التدفق: وصفة الإنسان الخارق
سأل البروفيسور «ميهالي سيكزينتميهالي» نفسه سؤالًا حول الحياة: ما الذي يشكل الحياة الجيدة؟
الظهور المكتسح للثورة المعرفية في أواخر القرن العشرين ولَّد منهجًا يحُض على معالجة الإنسان ككُل، بدلًا من علاج المرض فقط دون النظر إلى كينونة الإنسان، وهي طريقة أكثر شمولية للعلاج أسموها «الصحة الشمولية» أو الطب الشمولي.
خرجت من هذه الطريقة حركة في علم النفس سُميت «علم النفس الإيجابي»، خرجت لأن «أبراهام ماسلو» و«كارل روجرز» و«إريك فروم» وغيرهم طرحوا على طاولة البحث السؤال نفسه: كيف تُشكَّل الحياة الجيدة؟ فعوضًا عن معالجة المريض من اكتئابه أو قلقه وحسب، نجعله قادرًا على تشكيل حياة طيبة لنفسه عن طريق علم النفس الإيجابي.
في قلب هذا المفهوم السايكولوجي وجد سيكزينتميهالي جوابه حين وجد «التدفق»: الحياة الجيدة هي الحياة التي تمتاز بانغماس صاحبها في ممارستها، وصاغ هذا المفهوم السحري لنَعبُر بأنفسنا المتواضعة نحو ذواتنا الخارقة.
«التدفق» حالة معدلة من الوعي، مصطلح تكنيكي يُعبِّر عن حالة وعي قصوى، إذ يؤدي التركيز المكثف على مهمة أو تحدٍّ إلى إطفاء العالم، اضمحلال الزمن.
كان يُعتقد أننا في حالة خارقة كهذه، واستنادًا إلى خرافة أننا نستعمل 10% فقط من الدماغ، يمكن أن نشعل دماغنا كله، نستعمل 100% من طاقة الدماغ، ثم تبين أننا في الواقع نُخفِته. نُخفِت تحديدًا «القشرة أمام الجبهية» في الدماغ. الإدارة العليا: اتخاذ القرارت، والتخطيط، والأخلاق، والإرادة، ومركز حساب الوقت، هكذا يضعنا التدفق في حالة تسمى «الحاضر العميق».
النفس كذلك تقع في القشرة أمام الجبهية، أي أن الناقد الدفين فيك ينطفئ أيضًا، وتصبح أكثر استعدادًا لخوض المخاطر، شعور نسميه أحيانًا: حرية، لهذا نجد الحرية دائمًا في ما نسمح لأنفسنا بالضياع فيه.
يصف «فيليب بيتي» التجربة الفريدة في المشي على الحبل التي نفذها بين أبراج متفرقة في أنحاء العالم: «أعتقد أني من خلال التركيز على الحبل كنت أخلق مساحة لي وحدي، حيث لا يستطيع أحد أن يؤثر علي».
كيف نبلغ التدفق؟
في بداية ظهور التدفق، كان يُنظر إليه كخط له بداية ونهاية، إما أن تكون خارج الحالة أو داخلها. ثم تبين أن التدفق في الواقع جزء من حلقة تتكون من أربع مراحل:
1. الصراع
مرحلة التحميل، وهذه مرحلة نزقة نوعًا ما، تقتضي أن تُحمِّل عقلك بالمعلومات التي ستحتاجها في التدفق، فإن كنت رياضيًّا مثلًا عليك أن تتمرن لساعات، أو باحثًا فعليك أن تُلِمَّ بالمفاهيم التي ستحتاجها، مرحلة نعدها بنائية.
2. التحرر
لتنتقل من الصراع إلى التحرر عليك أن تصفي ذهنك، لتبدل مسار المعالجة من الواعي (البطيء المرهق المحدود) إلى اللاواعي(السريع اللامحدود). كان ألبرت أينشتاين مثلًا يأخذ جندولًا ويجدف في بحيرة جنيفا. يمكنك أن تتأمل السماء، تحدق في السقف، لكن لا تشاهد التليفزيون، فقد ثبت أن مشاهدته تعيق هذه العملية.
3. التدفق
المرحلة التي تصل إليها حين يجد تركيزك التوازن المضبوط يين مهاراتك أو قدراتك، وبين صعوبة المهمة.
ما يحدث هنا على المستوى البيلوجي أن الجسم يفرز مستويات عالية من «نايترك أوكسايد»، الذي بدوره يكبح هرمونات القلق وينشط خمس موصلات كيميائية دفعة واحدة: نورإبينفرين، ودوبامين، وأناندومايد، وسيريتونين، وإندورفين. الأفيون البيلوجي حبيس أدمغتنا.
هذه الموصلات الخمسة تصنع مثلثًا يكمُن التدفق في قلبه، أسماه «ستيفن كوتلر»، أحد مؤسسي مشروع جينوم التدفق الذي يعمل على أبحاث التدفق، «مثلث الأداء العالي»: التحفيز والإبداع والتعلم. حالة التحفيز هذه تنتج نوعًا من الإدمان، لهذا نجد مثلًا مدمنين على ممارسة الرياضة، وقِس على ذلك. التدفق يصنع نشوة محسوسة فعلية.
4. التعافي
التدفق حالة مرحلية تنتهي باستهلاك تلك الموصلات الكيميائية، حضيض ما، بعد علو شاهق. في هذه الرحلة يعيد الجسم بناء تلك الموصلات.
