رسائلنا التي لا تزال من طرف واحد: كيف عبرنا عن أنفسنا للكائنات الفضائية؟

أسامة يوسف
نشر في 2017/03/08
الصورة: Unsplash

«تحياتنا للأصدقاء في النجوم، يا ليت يجمعنا الزمان»

غادرت أمل الشيخ الاستوديو بعد أن سجلت العبارة السابقة بصوتها، كي تُحفظ مع تسجيلات أخرى لتحياتٍ مماثلة قيلت بالعديد من لغات العالم الحية (والميتة)، كي تُرسَل إلى الفضاء الخارجي على متن مركبتَي «فوياجر» 1 و2 (Voyager)، على أمل أن تصادف إحداهما حياة ذكية في الفضاء البعيد.

لا نعرف الكثير عن أمل الشيخ، لا نعرف عنها سوى أنها كانت تنتمي حينذاك لجامعة كورنيل الأمريكية، وأنها مَن وقع عليها الاختيار كي تسجل تحية اللغة العربية بصوتها. نعرف أنها انتظرت دورها في غرفة صغيرة بجوار استوديو التسجيل، تصلها أصوات من يسجلون قبلها وسط حماسة من الجميع.

لكننا لا نعرف أي شيء عن أمل بعد هذه اللحظة، على الأرجح نظرت إلى السماء بمجرد أن خطت خارج الاستوديو وهي تفكر في الاحتمال الضئيل الذي قد يتحقق بوجود آخرين معنا في هذا الكون، احتمال أن يتردد صوتها في مجرة بعيدة.

التحية العربية للفضائيين على «السجل الذهبي»

نصف قرن من محاولات التواصل مع الفضائيين

امتدت محاولاتنا، سكان كوكب الأرض، للتواصل مع الفضائيين إلى أكثر من خمسين عامًا، وفيها استخدمنا طرقًا تنوعت بين محاولات لبث الرسائل عبر موجات الراديو، أو إرسال سفن ومسابير للفضاء كي تحمل رسائلنا للمجرات البعيدة، أو حتى الاكتفاء بالإبقاء على هذه الرسائل في الأقمار الصناعية المحلقة في فضائنا القريب، لتكون بمثابة أهرامات لنا، مثلما كانت الأهرامات أثرًا دالًّا على تاريخ الفراعنة، وحفظت تراثهم عبر آلاف السنين.

لكن يبقى السؤال، هل نجحنا في التعبير عن أنفسنا في هذه الرسائل؟

1. موجات الراديو: هل من أحد هنالك؟

رسالة «مورس»: أول ما تردد من أصواتنا في الفضاء

محطة الإرسال التي استخدمت لبث أول محاولة تواصل مع الفضائيين - الصورة: Rumlin

 شهد عام 1962 أول الكلمات التي صاحت بها الأرض في الفضاء الخارجي، تكلمت الأرض حينها باللغة الروسية بشفرة مورس من خلال موجات الراديو، ووُجهت الرسالة لكوكب الزُهرة وإلى نجم آخر في كوكبة الميزان (Libra Constellation).

لم يكن القصد من هذه الرسالة محاولة التواصل مع الفضائيين بجدية، بل كانت مجرد تجربة لأول محطة رادار فلكية في الاتحاد السوفييتي. لم تحتوِ الرسالة إلا على أربع كلمات: السلام، والعالم، ولينين (الزعيم السوفييتي الراحل)، بالإضافة إلى USSR، الحروف الأولى من «اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية».

تخيَّل لو وصلت رسالة مورس الروسية إلى جهتها واستقبلها سكان كوكب بعيد، هل سيستطعيون فهمها؟ في الواقع لا، فالرسالة بُثَّت عبر موجات الراديو باستخدام شفرة مورس، التي تحتاج إلى معرفة مسبقة برموزها لتحويلها إلى حروف، والحروف اختراع بشري بحت لن يستطيع الفضائيون فهمه، وهو ما قد يجعل الرسالة بالنسبة للفضائيين، إن كانوا موجودين وإن تلقوها، مجرد ضوضاء كونية.

