لا «هوموفوبيا» في بلاد العرب
أثار رفع بعض الشباب المصريين علم الحركة المثلية في حفل فريق «مشروع ليلى» اللبناني، ومن ثَمَّ اعتقال السلطات المصرية عددًا منهم، جدلًا حول قضية المثليين في العالم العربي. وركز بعض المعلقين على مدى استشراء «الهوموفوبيا»، أو رُهاب المثلية، في المجتمعات العربية، معالجين هذه المسألة بلغة مترجمَة من لغة اليسار الليبرالي الهوياتي الغربي، الذي تبدو فيه معاداة المثليين خوفًا هوياتيًّا تستشعره الأغلبية ضد ثقافة ونمط حياة أقلية مضطهدة.
رغم الأهمية الشديدة للنشاط الحقوقي لحماية حريات المثليين في العالم العربي، فإنه من الضروري مناقشة ونقد بعض المفاهيم المنتشرة في الحديث عن قضية المثلية، بما فيها مفهوم «الهوموفوبيا» ذاته.
«سلطة العيادة»
لـ«الفوبيا» عديدٌ من التعريفات، تختلف باختلاف الميادين التي يُستخدَم فيها هذا التعبير. إلا أن جميع التعريفات العلمية تُجمع على أن الفوبيا «خوف مَرَضي» وشكل من أشكال «اضطرابات القلق»، وبالتالي فهي ظاهرة مَرَضية نتعامل معها بمنطق «التشخيص» ومن ثَمَّ «العلاج». الشخص المصاب بالفوبيا إذًا مريض، ولا يتمتع بسبب ذلك بالأهلية الصحية الكاملة التي يملكها الشخص «السَّوِي».
بناءً على هذا التعريف، يبدو استخدام القاموس الطبي للحديث عن ظواهر اجتماعية أمرًا مقلقًا، فلطالما استخدمت الحركات المتطرفة والإلغائية، بما فيها النازية والفاشية والأنظمة الديكتاتورية العربية، هذا القاموس لوصف أعدائها، فهم تارةً جراثيم (كما وصف بشار الأسد معارضي حكمه) وبالتالي كائنات مسببة للتلوث، وتارةً أخرى سرطانات أو أعضاء متقيحة. وإذا تتبعنا طريقة التفكير الطبية حتى نهايتها، فإن آخر العلاج، مثلما هو معروف، البَتْر والكي.
بالنسبة إلى اليسار الليبرالي الغربي، فإن الاستخدام المتكرر لقاموس الطب النفسي، خصوصًا مصطلح «الفوبيا» («إسلاموفوبيا»، «هوموفوبيا»، إلخ) لا يأخذ منحى أن فئات اجتماعية معينة تعتبر استطالات مَرَضية وسرطانية متأزمة بذاتها وبحاجة إلى البتر.
لكن اليسار الليبرالي الغربي يتعامل مع أشكال معينة من التعبيرات والخلافات والتعارضات الاجتماعية بوصفها أمراضًا نفسية وليست صراعات اجتماعية وثقافية تخوضها فئات اجتماعية مختلفة المصالح والمواقع: الإسلاموفي والهوموفوبي شخص مريض، وليس مختلفًا سياسيًّا فقط، وبالتالي يجب رعايته وإخضاعه للعلاج. ولهذا فعلى جهاز الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والتعليمية والثقافية أن تلعب دور العيادة، وتعالج المرض النفسي المنتشر بين أفراد وفئات معينة.
ينطبق هذا حتى على ظاهرة سياسية بامتياز مثل الإرهاب الإسلامي، فيميل كثير من التحليلات المعاصرة إلى اعتباره ظاهرة «انحراف شبابي»، نتيجةً لأمراض اجتماعية وتربوية وتعليمية معينة يمكن علاجها، فتنزع الأهلية السياسية من الإرهابي وتحوله إلى مريض مستحق للعلاج.
اقرأ أيضًا: علاج حسب الهوية الجنسية: حكايات المتروكين للموت في لبنان
يذكرنا هذا بأعمال مؤرخ المعرفة الشهير «ميشيل فوكو»، الذي عالج نشأة ظاهرة «العيادة» والمؤسسة الطبية الحديثة عمومًا، خصوصًا مؤسسة الطب النفسي. يرى فوكو أنه تم «تجريم» المرض واعتباره عاملًا مُخلًّا في المجتمعات الانضباطية، ومن ثَمَّ نُقل المرضى إلى مؤسسات خاصة هي المستشفيات وعُزلوا عن بقية الناس، وهناك خضع الجسد المريض للمراقبة والتدوين في بيانات كَمِّية، ما أتاح نشوء معرفة متكاملة عن المرض أسهمت في نشأة العلوم الطبية الحديثة.
