من الكولومبيين إلى العرب: هكذا أصبحنا سعداء
تعيش شريحة واسعة من السوريين والعراقيين واليمنيين في معاناة الحرب، معارك مستمرة لأعوام ولا يبدو أنها ستنتهي قريبًا، وتعاني شعوب عربية أخرى الفقر والحرمان تحت ظل نظم استبدادية، ممَّا يجعل قطاعًا واسعًا من الناس عُرضةً للاكتئاب والجنون.
في ظل هذه الظروف، يعطي الكولومبيون العالم درسًا في السعادة، رغم أنهم عاشوا لأكثر من 50 عامًا في نزاعات مسلحة بين الميليشيات المتمردة والجيش النظامي وعصابات المخدرات. كثير من الأطفال والنساء من ضحايا العنف شاهدوا أهاليهم يُقتلون أمام أعينهم، وجيرانهم يُختطفون ولا يعودون.
ورغم ذلك تحتفظ نسبة كبيرة من هذا الشعب، وفقًا لاستطلاع سنوي تجريه مؤسسة «وين غالوب الدولية للأبحاث»، بالسعادة والرضا والحس الاحتفالي بالحياة، فكيف وصل شعب كولومبيا إلى ذلك المزاج الرائق؟
لقد تصالحنا مع تناقضات الحياة
يحكي مواطن كولومبي لـ«جيمس بارجنت»، مراسل صحيفة واشنطن بوست الأمريكية الذي قضى خمس سنوات في كولومبيا، عن رجل ألقى بصديقته من على الدراجة النارية وهي في طريقها إلى العمل، وأخذ كل شيء: الدراجة النارية وحقيبتها وجهاز اللاب توب. «إنها كولومبيا»، يقول المواطن، ثم يروي أن الفتاة حكت حكايتها لصاحب محل دراجات نارية في الحي الذي تقطنه، فصمَّم لها دراجة جديدة من أجزاء مستعملة وأعطاها إياها مجانا. «إنها كولومبيا»، يكرر المواطن مبتسمًا.
يقول بارجنت إنه اعتاد هذه «التناقضات السلسة»، الناس في كولومبيا يتنقلون بسهولة بين حالات متعارضة، بين العار والفخر، اليأس والأمل، الحزن والسعادة، لهذا يرى الصحفي الأمريكي أنه لم يُفاجأ بأن كولومبيا أسعد بلد في العالم، رغم المعاناة مع العنف والفقر، وحقيقة أن البلد كان في حرب مع نفسه لأكثر من نصف قرن.
نعم، تأتي كولومبيا على رأس الدول الأكثر سعادةً في العالم، بنسبة تصل إلى 85%، ولكن لماذا؟ ولِمَ لا تكون الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا، الدول الأكثر قوةً وثراءً في العالم، هي الأسعد؟
بالنسبة إلى معظم الكولومبيين، لا شيء أهم من الأسرة والأصدقاء والتسلية.
يقول جيمس بارجنت إن مواطني «العالم المتقدم» يحبون أن يُدخلوا أنفسهم في «وباء الاكتئاب»، الذي يتمثل في زحف الاضطرابات الاجتماعية، والانسحاب إلى العالم الافتراضي، بينما الكولومبيون، على النقيض من ذلك، يميلون إلى عدم القلق حيال هذه الأمور، ويفضلون بدلًا من ذلك الجلوس في الطرقات، يطبخون في الهواء الطلق، ويشربون، ويضحكون، بصحبة عائلاتهم وجيرانهم.
تعيش الأُسَر في كولومبيا حياةً يوميةً في أجواء من الفوضى وعدم التوقع، ممَّا قد يقود إلى التشاؤم والقلق والإحباط، ولكن مهلًا، فقانون السعادة في كولومبيا يقول: إذا لم تكن تتوقع أن يسير كل شيء على ما يرام، فإنك لن تنزعج إذا ساءت الأمور.
بالنسبة إلى معظم الكولومبيين، لا شيء أهم من الأسرة والأصدقاء والتسلية، لا شيء في كولومبيا يَمُتُّ إلى المثالية والاستهلاك المفرط، بحسب بارجنت. ومن جهة أخرى، يُعتبر الكولومبيون ماديين ولكن ليس لديهم شعور بالجدارة، فهم ﻻ يعتقدون أنهم «يستحقون أفضل ممَّا هم فيه»، وبدلًا من ذلك يستمتعون بالأشياء البسيطة في حياتهم.
