حقوق الإنسان تولد على شواطئ الكاريبي.. ماذا تعرف عن ثورة هايتي؟

هبة نجيب مغربي
نشر في 2017/03/14

هايتيون يستقبلون المتمردين على الرئيس الأسبق «جان برتران أريستيد» (2004) - الصورة: Joe Raedle

هذا الموضوع ضمن ملف «الثورة والثوار». لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.


كان ميلاد ثورة هايتي (1791-1804)، ذلك البلد الصغير في البحر الكاريبي، حدثًا تاريخيًّا، ليس على المستوى المحلي فحسب، بل عالميًّا أيضًا، ويومًا بعد يوم يزداد تقدير المؤرخين له، لأن تلك الثورة تمثل أقوى تأكيد خلال التاريخ البشري لـ«حق الإنسان في أن تكون له حقوق».

خلقت تلك الثورة مجموعة كبيرة من الأسئلة السياسية المحورية، أكثر حتى من الثورتين الأمريكية والفرنسية، وقد فعلت ذلك بطريقة لم تكُن واضحةً للبعض وأجبرت آخرين على طمسها، لكن أي تحليل متعمق للتاريخ السياسي الحديث، ليس فقط في هايتي بل على مستوى العالم، يجب أن يتناول تداعيات تلك الثورة على المفاهيم الأساسية المحيطة بالتاريخ البشري في العصر الحديث.

يستعرض «لوران دوبوا» (Laurent Dubois)، الأستاذ المتخصص في دراسة تاريخ وثقافة دول المحيط الأطلنطي بجامعة ديوك الأمريكية، في مقال نُشر على موقع «Aeon»، كيف خطَّ العبيد الثائرون في هايتي مبادئ حقوق الإنسان بعد صراع طويل مع العبودية، وكيف تلاقت الأفكار الإفريقية والأوروبية والأمريكية على أمواج المحيط لتغيِّر مسار حياة ملايين البشر إلى الأبد.

شرارة ثورة العبيد في هايتي

عبيد يُنقلون على متن سفينة - الصورة: Conrad Alberti-Sittenfeld

كانت الحياة في المستعمَرة الفرنسية الشهيرة المعروفة باسم «سانتو دومينغو» (Santo Domingo)، أغنى المستعمرات الزراعية في الأمريكتين وعاصمة جمهورية الدومينيكان حاليًّا، قائمة على رفض قاطع لسُلطة الأغلبية، وتمثل تجسيدًا حيًّا لنظام العبودية في نطاق المحيط الأطلنطي.

نسبة 90% من السكان كانوا يرزحون تحت وطأة استعباد الأقلية؛ لم تكن لهم أي حقوق ولا يُنظر إليهم على أنهم رعايا، بل مجرد ممتلكات ينكر عليها النظام القانوني حقوقها كافة، وإن لم يتقبلوا ذلك النظام ويستجيبوا له فإن السياط تُخضِعهم، وكان أغلبهم ولدوا في إفريقيا، وكثيرون منهم حملتهم أمواج المحيط الأطلنطي إلى المستعمرة قبل وقت قريب من بداية الثورة في 1791.

اقرأ أيضًا: لسَّاها ثورة يناير: تِركة ستِّ سنوات من الخِذلان

استند نظام العبودية في سانتو دومينغو إلى عدد من الآيديولوجيات العنصرية التي ظهرت وترعرعت مع نظام الرِّقِّ السائد في نطاق المحيط الأطلنطي. وفي قلب هذه الآيديولوجيات تأتي الأفكار القائلة بأن مجموعات معينة من الناس، يحدِّدها لون بشرتها، تفتقر إلى القدرة الأساسية على حكم نفسها والاستقلال بحياتها، من ثَمَّ كان نظام الاستعباد في المستعمرة وفي غيرها أحد أنجح الآليات للإنكار العام لحقوق الإنسان في تاريخ العالم الحديث.

ليس من المفترض أن يكون أي شخص عبدًا

الصورة: Paul Townsend

نجح بعض رقيق سانتو دومينغو في أن يحفر لنفسه طريقًا، وإن كان غير ممهَّد، إلى الاستقلالية التي أنكرها عليه نظام المستعمرة. بدأ هؤلاء في زراعة أجزاء صغيرة من الأرض وبيع منتجاتها في الأسواق لحسابهم، كما رسموا بعض معالم الحرية الفكرية والثقافية، وفكَّروا في قليل من الآراء السياسية التي وجدت في الثورة صوتًا يعبر عنها. لم يكُن من المفاجئ إذًا أن مَن شرع بجرأة وشجاعة في تدمير هذا النظام العنصري هو من شدَّد بقوة ووضوح على حقوق الإنسان.