في أحسن السيناريوهات، لو كان لدى الفضائيين نظام معادل لشفرة مورس، فلن تكون هذه الرسالة إلا محض صخب غير مفهوم، ولو استطاعوا أن يفكوا شفرتها بوسيلة ما، فإن محتواها متمحور حول هوية مُرسلها فقط وليس الأرض ولا البشر. لن يعرف الفضائيون شيئًا عنَّا سوى كلمات بلا معنى بالنسبة إليهم؛ مثل لينين والاتحاد السوفييتي.

رسالة «أريسيبو»: صخبٌ أكثر جدية

العالم «كارل ساغان» صاحب الجهود الكبيرة في محاولات التواصل مع كائنات فضائية ذكية - الصورة: Kenneth C. Zirkel

تلى السبق الروسي في طلب التواصل مع الفضائيين محاولات عديدة اعتمدت هي الأخرى على موجات الراديو، من أهمها رسالة «أريسيبو» (Arecibo) عام 1974، التي أسهم في إعدادها عالم الفضاء الشهير «كارل ساغان» (Carl Sagan)، والذي سيظهر اسمه مرات أخرى في أجزاء لاحقة من الموضوع.

ستحتاج رسالة «أريسيبو» إلى 25 ألف عام كي تصل إلى وجهتها في كوكبة هرقل (Hercules Constellation)، الأمر الذي يجعل الاعتماد عليها لإجراء اتصال مع كائنات ذكية أخرى شبه مستحيل، فهي كسابقتها السوفييتية مجرد اختبار لإثبات مدى قوة محطة الإرسال الجديدة، وذلك وفق ما أكده «دونالد كامبل» (Donald Campbell)، أستاذ الفلك في جامعة كورنيل.

على الرغم من ذلك، أخذ القائمون على إعداد الرسالة الأمر على محمل الجد، وأعدُّوا رسالة للتعبير عن بعض المعلومات الأساسية بخصوص البشرية. احتوت الرسالة على الأرقام من 1 إلى 10، والأعداد الذرية لبعض العناصر الأرضية، ومعلومات عن الحمض النووي البشري (DNA)، بالإضافة إلى صور للمجموعة الشمسية، وأخرى لتلسكوب «أريسيبو» الذي خرجت منه الرسالة، وكذلك صورة لجسد بشري.

استمرار محاولات الصياح في الفضاء

المشاركون في «رسالة مراهقين» - الصورة: Rumlin

تبع ذلك محاولات أخرى، مثل رسالة «النداء الكوني» (Cosmic Call)، التي بُثَّت مرتين بطبق هوائي في أوكرانيا؛ الأولى عام 1999، والثانية في 2003. ضم البث رسائل مماثلة لمحتوى رسالة أريسيبو السابقة، الهدف منها إعلام مُتلقيها بمُلخص عن العلوم الأرضية الأساسية وطبيعة الكوكب وشكل قاطنيه وشكل المجموعة الشمسية.

كما تم بث «رسالة مراهقين» (A Teen-Age Message) عام 2001، التي اشترك شباب روسيون في اختيارها عبر الإنترنت، وهي أول خطاب للفضائيين يشترك أشخاص غير أكاديميين في اختيار محتواه.

ضمت الرسالة مقطوعة موسيقية روسية والجزء الأخير في السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، معزوفتين على آلة «الثيرمين» (Theremin) التي لا يحتاج العازف إلى لمسها أثناء اللعب عليها، إذ لو كان الهدف من الرسالة غريبًا، فلنستخدم أدوات تليق بهذه الغرابة.

«ليون ثيرمين» يعزف على الآلة التي اخترعها (فيديو توضيحي وليس محتوى الرسالة)

قد يكون صدر تيمبرلك العاري أكثر تعبيرًا عن الأرضيين حاليًا من الأعداد الذرية.