اقرأ أيضًا: علم النفس يخبرك عن العلاقة بين المادية والسعادة
يؤمن «أوسكار جيليد»، وهو عالم أحياء ينظم رحلات سياحية، أن الحرب وانعدام الأمن دفع الكولومبيين إلى الاستمتاع بحياتهم، دون سبب سوى كونهم أحياء، ثم يضيف: «هذه الحرب التي لا تنتهي هي ذاتها السبب الذي يجعل الكولومبيين لا يكترثون بالحرب. بمعنى آخر: إذا لم تؤثر الحرب عليَّ بشكل مباشر، فينبغي أن أشعر بالامتنان والرضا والتفاؤل، وبأنني محظوظ».
المعاناة طريقنا إلى السعادة
تجعل المآسي الكولومبيين أكثر تصميمًا على إيجاد الفرح في متع الحياة البسيطة.
دعونا نطرح التساؤل بوضوح: هل العلاقات الاجتماعية، وتقدير ما تملكه، والمحافظة على أقل المستويات من الضغط النفسي، كلها تجعل الناس سعداء في بلد بلغ فيه ضحايا العنف 7.5 مليون شخص نزحوا من البلاد، ويعيش ثلث شعبه في فقر مدقع؟
هناك قصص معتادة قد تسمعها من الكولومبيين: أطفال يرتجفون لمشاهدة أهلهم يُقتلون أمام أعينهم، وأشخاص يفزعون لصرخات الجيران وهم يقطعون أحياء، أو يُساقون إلى سيارة ولا يراهم أحد بعدها.
لكن كثيرًا من الناس، بحسب جيمس بارجنت، عندما يحكون هذه القصص يُظهرون الشجاعة، وهي ما يميز ضحايا العنف في كولومبيا، ويُظهرون الدفء والانفتاح والمرح الذي يميز هذا الشعب، وتجعلهم مآسيهم أكثر تصميمًا على إيجاد الفرح في الأسرة والأصدقاء ومتع الحياة البسيطة.
قد يهمك أيضًا: عِش اللحظة: انشغالك بالماضي أو المستقبل قد يدل على حزنك
بالطبع ليست كل الأسر ينالها العنف، إلا أن الحزن والمعاناة باتا جزءًا من الوعي الجمعي للكولومبيين، لكنهم كذلك تطبَّعوا على أن يشقوا طريقهم عبر المعاناة إلى السعادة.
«النعيم» هو اﻵخر
يسلط تقرير نشره موقع «بي بي سي» الضوء على جانب آخر من أسرار سعادة الشعب الكولومبي، هو التسامح، فكولومبيا آخر بلد يمكن أن تسمع فيه عن فتن طائفية، أو حرمان أقلية دينية من حقوقها، والشعب الكولومبي متسامح للغاية مع الحجاب مثلًا، ولا تُثار قضية كهذه في أماكن العمل أو الترفيه.
يمثل الكاثوليك 90% من السكان، ويشكل القادمون من الشرق الأوسط أكبر جالية مهاجرة في كولومبيا، ويقع أكبر مسجد في أمريكا اللاتينية في مايكاو بمنطقة لاغواخيرا، ولا يسمع أحد بوجود مشكلة، سواءً من المهاجرين العرب أو من الكولومبيين حيال المهاجرين.
في مطعم «خليفة» للشاورما، الذي يمتلكه الفلسطيني الكولومبي ماهر نوفل، تعمل المحجبات مع الكولومبيات السوداوات المُعمَّمات، فماذا يكون رد فعل العملاء على هذا الزي؟
يقول نوفل لـ«بي بي سي»: «الكولومبيون طيبون ولديهم حب استطلاع، يسألون الموظفين عن أشياء يشاهدونها في التليفزيون تقول إن كل المسلمين إرهابيون، ويوضح الموظفون أن هذه القلة من الإرهابيين لا تمثل دينهم الذي يدعو إلى المحبة وقبول الآخر، ويتقبل الكولومبيون تلك الإجابة».
قد يعجبك أيضًا: لماذا يجب أن تختلط عناصر المجتمع المختلفة؟
ونحن نحب المخدرات
أحد أكبر الآثار التي فشلت الحكومة الكولومبية، حتى بعد توقيع معاهدة سلام مع المعارضة المسلحة، في حلها هي مكافحة زراعة وتجارة وتعاطي المخدرات. صارت زراعة الكوكايين والماريجوانا جزءًا من اقتصاد العائلات التي يئست من الإصلاحات ومن توقع التزام الدولة بالرعاية والصحة والتعليم.
هناك أنواع من المخدرات قد يجعلك عُرضةً للابتزاز والخطف والاغتصاب والقتل.
هل المخدرات سر سعادة الكولومبيين؟
هذا تساؤل لم تطرحه كثير من التقارير التي ناقشت أسباب السعادة في كولومبيا. في تقرير مصور لموقع «VICE»، يقول أحد السكان: «لدينا كوكايين ولدينا بانجو. الجميع واعٍ وحذر، لكن لا يمكنك التحكم في ذلك بشكل مطلق».
