هوميوباثي وعلاج بالطاقة ولدغات النحل: هل انتهى عصر الطب؟
«هذا القنديل الصغير الذي تراه فوق المَقام، يكاد لا يشع له ضوء، ينبعث منه عندئذ لآلاء يخطف الأبصار. إني ساعتها لا أطيق أن أرفع عيني إليه. زيته في تلك الليلة فيه سر الشفاء، فمن أجل ذلك لا أعطيه إلا لمن أعلم أنه يستحق من المنكسرين». يحيى حقي في «قنديل أم هاشم».
«غيِِّر مكان السرير كي تتخلص من الأورام السرطانية». أحد المعالجين عن طريق الطاقة.
لم يعرف يحيى حقي أن قنديل أم هاشم لا يفنى، وأنه سيبقى ويتخذ أشكالًا شتى، وصولًا إلى «الطاقة»، بل ويُسمح لمروجيه بالظهور على شاشات التلفزيون وإلقاء محاضرات، وسُيقسَّم الوهم الذي يبيعونه طبقيًّا.
في الأحياء الفقيرة تنتشر عيادات العلاج بالحجامة، التي تخلصك من الدم الفاسد في جسمك عن طريق كاسات مشكوك في نظافتها. والعلاج بلدغات النحل، إذ يستخدم المعالج ملقاطًا يلتقط النحلة، ثم تضعها على جسم المريض لعلاج الروماتيزم وخشونة الركبة.
في الأحياء البرجوازية تجد عيادات العلاج بالطاقة والهوميوباثي، والعلاج بالأحجار و«الريكي» أو الطاقة. وإمعانًا في التضليل، يقول بعض المعالجين إن الريكي قريبة من كلمة «رُقْيَة» كي يجمعوا الحسنيين.
الطاقة التي نعرفها فيزيائيًّا هي القدرة على الحركة والشغل، أما التي لها قدرة علاجية، فليس لها تعريف واضح. ينصحك خبير طاقة المكان بتغيير مواضع أثاثات البيت لأنها تتسبب في السرطان. ولا مجال أن تسأل ما هو المنطق الذي يجعل للأحجار أي تأثير في الجسم. إذ إن ميكانيزم المرض كما هو معلوم، خلل ما في الجسم، وليس لأن معظم أسباب السرطان تعود إلى سبب جيني، لا دخل لشكل البيت فيها.
لكن صناعة الوهم قديمة قدم الإنسان نفسه. ومن الواضح أن الزمن يسير في حركة دائرية ليرجع الناس إلى العلاج بالأساطير التي وقف ضدها «أبقراط»، الذي يقسم خريجي كليات الطب قسمه حتى الآن.
«هوميوباثي»: أريد أن أعالَج دون دواء
أتذكر، في تسعينيات القرن العشرين، السمكة التي تسبح في الشاي البارد بدلًا من الماء، والتي كان يجلبها بعض أقاربي ليشربوا ذلك الشاي. كان من ضمنهم أطباء، لاعتقادهم حينها بأن مخلفات هذه السمكة تُشفي من الأمراض. أتذكر ذلك وأنا أتابع على شاشة التليفزيون متصلة تسأل واحدة من معالجات الهوميوباثي عن علاج «الصدفية»، فتجيبها بأن السؤال الصحيح لا بد من أن يكون: «هل سبب الصدفية غضب في الكبد أم حزن في الرئة»؟
الهوميوباثي أو الطب التجانسي أحد أشكال الطب البديل، ظهر أواخر عام 1700، على يد الطبيب الألماني «صامويل هاهنمان».
كلمة «هوميو» مشتقة من كلمة لاتينية معناها «مثيل»، و«باث» تعني «مرض». لاحظ هاهنمان بعد تناوله «عصارة الكينا» (Cinchona)، ارتفاع في درجة حرارته، وهو تأثير يماثل ما يعالجه الدواء، فاستنتج أن الأمراض يمكن علاجها بأدوية تُحدِث نفس الأعراض التي يسببها المرض، وأرسى مبدأين للهوميوباثي:
- العلاج بالمِثل، أو «داوِها بالتي كانت هي الداء»: العلاج عن طريق مواد إذا تناولها الأصحاء يصابون بنفس أعراض المرض. مثلًا: لو أن هناك مادة تسبب أعراضًا مثل رشح الأنف كالبصل، فإنها ستؤدي بالضرورة إلى علاج المرض الذي تتضمن أعراضه رشح الأنف، كالإنفلونزا. هذا المبدأ أسسه من قبل أبقراط، لكنه لم يعممه على كل الأمراض
- كلما خُفِّفت المادة، زادت قوتها: خلافًا لكل قواعد الكيمياء، فمنتجات الهوميوباثي مخففة لدرجة أنها لا تحتوي على مادة فعالة. فالدواء في الهوميوباثي يؤثر بطبيعته، وليس بكميته
من الصعب تخيل أن دواءً ما دون أثر علاجي ينتشر في العالم على هذا النحو. لكن الحقيقة أن انتشاره لن يجعله فعالًا. انتشرت منتجات الهوميوباثي بشكل درامي في العالم كله، ومعايير ممارسته تختلف من بلد إلى آخر. لكن هناك بلادًا أخرى قررت حظره، وجامعات فرنسية قررت وقف تدريسه، حتى إن مجموعة من الأطباء الفرنسيين كتبوا خطابًا مفتوحًا لصحيفة «لو فيغارو»، يحذرون فيه الناس من الهوميوباثي، واصفين ممارسيه بالدجالين، على الرغم من أن الفرنسيين من أكبر مستهلكي منتجات الهوميوباثي الذي يزعم معالجوه قدرته على معالجة أمراض كثيرة، من الإنفلونزا حتى السرطان والتوحد.