وفي عام 2008، تكرر الاعتماد على الجماهير لإعداد المواد التي سيتم تضمينها في الخطابات الأرضية للفضاء، ولكن بشكل أكثر اتساعًا وبالاعتماد على شبكات التواصل الاجتماعي.

فقد ضمت «رسالةٌ من الأرض» (A Message from Earth) نصوصًا وصورًا ورسومات من اختيار شباب يستخدمون موقع «بيبو» (Bebo) للتواصل الاجتماعي، وبُثَّت هذه الرسالة من محطة الإرسال نفسها التي استُخدمت لإطلاق رسالتي «النداء الكوني» و«المراهقين».

كانت رسائل «بيبو» الأكثر جموحًا بين الخطابات السابقة، بل والتالية، فضمت صورًا لسياسيين مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (Angela Merkel)، ولمعالم أرضية مثل «عين لندن»، وكذلك صورًا شخصية للمشاركين، بينما فضلت إحداهن أن ترسل صورة للمغني الأمريكي «جاستين تيمبرلك» (Justin Timberlake) عاري الصدر.

بشكل أو بآخر، قد يكون صدر تيمبرلك العاري أكثر تعبيرًا عن الأرضيين حاليًا من الأعداد الذرية للعناصر الكيميائية.

2. سفن الفضاء: الخروج للبحث عن جيراننا

مسبار «فوياجر-2» - الصورة: NASA/JPL

تفترض رسائل الراديو التي تُبثُّ للفضاء الخارجي أن سكانه المُحتمَلين يملكون تكنولوجيا مشابهة للتي لدينا، تمكِّنهم من التقاط الإشارات التي نرسلها لهم وفهمها، لكن ماذا لو لم يكن هذا الاعتقاد صحيحًا؟

هذه المرة، سيفترض أسلوب التواصل أن الكائنات الفضائية تمتلك حاسة الإبصار، كما أنها على قدر من التقدم العلمي يسمح بالحديث بلغة الكون الموحدة؛ الفيزياء، وبناءً على ذلك أخذ البشر خطوات (بمعناها الحرفي) تجاه الفضائيين.

«بايونير»: هذه صورتنا وهذا عنواننا

الرسالة التي حملها مسبار الفضاء «بايونير» - الصورة: Linda Salzman Sagan

في 1972، كانت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» تستعد لإرسال سفينة «بايونير-10» (Pioneer) لتحلق بالقرب من كوكب المُشترى ومن بعده زُحل، قبل أن تغادر المجموعة الشمسية.

ولأنها أول شيء من صُنع الإنسان يغادر هذه الحدود، رأى عالم الفضاء كارل ساغان أن السفينة يجب أن تحمل معلومات عن صانعيها، ووافقت ناسا على اقتراحه، وطلبت منه أن يُعدَّ رسالة يمكن لغير الأرضيين أن يفهموها.

احتوت الرسالة على رمز لتحديد وحدة قياس الزمن والمسافة اعتمادًا على خصائص عنصر الهيدروجين، العنصر الأكثر وفرة في الكون، بافتراض أن الفضائيين على قدر من الذكاء والتقدم العلمي يجعلهم قادرين على فهم هذا المفتاح.

ضمت الرسالة كذلك رسمًا لرجل وامرأة عاريين، وفيها يرفع الرجل كفَّه اليُمنى لأعلى دلالةً على النوايا الحسنة، بالإضافة إلى خريطة تدل من يجد الرسالة على الطريق إلى مجموعتنا الشمسية، ورسم للشمس وللكواكب التسع.

انتقد الإعلام الأمريكي الصورة باعتبارها «إباحية».

أُرفِقت الرسالة مع المركبة «بايونير-10» عام 1972، وكذلك مع «بيونير-11» عام 1973، ومن المتوقع أن تصل المركبة الأولى إلى وجهتها، مركز كوكبة الثور (Taurus Constellation)، بعد مليونَيْ عام.