لا داعي لفصل البشر بالعنف وسَوْقهم إلى المستشفيات والسجون، ففي كل تفاصيل الحياة المعاصرة تعمل آليات الرقابة والضبط الممركزة مكانيًّا في ما مضى.
أما الجنون الذي كان في ما مضى يتمتع بنوع من القداسة التي يتبرَّك بها الناس، فقد صُنِّف بدوره مرضًا خطيرًا ، وأُخضع المصابون به للعزل في المستشفيات النفسية (التي كانت مؤسسات قمعية مرعبة حتى أواسط القرن الماضي)، حيث روكمت هناك أيضًا المعارف عن النفس البشرية، وحدثت عملية تقويم وبتر لكل الانحرافات عن «النفسية السليمة» معياريًا التي حددتها السلطة.
«مجتمع الانضباط» الذي أفرز هذه الظواهر منذ بداية عصر التنوير حتى النصف الأول من القرن الماضي، انتهى حسب فوكو ليحل محله «مجتمع التحكم»، الذي لا يحتاج بشكل بنيوي إلى مؤسسات مسوَّرة ومتمركزة مكانيًّا مثل السجن والمعزل النفسي والمصنع والمدرسة ليفرض مبدأ الرقابة والعقوبة، بل عُمِّمت وسائل المراقبة والتقويم لتصبح سائلة ومرنة ومنتشرة في كامل الجسم الاجتماعي.
في يومنا هذا، لا داعي لفصل البشر عن مجتمعاتهم بالعنف وسَوقهم إلى المستشفيات والسجون، ففي كل تفاصيل الحياة العاصرة، مثل الإعلام، عيادة المحلل النفسي، وسائل التواصل الاجتماعي، الثقافة الجماهيرية، إلخ، تعمل آليات الرقابة والضبط التي كانت ممركزة مكانيًّا في ما مضى.
ربما كانت تحليلات فوكو أحادية ومبالغًا فيها، وتُسقِط من اعتبارها التنوع الكبير للنشأة التاريخية للمعرفة ودورها التحرري. كما أن مفهومه عن السلطة غامض، بل وربما خرافي، ولا يمكن الاعتماد عليه تحليليًّا، إلا أن أفكاره مفيدة نسبيًّا لفهم مبدأ تحويل الخلاف الاجتماعي إلى «مرض» يصيب الخصوم، ما يستدعي إخضاعهم للعلاج، وفرض نوع من الهيمنة والرقابة الاجتماعية الشاملة المتعالية لضرورات نجاح هذا «العلاج».
الحديث عن معاداة المثلية بوصفها «هوموفوبيا»، أي مرض، يشبه تمامًا ما كان يحدث في مطلع «عصور الانضباط» من اعتبار المثلية مرضًا وانحرافًا يستوجب العلاج، بعد أن كانت ممارسة مقبولة وسائدة، بل ومحببة، في العصور اليونانية والرومانية وجانب من العصور الوسطى.
معاداة المثلية لا تنبع دائمًا عن خوف مرضي، بل هي تعبير عن موقف اجتماعي وسياسي وثقافي واضح المعالم يمثل مصالح وهيمنة فئات اجتماعية معينة، كاملة الصحة والأهلية. وإذا كان عديدٌ من مرددي مصطلح «الهوموفوبيا» يدركون هذا، فإن استخدامهم إياه بدون تفكير يشوش المسألة ويحرفها عن مسارها الصحيح.
المثلية في هرم الفحولة
لا يبدو أن المجتمعات العربية، رغم الاختلافات الثقافية الكبيرة بينها وتباين المستوى الحضاري، تعاني من خوف مَرَضي من المثلية. بل على العكس، يمكننا أن نلاحظ من خلال دراسة المأثور الشعبي المعاصر مواطن كثيرة للافتخار بالمثلية، على شرط أن يكون المرء هو الناكح وليس المنكوح.