منتجات الهوميوباثي قد تكون مشتَقة من نباتات أو حيوانات، أو مصدر بشري أو كيميائي، وليس لها تاريخ صلاحية.
الهوميوباثي غير مصرح بممارسته في الدول العربية. لكنه أيضًا غير مجرَّم قانونيًّا، ويُباع في الأسواق، وعن طريق الإنترنت. تشكِّل عيادات الهوميوباثي ظاهرة في الخليج العربي على يد أطباء هنود، ويلجأ إليه كثيرون رغم أنه خارج تغطية التأمين الصحي.
رغم أن منتجيه يسوِّقونه على أنه «طبيعي، وينتشر في أمريكا وأوروبا والهند بشكل كبير»، فإن هذا ليس صحيحًا. منظمة الغذاء والدواء (FDA) لم تصرح بأيٍّ من أدوية الهوميوباثي، فهي لا تضمن أمانها ولا فعاليتها.
منتجات الهوميوباثي قد تكون مشتَقة من نباتات أو حيوانات (صحيحة أو مريضة) أو مصدر بشري أو كيميائي، وليس لها تاريخ صلاحية. وهذه النقطة يراها مناصرو ذلك النوع من العلاج «ميزة». إلا أن «FDA» حذّرت من استخدامها لعلاج أمراض خطيرة مثل الأزمات الصدرية، لأنها تؤدي إلى ضرر كبير.
أزمة الهيوميوباثي أن ممارسيه (يُطلَق عليهم هوميوباث) لا يتفقون على وظيفته. بعضهم يرفض ما يطلق عليه الطب التقليدي، وآخرون يرون أن الهوميوباثي مكمل للطب التقليدي، وكل ممارس يستخدم أسلوبه وتصوراته الخاصة.
قد يعجبك أيضًا: الإنسان والمرض: من ينتصر في النهاية؟
ما الذي يجعل الأدوية فعالة بعكس الطب البديل؟
«في أثناء القرن التاسع عشر، كف الطب نهائيًّا عن ربط نفسه بالفلسفة، وابتعد عن التجريد، ووقف نفسه على الملاحظة والفعل والعلوم الدقيقة». هذا ما يقوله «جان شارل سورنيا»، الطبيب والأستاذ في الأكاديمية الطبية الفرنسية، في كتاب «تاريخ الطب من فن المداوة إلى علم التشخيص»، الذي يرصد تاريخ تطور الطب من العصور الوسطى.
بيننا وبينك المعمل. معنى الحقيقة العلمية أنك في كل مرة تعيد تجربتها، ستصل إلى النتيجة ذاتها في الظروف ذاتها. الهوميوباثي اعتمد نظرياته دون أي سند علمي. لذا قد تستخدمه اليوم لعلاج الصداع، فينجح، وتستخدمه غدًا، فلا يُعطي نفس الأثر. لذلك، فالهوميوباثي ببساطة علاج غير فعال لأي حالة مرضية. تأثير الهوميوباثي يُقاس بآراء الناس وانطباعاتهم عنه، لكن علاج حالة واحدة به لا يعني إطلاقًا فعاليته. وفيما تؤكد دراسة استرالية اعتمدت على ألف و800 ورقة بحثية، عدم فعالية الهوميوباثي، تجد الهوميوباث يؤكدون: لا نعرف كيف يعمل الهوميوباثي، لكن آلية عمله واضحة لأن هناك شيء يسمى «بلاسيبو».