خطاب ساغان العنصري والإباحي للفضائيين

كارل ساغان يتحدث عن الحضارة المفترضة للكائنات الفضائية

تلقت رسالة ساغان على «بايونير» العديد من الانتقادات لعدة أسباب، بدءًا من إشارتها لموقع الأرض بين كواكب المجموعة الشمسية عن طريق سهم، وهو رمز أرضي خرج من ثقافة المجتمعات التي اعتمدت على الصيد، ما قد يجعله غير مفهوم لمن يرى الخريطة، بل قد يظن الفضائيون السهم جزءًا من المجموعة الشمسية.

ولأن الرسالة تصوِّر الرجل مستقيمًا يلوِّح للفضائيين فيما تقف المرأة إلى جواره ويداها مستقيمتان على جانبي جسدها المُنحني قليلًا إلى اليمين، رأت الجماعات النسوية أن الرسالة عنصرية تصور المرأة على أنها خانعة للرجل.

غير ذلك، وجَّه الإعلام الأمريكي للصورة الانتقادات للصورة باعتبارها «إباحية»، لكن ليندا ساغان، زوجة كارل ساغان التي رسمت اللوحة، فسَّرت ذلك بأنها حاولت أن تتفادى تصوير الرجل والمرأة في زي يمثل ثقافة معينة، وأن عريهما يمثل البشرية بأسرها.

«فوياجر»: نحن أيضًا يمكننا التحدث والغناء أيضًا

رسالتنا للفضائيين في «السجل الذهبي» - الصورة: NASA/JPL

لهدف مماثل لمشروع «بايونير»، بدأت «ناسا» إنشاء مسباري «فوياجر» 1 و2 من أجل التحليق بالقرب من المُشترى وزحل لدراستهما، قبل الخروج إلى الفضاء الخارجي البعيد لاستكشافه وإرسال بيانات عنه.

وتمامًا مثل «بايونير»، استعانت وكالة الفضاء الأمريكية بكارل ساغان لإضافة ما يُعادل جملة «صُنع في الأرض» على المسبارين، مع تعريف لمن يلتقي أحدهما بماهية الأرض ومن عليها، فواصَل ساغان ما بدأه في رسالة «بايونير»، وأعد سجلًّا بما يريد أن يحكيه.

«السجل الذهبي» (The Golden Record) هو الاسم الذي يُطلَق على الرسالة الموجودة على متن مسبارَي «فوياجر»، وهو عبارة عن شكل اسطواني من النحاس المطلي بالذهب، يحتوي على عنصر اليورانيوم الذي يُمكن أن يُستدَلَّ من خلال إشعاعه على عُمر السجل، بافتراض أنه يمكن أن يصادف فضائيين توصلوا إلى هذه المعلومة.

في عام 2013، أعلنت «ناسا» أن المسبارين اللذين أُطلقا إلى الفضاء عام 1977 خرجا من حدود المجموعة الشمسية.

نُقش على الاسطوانة الخريطة ذاتها التي كانت على رسالة «بايونير»، ووحدة القياس المعتمدة على ذرة الهيدروجين، ومعلومات عن كيفية تشغيل الاسطوانة نفسها لتكون مثل CD يمكن للفضائيين تشغليه بطريقة مماثلة لكيفية تشغيل الاسطوانات على الأرض.

أغنية أفراح من بيرو، إحدى المقطوعات التي احتواها «السجل الذهبي»

تحتوي الاسطوانة على تحيات بخمسٍ وخمسين لغة أرضية، من بينها «الأكَّدية» (Akkadian)، الميتة منذ ستة آلاف عام، ورسالة إلى الفضائيين بصوت الرئيس الأمريكي حينها جيمي كارتر، بجانب أصوات أرضية لحيوانات ورياح، ومقطوعات موسيقية من أذواق مختلفة؛ مثل البلوز والجاز والكلاسيكية، بالإضافة إلى مقطوعات من الصين واليابان والسنغال وغينيا الجديدة وزائير، وصور للأرض وكواكب المجموعة الشمسية وبعض العناصر الكيميائية، وكذلك نظام الترقيم، وتشريح الجسد البشري، وصور مختلفة للبشر، ويُمكنك مشاهدة الصور كلها بالضغط هنا.