الذكر الناكح لا يعيبه أن يكون مثليًا، ما دام قادرًا على أداء القسط «الإيجابي» المهيمن في العملية الجنسية، لكن تخليه عن هذه «الميزة» هو العار الأكبر.
في سوريا مثلًا، تنتشر تعبيرات مثل «علَّم عليه» و«كسرلو عينو» للتعبير عن الفخر بالإذلال الذي قد يمارسه أحدهم عندما ينكح شخصًا آخر، بوصف عمله نوعًا من بسط الهيمنة والسيادة على الجسد المنكوح، ولهذين التعبيرين نظائر في معظم اللهجات العربية.
هذا الفخر يتناقض مع أي خوف مَرَضي من المثلية، وإذلال الخصوم بالجنس المثلي ممارسة سادت بشدة في معظم الحروب الأهلية التي شهدتها المنطقة، مثلما سنرى.
من يتعرض للاضطهاد في معاداة المثلية العربية هو عادةً الطرف «السلبي» في العملية الجنسية: «المنكوحون» و«المخنثون». هؤلاء لا أحد يخاف منهم خوفًا مرضيًّا أو غير مرضي، بل يحتقرهم الجميع ويشمئزون منهم، ويضعونهم في مرتبة دونية. ولعل أكبر عار يلتصق بهم هو تشبيههم بالنساء. فإذا كانت المرأة تحمل عار كونها «منكوحة» لأسباب بيولوجية يحددها نوعها الاجتماعي نفسه، فإن «المخنث» يحمل عارًا مضاعفًا، كونه منكوحًا دون أن يكون لذلك سبب بيولوجي «طبيعي».
قد يعجبك أيضًا: فتاة مثلية في مجتمع عربي: أبعاد إضافية للقهر
يمكننا أن نرى بسهولة إذًا أن المشكلة هنا ليست «الهوموفوبيا»، بل الذكورية بكل بساطة. فالذكر المسيطر الناكح لا يعيبه أن يكون مثليًّا أو مغايرًا، ما دام فحلًا قادرًا على أداء القسط «الإيجابي» المهيمن في العملية الجنسية، إلا أن تخليه عن هذه «الميزة» هو العار الأكبر.
بالتالي، هنالك هرم للفحولة يصنِّف المجتمع ضمن ثلاث درجات:
- الرجال الناكحون المسيطرون، سواء كانوا مثليين أو مغايريين.
- النساء، وهن «الولايا» و«الحريم»، اللواتي يخضعن لسلطة الذكور الناكحين كونهن «منكوحات» في جوهرهن.
- المخنثون، وهؤلاء ذكور تخلَّوا عن فحولتهم، أو أن ذكورتهم غير ظاهرة، فباتوا مثيرين للاشمئزاز، بل وحتى لا يستحقون الحياة.
يعبِّر هذا الهرم خير تعبير عن المجتمع الأبوي الذكوري السائد، الذي لا تقتصر آثاره على الميدان الجنسي، بل يلعب دورًا أساسيًّا في صياغة مجال الخيال السياسية.
لنتذكر هنا أحاديث مؤيدي عبد الفتاح السيسي من المصريين عن كونه «دكر»، والسخرية من قادة الإخوان المسلمين الذين حاولوا الهرب من قمعه متنكرين في زي نساء منقبات. لقد «لبَّسهم الطرحة» حرفيًّا. أما في سوريا، فقد «علَّم» بشار الأسد على المدن والقرى التي ثارت ضده و«نكحها» حرفيًّا. لنتذكر أيضًا انبهار بعضهم بفحولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي يحرص دومًا على إظهارها. إنه فعلًا «بو علي بوتين»، واسم «أبو علي» يرتبط في المخيَّلة الشامية بالفحولة الشديدة لسبب لا أدريه.
الحروب الأهلية المثلية
ارتباطًا بما سبق، يمكن فهم ظاهرة الإذلال الجنسي التي ترتبط دومًا بالحروب الأهلية العربية. فإذا كانت الحروب في العالم عرفت دومًا ظاهرة الاغتصاب، فإن هذه الظاهرة ارتبطت بممارسات الجنود المحرومين جنسيًّا في الجبهات، كنوع من الغنيمة والمكافأة عمَّا عانوه طيلة الحرب، وهي إذًا كانت لا تخلُ من نية إذلال الخصم، إلا أن ذلك لم يكن دومًا العامل الوحيد والأساسي وراءها.