هناك أماكن للمراقبة على الأدوية، هناك هيئة التفتيش الصيدلي. لكن من يراقب عيادات الطاقة والهوميوباثي؟
معالجو الطب البديل يروجون لعلاجاتهم بعدة طرق، منها أن الدواء الكيميائي له آثار جانبية، وهو شيء صحيح. لكننا نعرف الآثار الجانبية للدواء لأننا نعرف كل شيء عن الدواء، ونستطيع التنبؤ بآثار العلاج.
المعلومات المتاحة عن الدواء الكيميائي متوفرة، بدءًا من «Cytochrome p450»، وهي مجموعة إنزيمات موجودة في الكبد تتفاعل مع الأدوية. نعرف الشركة المنتجة وطريقة التصنيع والمواد الفعالة وغير الفعالة، ونعرف كذلك كيف يؤثر هذا الدواء في الجسم، ونعرف تأثير الجسم في الدواء، ونعرف الأدوية التي يتداخل تأثيرها مع بعضها، ونعرف الجرعة المناسبة لكل مريض، والوقت الذي يتخذه الجسم ليطرح الدواء، وكذلك الجرعة السامة من الدواء، ونعرف الطريقة الصحيحة لتخزين الدواء لأننا نعرف تركيبه.
أما منتجات الطب البديل المنتشرة على الإنترنت، فماذا نعرف عنها وعن طريقة نشأتها؟ هناك أماكن للمراقبة على الأدوية، هناك هيئة التفتيش الصيدلي. لكن من يراقب عيادات الطاقة والهوميوباثي؟
الأطباء يصنعون المرض والدواء
أسطورة أخرى تُرَوِّج للامتناع عن الأدوية والاتجاه إلى علاجات بديلة، وهي أن شركات الأدوية تصنع المرض كي تصنع الدواء.
لكن الأمراض ليست وليدة اليوم ولا أمس، بل موجودة قبل كل شركات الأدوية، وقبل اختراع الدواء نفسه. تشهد بذلك العظام المتبقية منذ آلاف السنوات لحالات سرطان في مصر القديمة. واحتكار شركات الأدوية العملاقة للدواء وارتفاع ثمنه أو نقصانه من السوق، لا يجعل منتجات الطب البديل فعالة.
اقرأ أيضًا: الوجه القبيح للطب: قصص انتصار النفعية على الأخلاق
العلاج بالطحالب: أريد دواءً دون أعراض جانبية
على أحد مواقع العلاج بالطحالب ماليزية الأصل، التي تنتشر منتجاتها في إندونيسيا وإثيوبيا والمجر ومصر، ستجد إعلانات عن منتجات تعالج كل الأمراض تقريبًا: الأورام والفيروسات «دون تحديد»، وتقوِّي المناعة وتخفض الكوليسترول، ومضادة للإجهاد ومقوية للجنس.
كلمة السر هي «منتَج طبيعي». لكن، ألا توجد مواد سامة في الطبيعة؟
كل هذه العلاجات غير مستندة إلى أساس علمي. أليس من الأفضل اللجوء إلى دواء مجرَّب ومصنَّع معمليًّا، يؤدي في كل مرة يتناوله جميع المرضى، إلى نفس النتيجة، لأنه يعمل على مستقبِلات معينة في الجسم، بدلًا من علاج لم يُختبَر بشكل علمي، ولا أحد يعرف ما هو الميكانيزم أو الآلية التي يعمل بها، ولا يعالج كل المرضى؟
رحلة الدواء المجرَّب حتى يصل إليك
«الدواء له آثار جانبية مؤذية، أما منتجات الطب البديل، فهي طبيعية وآمنة»، بهذه الطريقة يُسوَّق لمنتجات الطب البديل. إن هذه المنتجات لا نعرف ما هي آثارها الجانبية لأنها غير مجرَّبة بالأساس، وتجريب الدواء لا يكون على حالة أو اثنتين. نزول الأدوية إلى السوق يمر برحلة طويلة من التجريب.
حسنًا. لماذا يعد الدواء الذي تشتريه من الصيدلية آمنًا وفعالًا، والعلاجات غير الدوائية ليست كذلك؟
الدواء يسمى بهذا الاسم لأنه مجرَّب وفعال. تعريف كلمة «دواء»، بحسب «FDA»، هو منتج أَعِد بهدف تشخيص المرض أو تخفيفه أو الشفاء منه أو الوقاية، ويُحدث تأثيرًا في الجسم.
رحلة الدواء من أنبوبة الاختبار في المعمل حتى رفوف الصيدلية، ليست سهلة على الإطلاق، فقد تستغرق 12 عامًا ونحو 350 مليون دولار. عندما تُنتج شركة دواءً جديدًا، فإنه يخضع لتجارب معملية لمدة تقرب من ثلاث سنوات ونصف، قبل التقدم إلى التسجيل في منظمة الغذاء والدواء. ترسل الشركة إلى «FDA» نتائج التجريب ليفحصها «فريق التقييم والبحث» (CDER) المكون من الأطباء ومختصي الإحصاء والكيميائيين وعلم الدواء، والمختصين بتسجيل الأدوية في منظمة الغذاء والدواء، ويشمل ذلك أيضًا معجون الأسنان والشامبو ومزيل العرق لأنهم يدخلون ضمن مسمى دواء.
