبها بتطور العصر، حتى وإن تمثلت في إضافة صور جديدة أو إرسال تهنئة بعيد الزواج على صفحة فيسبوك.
مي أشرف