يقول كوتلر إنك إذا أردت أن تحترف التدفق، عليك أن تركز على مرحلتي الصراع والتعافي، أن تبني على أساس متين، وأن لا يقهرك الحضيض.
اقرأ أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟
جو التدفق
اتفقنا على أن التدفق ينبع من التركيز. توصل مشروع ستيفن كوتلر إلى 17 محفزًا للتدفق حتى الآن، مقسمة إلى أربع فئات ذكرها في كتابه «The Rise of Superman»، هذه المحفزات تسوق الانتباه نحو اللحظة الحاضرة، تمهد للتدفق، تهيئ له الجو:
أ. المحفزات النفسية
هي تقنيات داخلية لتركز الانتباه في اللحظة الآنية.
- التركيز على مهمة واحدة.
- الأهداف الواضحة.
- النتائج الفورية المحسوسة، ولا ينبغي بالضرورة أن تكون نتائج نهائية، بل هي علامات محسوسة على التقدم، أحد أُسُس حالة التدفق أن يصبح العمل الذي يؤديه الشخص هدفًا أو غاية بحد ذاته، فراكبو الأمواج المحترفون يحققون التدفق حين تكون كل موجة بحد ذاتها هدفًا، عوضًا عن التركيز على الفوز كهدف.
- التناسب الدقيق بين المهارات التي تملكها وبين صعوبة المهمة أو حجم التحدي فيها.
ب. المحفزات البيئية
هي مميزات في البيئة أو الوسط، تدفعك نحو إيجاد إيقاعك.
- ارتفاع الخطورة، لأن الخطورة تدفع العقل إلى زيادة التركيز.
- البيئة الخصبة، ونعني بها البيئة المتجددة المكتنزة بالتعقيد والابتكار، مثل ما يحدث مع راكبي الأمواج العالية، بيئة البحر الذي لا يمكن التنبؤ بأمواجه تُعد مثيرًا قويًّا للتدفق.
- الاندماج العميق مع تلك البيئة، البحر والمكتب والملعب على حد سواء.
ج. المحفزات الاجتماعية
هي طرائق لتعديل الظروف الاجتماعية لإنتاج تدفق جماعي.
- التركيز الجاد، أي أن يكون الجميع على الموجة نفسها، أن يكون الفريق كله على قلب رجل واحد، أن تسحب كل المشتتات الممكنة.
- الأهداف الواضحة المشتركة، أهداف واضحة تركز انتباه المجموعة نحو نقطة واحدة.
- الاتصال الجيد، أن تُوَصَّل الفكرة وتُفهم على النحو المراد.
- الأُلفة، أن يكون بين أعضاء الفريق أو المجموعة لغة مشتركة وأساس معرفي متقارب وتفاهم مثالي، يؤدي إلى ضمان وحدة الإيقاع.
- المساهمة المتساوية، أن يُسهم الجميع بالقدر نفسه.
- المخاطرة مع وجود احتمال للفشل، فالفشل المتكرر والإبداع صنوان لا يفترقان.
- التحكم، ويقتضي هذا أن يُترك للفرد مجال حر للحركة مع ثقة في جودة أدائه.
- الاستماع الجيد، وأن يكون التفاعل بنَّاءً لا جداليًّا.
- قبول أفكار الآخر، بل الموافقة ومحاولة البناء عليها لأن هذا يفتح أبوابًا للإبداع.
د. المحفزات الإبداعية
إذا أخذت بعضًا من هذه المؤثرات أو المحفزات وبنيت حولها حلقة التدفق، ستجد النسخة الخارقة منك.
يبقى السؤال: إذا وجدت طريقة تَعبُر بها نحو نفسك الخارقة، ماذا ستصنع؟
قبس من الألوهية؟
صحيح أن سيكزينتميهالي ربما بدأ مفهوم التدفق، دراسةً وبحثًا وشرحًا، لكنه يبدو مفهومًا قديمًا، ربما ورد في حضارات أخرى سابقة بشكل ما.
يذكرنا هذا بكتاب «ميرتشاه إلياده» المسمى «تقنيات النشوة»، الذي وصف فيه الشامانيين بـ«التقنيين المحترفين في اختراق المُقدس».
الشامانية توجه ديني يتضمن الدخول إلى حالة معدلة من الوعي، تؤهل للتفاعل مع العالم الروحي الماورائي، وتعطي قدرات خارقة أخرى، أو هكذا يزعم معتنقوها. قد يصفهم البعض بالسحرة، ويُكفِّر آخرون إيجادهم للإله في ذواتهم.
قد يعجبك أيضًا: لماذا تلجأ أعداد متزايدة من الناس لتجربة «السايكديليك»؟
إن نظرة الإمام الصوفي سهل بن عبد الله التستري المقدسة إلى القلب دفعته في النهاية لاعتباره عرش الله، واعتبار الروح فينا قبسًا من الألوهية.
يتماسُّ هذا مع نص الفيلسوف اليوناني «نيكوس كازانتزاكيس» في كتاب «تصوف: منقذو الآلهة»، الذي يقول: «كل شيء مجرد بيضة في داخلها تكمن بذرة الإله القلقة. بنور العقل وبشعلة القلب أحطم كل السجون التي تحبس الإله، أبحث وأحاول لأنشئ بوابة الخروج البطولي لإلهنا. حارب، لاحق الظواهر بصبر وأناة لتطوعها في قوانين، وبذلك ستفتح طرقًا على الهاوية، وتساعد الروح في أن تجد مداها. يصيح الإله: افتح عينيك! أريد أن أرى!».
نهى الرومي