في البدء، يُجرَّب الدواء على فصائل مختلفة من الحيوانات لاختبار السُّمِّية، ولجمع معلومات أساسية عن الأمان والفعالية. بعدها يدخل الدواء حيز التجريب على البشر، ذلك إذا أعطته «FDA» الضوء الأخضر.
ينقسم التجريب على البشر إلى عدة مراحل:
- تجريب على أصحاء (من 20 إلى 80 متطوعًا): الغرض من هذه المرحلة معرفة الآثار الجانبية للدواء، وكيفية حدوث «الأَيض»، وكيفية طرح الدواء من الجسم، وتستغرق هذه العملية نحو عام
- التجريب على من 100 إلى 300 مريض متطوع لتقييم كفاءة الدواء، وتستغرق نحو عامين
- التجريب على من ألف إلى ثلاثة آلاف مريض متطوع في المستشفيات والعيادات بجرعات مختلفة، لتحديد كفاءة الدواء وتوصيف آثاره الجانبية، وتستغرق هذه المرحلة ثلاث سنوات
بعد ذلك تقدم الشركة بحثًا من مئة ألف ورقة لمنظمة الغذاء والدواء، ليحصل على التصريح، وتأخذ هذه العملية فترة تقترب من سنتين ونصف. بعدها يصبح الدواء صالحًا ليصرفه الأطباء للمرضى، وفي أثناء ذلك تستمر الشركة المنتجة في ملاحظة الآثار الجانبية للدواء، وإرسال البيانات إلى المنظمة. تقول القاعدة إن كل الأدوية لها أضرار أو آثار جانبية. جزء من مهمة صانعي الدواء والمنظمة أيضًا هو توصيف منافع الدواء وأضراره بدقّة، وكيفية التعامل مع هذه الأضرار وعلاجها.
قد يهمك أيضًا: لماذا يذهب العلم إلى المحكمة؟
لماذا قد ينجح العلاج بالهوميوباثي؟
قد لا يضرك منتج الهوميوباثي ولا العلاج بالطاقة والأحجار في حد ذاتها، لكنها أيضًا لن تفيدك.
يخبرني بعض أصدقائي أنهم استخدموا منتجات الهوميوباثي، وكانت النتيجة إيجابية. لكن «ستيفين باريت» الطبيب النفسي الأمريكي ومؤسس «الأكاديمية الأمريكية لمحاربة الخداع باسم الطب» (NCAHF)، يصف الهوميوباثي بالخداع الكامل.
يوضح باريت أن هذه المنتجات التي تنتشر في الأسواق، هي على أفضل تقدير «بلاسيبو» أو دواء لا فعالية له، أو وهم، وهو السبب الذي يؤدي إلى شعور بعض المرضى بالتحسن. ويقول إن السماح بممارسته في أمريكا يرجع إلى أنه في عام 1938، كان أحد ممارسي الهوميوباثي عضوًا في مجلس الشيوخ، واستطاع إقناع عدد آخر من أعضاء المجلس به.
نفس الشيء أكده «إدزارد إرنست» الذي تخصص في الهوميوباثي، ثم أقلع عن ممارسته لأنه بعد سنوات اكتشف أنه غير فعال. إذا تناولت الدواء اليوم قد يكون مؤثرًا، أما غدًا، فقد لا يؤدي إلى نفس التأثير. إرنست يوضح أن الصيادلة الذين يبيعون أدوية الهوميوباثي يسببون أخطارًا لصحة المريض.
«جان شارل سورنيا» يقول في كتابه إن هذا المذهب الذي «ينتمي إلى أفكار القرن الثامن عشر الوهمية، حظي بنجاح كبير في الأوساط غير الطبية»، وبعد 150 عامًا من وفاة صاحبه، لم ينجح هذا المذهب في إثبات علميته، لا من حيث مبادئه، ولا فعاليته.
قد لا يضرك منتج الهوميوباثي ولا العلاج بالطاقة والأحجار في حد ذاتها، لكنها أيضًا لن تفيدك. ضررها يكمن في أنها تدفعك بعيدًا عن العلاج الصحيح عن الطب المبني على البيِّنة، إضافةً إلى أنها تستنزف أموالك في علاج دون فائدة، أما في الحالات المزمنة، فإن الدجل سيؤدي إلى الموت.
ميرهان فؤاد