في عام 2013، أعلنت «ناسا» أن المسبارين اللذين أُطلقا إلى الفضاء عام 1977 خرجا من حدود المجموعة الشمسية، لكن الستة وثلاثين عامًا التي قضاها المسباران في محيط الشمس لم تكن سوى مجرد بداية رحلة قد تصل إلى أربعين ألف عام من الهَيَمَان في الفضاء.

السجل «الوردي» على متن «فوياجر»

«وصف للأكل، والشرب، واللَّعق»، من بين صور «السجل الذهبي» - الصورة: NASA/JPL

كانت الرسالة التي حملها «فوياجر» أكثر ثراءً من سابقتها؛ فقد عبَّرت الـ116 صورة الموجودة على «الاسطوانة الذهبية» عن الحياة على الأرض، وتفادى فيها ساغان الانتقادات التي وُجهت لرسالته السابقة، فالنسخة المُحدَّثة من صورة الرجل والمرأة العاريين كانت بطريقة «السيلويت» (بلون أسود دون ملامح) وهما ينظران لبعضهما وأيديهما متعانقة، كما ضمت الصور أجناسًا مختلفة من شتى بقاع الأرض لتجنب تهم العنصرية والانحياز للعرق الأبيض، بل عمل ساغان جاهدًا كي يستطيع الحصول على تسجيل لتحيات للفضائيين باللغات الأرضية المختلفة.

لكن كثيرين يرون أن كارل ساغان لم يعبر بشكل حقيقي عن الواقع الأرضي، بل إنه صدَّر في خطابه إلى الفضاء صورة وردية للحياة على كوكبنا؛ تحيات سلمية ومقطوعات موسيقية وصورًا لبشر سعداء وأشجار وزهور، والأرض ليست كذلك، بل تكاد تكون نقيض ذلك.

لكن ساغان كان مهتمًّا باستبعاد الصور التي قد يُساء فهمها، فالحروب التي هي واقع أرضي قد تحمل نبرة عنف وتهديد للفضائيين، بينما الهدف الأساسي من التسجيل أن يكون رسالة صداقة وسلام.

3. الأقمار الصناعية: أهرامات تدور في فلك الأرض

 مشروع «الصور الأخيرة»

«يوم نموت، سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا على الرمال. بعدما يفنى النسيم، تُرى من يُخبر الأبدية أننا مشينا ها هنا مرة في فجر الزمان؟».

‒ جزء من أغنية لشعب البوشمن (Bushmen) الإفريقي.

عاش البشر ما نسبته أقل من 0.004% من عُمر الأرض، الذي يبلغ 4.5 مليار سنة، وفي غضون بضعة ملايين من الأعوام ستتمدد الشمس وتنتهي حياتنا، إما بالكامل أو على الأرض فقط إن استطعنا الهرب لموطن آخر. حينها، قد تخبر «الصور الأخيرة» (The Last Pictures) الأبدية، أو الفضائيين الذين قد يمروا من هنا، أننا مشينا ها هنا مرة في فجر الزمان.

لن يُرسل البشر إشارات راديو لمجرات بعيدة، ولن يرسلوا مركباتهم الفضائية إلى خارج المجموعة الشمسية هذه المرة، بل سنترك سجلًّا يُحلِّق على متن قمر صناعي في مدار آمن يحافظ عليه مما قد يصيب الأرض، ويبقيه في محيطها، ليكون مثل الأهرامات مقبرةً أبدية طائرة لذكرياتنا، تحتوي على نقوشها الخاصة التي تسجل لحظات تاريخية لمن كانوا هنا.