الإجابة هي «نعم». قد تخلق أنواع عدة من المخدرات السعادة، وتُشعرك بقيمة اللحظة، وتدفعك إلى الاستمتاع بحياتك وعملك وما تملكه، ولكنها كسائر الأشياء في كولومبيا لها وجه آخر.
لا يوجد يقين في ذلك البلد، هناك أنواع من المخدرات ربما تكون مغرية، لكن تأثيرها قد يجعلك عُرضةً للابتزاز والخطف والاغتصاب والقتل، مثل الآياواسكا والداتورا.
اقرأ أيضًا: كيف أسهمت المخدرات في تطور البشرية؟
في حديثه لموقع «VICE»، ذكر تاجر المخدرات الكولومبي «ديمانسيا بلاك» نوعًا من المخدرات يُدعى سكوبولامين، وهو نبتة يُستخلص منها علاج، ويرى متعاطوها مشاهد سريعة تأتي وتذهب، ويصيرون مُنقادين كالأطفال، ينفذون كل ما يؤمرون به، فلو طلبت منهم أموالهم لأعطوها لك، ويمكن أن تؤدي الجرعات الزائدة من ذلك المخدر إلى الموت.
يُسمَّى الوقوع تحت تأثير أنواع معينة من المخدرات «تريب» (Trip)، أي رحلة عقلية تجعلك ترى أشياء ليست موجودة في الواقع، وإن كانت الرحلة سيئة يُطلق عليها «باد تريب» (Bad Trip). تسمع كثيرًا في كولومبيا عن أفراد دخلوا رحلات سيئة ولم يعودوا إلى الحياة من جديد، لقد ماتوا.
من المشاهد الشائعة في كولومبيا أن توصل الأم أولادها إلى المدرسة، ثم تعود لتقطف الماريجوانا وتبيعها حتى تتحمل نفقات تعليم أبنائها. واستعرضت صحيفة نيويورك تايمز قصة الأم «بلانكا ريفيروس»، التي تبدأ يومها صباحًا بعد وجبة الإفطار، فتأخذ ابنها إلى المدرسة بشكل طبيعي، ثم تُخرج كيسًا كبيرًا مليئًا بالماريجوانا، وتبدأ في تقطيع النباتات وتهيئها لتجار المخدرات الكولومبيين، ويساعدها ابنها في إعداد الماريجوانا بعد المدرسة.
إحدى سمات الشعب الكولومبي هي التصالح مع متناقضات الحياة.
تقول نيويورك تايمز إن مجموعة متمردة هيمنت على تجارة الماريجوانا في كولومبيا، وفرضت ضرائب على مبيعاتها حتى نالت شهرة دولية، وبعد معاهدة السلام مع الحكومة تعهدت الدولة بمكافحة زراعة وتجارة المخدرات.
تتساءل ريفيروس: «كيف كان من المفترض أن أطعم عائلتي؟»، فقد سبق أن تعهدت الحكومة بتعويض المزارعين الذين يتحولون من المخدرات إلى زراعة ثمار قانونية، لكنها لم تفِ بتعهداتها، ممَّا دفع الناس إلى العودة لزراعة المخدرات، فبدأت الحكومة منذ 2015 في بيعها بشكل قانوني لشركات أدوية، من أجل استخدامها في أغراض علاجية.
ونحن نحب الحياة
إحدى سمات الشعب الكولومبي هي التصالح مع متناقضات الحياة، فلا تجد الأمهات في تلك البلاد حرجًا أو تناقضًا بين تجارة المخدرات وتعليم أبنائهن وتربيتهم بشكل محافظ، إذ يئسن من أن تحسن الحكومة والمعارضة أوضاعهن، لذا يتدبرن حياتهن بطريقتهن الخاصة.
إن سنوات الحرب الطويلة وسيطرة العصابات على أحياء بكاملها جعلت المواطنين لا يتعايشون فقط مع أهوال العنف والإرهاب والإدمان، بل يسخِّرونها لسعادتهم واستمتاعهم بتفاصيل الحياة الصغيرة؛ لتصبح كولومبيا ثاني أكبر بلد في أمريكا اللاتينية من حيث عدد الاحتفالات الشعبية والعطلات الرسمية، وشعبها الأكثر تسامحًا مع الأقليات الدينية، حتى مقارنةً بالبريطانيين والأمريكيين.
في كولومبيا، يشترك الجميع في الابتهاج بكرة القدم، ويرقصون السالسا في الشوارع. يتعلم الأطفال في المدارس نهارًا، ويساعدون أهاليهم في حقول الماريجوانا حين يحل المساء، ولا يدفعهم القتل والعنف والقمع الذي مارسته الميليشيات والقوات النظامية والعصابات في الماضي، وفساد الحكومة وقمعها الآن، سوى إلى التمسك بالحياة والاستماع بوجودهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
أحمد شهاب الدين