أيضًا، التعامل مع إرث الاغتصابات في الحروب يختلف بين مجتمع وآخر، وقليلون اليوم يعتبرون الاغتصابات المتبادلة في الحربين العالمية الأولى والثانية إهانة لهوياتهم الاجتماعية، بل يعُدُّونها جريمة حرب. على عكس المأثور الشعبي العربي، الذي يعتبر ذلك عارًا لا يُمحى، وتذل المجموعات الأهلية المتنازعة بعضها بعضًا به.
في سوريا مثلًا، ما زال بعض أبناء المحافظات يعيِّرون أهل مدينة دمشق باغتصاب جيش القائد المغولي «تيمور لنك» نساء المدينة في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، ويصفون الدمشقيين بـ«البناديق» أي أولاد الحرام.
يُعتَبر النضال الحقوقي للمثليين أساسيًّا في مواجهة معاداة المثلية العربية، لكن لا يجب فصل هذا النضال عن الصورة الاجتماعية الأعم للهيمنة الذكورية.
إحدى أهم ظواهر الإذلال الجنسي الذي عرفته الحروب الأهلية العربية عادةً هي خطف البنات، فلدى الصراع بين طائفتين أو عشيرتين تكون النساء أولى الضحايا، إذ يُختطفن ويُغتصبن لإذلال ذويهن، وليس بغرض إشباع غرائز الخاطفين المكبوتة مثلًا. هذه الظاهرة عادت بقوة إبان الحرب التي تشهدها سوريا اليوم، ولعب خطف البنات دورًا كبيرًا في تأجيج الأوضاع.
إلا أن الإذلال الجنسي لا يقتصر على النساء، بل يكون أكثر تأثيرًا وحِدة عندما يطول الذكور. لا داعي هنا لسرد مقتطفات من المأثور الشعبي للحروب الأهلية عن هذا الموضوع، فهي معروفة ومتداولة. ما يهمنا فقط هو التركيز على الافتخار بالممارسة المثلية لإذلال الخصوم.
التطور الخطير كان عندما انتقلت هذه الممارسة إلى أجهزة الدولة القمعية العربية، فاغتصاب الشباب في أقسام الشرطة وفروع المخابرات في سوريا ومصر مثلًا لعب دورًا كبيرًا في قمع المعارضة السياسية للأنظمة. إنه علامة ترسلها السلطة على كونها صاحبة الفحولة الكلية، القادرة على كسر ذكورة وإذلال جميع خصومها. حتى الدولة العربية لا تعاني من «الهوموفوبيا»، بل تعتبر قدرتها على النكح المثلي علامة على قوتها.
قد يعجبك أيضًا: الأبعاد السياسية لاستهداف المثليين في مصر
لا تنحصر هذه الممارسة في السلطات العربية، بل مارستها المعارضات كذلك، ولعل الحديث عن اغتصاب مقاتلي المعارضة الليبية القذافي قبل قتله بوحشية أهم مثال على هذا: لقد «نكحوه» كما «نكحهم»، ليسوا أقل فحولةً منه إذًا. إنها معركة «الشرف» و«العار» العربية التي لا تنتهي.
بناء على كل هذا، فإن مواجهة معاداة المثلية العربية لا تتطلب ترجمة مصطلحات اليسار الهوياتي الغربي وتكرارها ببغائيًّا، لأنها مواجهة مع البِنَى الذكورية السائدة اجتماعيًّا، التي يجب تفكيكها للخلاص من دوامة الإذلال التي لا تنتهي بحق النساء وكل الفئات الضعيفة اجتماعيًّا، ومنها المثليون «السلبيون». النضال الحقوقي للمثليين بالتأكيد أساسي في هذه العملية، لكن لا يجب فصل هذا النضال عن الصورة الاجتماعية الأعم للهيمنة الذكورية.
بعبارة أخرى: لا يمكنك أن تكون مؤيدًا لحقوق المثليين من جهة ومهادنًا للبِنَى الاجتماعية والثقافة السائدة من جهة أخرى. هذه المهادنة والتبريرية التي نراها لدى بعض القوى والأفراد الذين يُحسبون على التيار «التقدمي» العربي، هي إحدى الأضرار الرئيسية التي جلبتها هيمنة أفكار اليسار الهوياتي الغربي (السائد في البلدان الناطقة بالإنجليزية خصوصًا) على الحراك العربي لأجل التغيير.
محمد سامي الكيال