ترأَّس «تريفور باغلين» (Trevor Paglen) مشروع «الصور الأخيرة» عام 2010، وهو الحاصل على شهادتي الماجستير في الفنون الجميلة والدكتوراه في الجغرافيا، واعتمد على مجموعة من الفلاسفة والعلماء والفنانين كي يساعدوه في اختيار مئة صورة قد تكون هي آخر ما نرسله إلى الفضاء، أو آخر ما يتبقى منَّا.

ليس من المفترض أن يشرح مشروع «الصور الأخيرة» للفضائيين كل شيء عن البشر.

وبدلًا من اختيار صور قد تتوقع أن تكون موجودة بين مجموعة كهذه نظرًا لأهميتها في تاريخ البشرية، مثل صورة «نيل أرمسترونغ» وهو يخطو على سطح القمر، أو صورة لجدار برلين، ستجد ضمن المجموعة صورة لفتاة يابانية تبتسم داخل معتقل للأمريكيين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية، وصورة أخرى لأطفال أيتام لاجئين من اليونان وأرمينيا يرون البحر للمرة الأولى.

حمل القمر الصناعي «إيكوستار» (EchoStar XVI)، الذي أُطلق في نوفمبر 2012، هذا السجل المصور على شريحة من السيليكون، أحد أكثر العناصر وفرة على سطح الأرض، وهذه الشريحة تُرى بالعين المجردة، ويمكن ملاحظة تفاصيلها بتكبير بسيط.

أيتام من اللاجئين الأرمن يرون البحر للمرة الأولى في اليونان - الصورة: Near East Relief

 «ليس من المفترض أن يشرح مشروع الصورة الأخيرة للفضائيين كل شيء عن البشر، ولا أن يكون سجلًّا كاملًا للحضارة البشرية، بل هو مجرد مجموعة من الصور التي قد تفسر لشخص في المستقبل ما حلَّ بالناس الذين بنَوْا كل هذه الأقمار الصناعية الميتة التي تدور في فلك الأرض، وكيف قتلوا أنفسهم في نهاية الأمر».

‒ تريفور باغلين.

هذا الهدف هو ما جعل «الصور الأخيرة» المحاولة الأكثر تعبيرًا عن الواقع البشري على الأرجح. فعلى عكس ساغان، الذي حاولت رسائله ترك انطباع طيب عن الأرضيين لدى الفضائيين، لأنه ظنَّ أننا سنكون موجودين حين يستقبلون رسائله لنتلقى ردًّا منهم، يرى باغلين أن كل شيء سيكون قد انتهى حينها، سنكون قد فنينا، لا يوجد داعٍ للتجمُّل.

جدارية داخل قارورة في المحيط 

رسوم على جدار في كهف لاسكو - الصورة: Bayes Ahmed

من بين مجموعة «الصور الأخيرة» يوجد مشهد لرسم على جدار في كهف لاسكو (Lascaux) في فرنسا، حيث وقف أحد البشر قبل خمسة عشر ألف عام ليرسم صورًا لحيوانات مختلفة من بيئته.

قد يكون هذا البشري قد شعر بحاجة لتسجيل قصته واهتماماته ومعلومات عن بيئته كي يعثر عليها أحدهم يومًا ما ويعرف بوجوده، وربما ترك هذه الرسومات بفعل الملل، لا نعرف، لكننا اليوم نرسم جدارياتنا الخاصة ونرسلها إلى الفضاء.

ربما يكون دافعنا هو الفضول، أو أننا خائفون من حقيقة كوننا وحيدين في هذا الكون شديد الاتساع، وقد لا تكون تجاربنا هذه، وما نحاول أن نسجله في رسائلنا، إلا كمثل حركات شخص خائف في مكان مظلم، يحاول الوصول لآخرين عن طريق وصف ما تميزه عيناه بصعوبة في العتمة بصوت عالٍ، أو أنها كما وصفها ساغان نفسه: مُجرد قارورة تحتوي على رسالة ألقينا بها في المحيط الكوني.

أسامة يوسف