مثَّلت أفعال ثوار سانتو دومينغو لحظة تحوُّل في التاريخ السياسي للعالم. هؤلاء الثوار دفعوا بالمبادئ العالمية لعصر التنوير إلى آفاق جديدة لم يتوقعها أحد، عندما أصروا على ترسيخ مبدأ واضح للعيان كان كثيرون يصرون آنذاك على إنكاره: «ليس من المفترض أن يكون أي شخص عبدًا أو مملوكًا لآخَر».

ولم تكن ثورة هؤلاء في أي مكان من العالم، بل في قلب النظام الاقتصادي لكوكب الأرض، فحوَّلوا المستعمرة التي تُدِرُّ أعلى الأرباح إلى أُمَّة مستقلة قائمة على مبادئ رفض نظام الرقيق، الذي كان يفرض هيمنته على شتى المجتمعات المحيطة في الأمريكتين.

من أين نستقي تاريخًا لثورة الأُميِّين؟

الصورة: University of Southern California Libraries

تمثل كتابة التاريخ الفكري للثورة الهايتية تحديًا قويًّا، لأن الغالبية العظمى من العناصر الفاعلة فيها لم تترك أعمالًا مكتوبة للفلسفة السياسية التي كانت تتبناها.

لا يعني هذا بالطبع أن الثوار لم تكُن لهم فلسفة، ولكنهم لم يدوِّنوها أو يحدِّدوها في نصوص واضحة، شأنهم شأن أقرانهم في الثورتين الأمريكية والفرنسية، الذين اعتمدوا على الحوارات والنقل الشفهي للمعلومات لتحديد ملامح أفكارهم وخططهم.

لم يكُن الإعلام المطبوع وقتها غائبًا تمامًا عن ساحة الثورة الهايتية، لكنه لعب دورًا أصغر من ذاك الذي اضطلع به إبان الثورتين الأمريكية والفرنسية، حين كان ازدهار الطباعة عنصرًا أساسيًّا في الثورة نفسها.

اعتمد المؤرخون كثيرًا على الإعلام المطبوع في الثورتين الأمريكية والفرنسية، لكن نظرًا إلى الطبيعة المختلفة للثورة الهايتية، وحقيقة أن العبودية منعت عناصرها الأساسية من تعلُّم القراءة والكتابة، كان على المؤرخين البحث عن نهج آخر للتعامل مع هذا الحدث المهم، بحسب دوبوا، يتوخَّى ذلك النهج التنقيب في الثقافة الشفهيَّة والتراث الثقافي الإفريقي للثوار.

قد يهمك أيضًا: من يصلح ما فشل فيه مانديلا؟

نساء ثورة هايتي

الصورة: Henry P. Moore

أصرت نساء هايتي على الاستقلال وبناء حياة دينية وعائلية.

حاول الباحثون والمؤرخون استنباط الجوانب الاجتماعية ودور المرأة في الثورة الهايتية من خلال المعلومات والنصوص المتوافرة لديهم في الأرشيفات، من أجل إعادة بناء الأفكار الشائعة عن التجارب والجوانب الاجتماعية والجنسية في إفريقيا وأوروبا ومجتمعات البحر الكاريبي.

حملهم هذا الاتجاه بالطبع على دراسة قضايا مثل الاغتصاب والعنف الجنسي والحمل والولادة وتربية الأطفال في تاريخ تجارة الرقيق، وكذلك إعادة بناء الممارسات العائلية والمجتمعية التي شاركت، ولا شك، في صياغة التاريخ السياسي للعبودية، وبعد ذلك تحرير العبيد.

قد يعجبك أيضًا: أصوات نسوية متمردة فوق مسرح الموسيقى المستقلة

في حالة الثورة الهايتية، شاركت النساء في المعارك المسلحة وفي الجدال السياسي أيضًا، كما قُدْنَ مسيرة تغيير ممارسات العِمالة في المزارع بعد التخلص من قيود العبودية، وأصررن كذلك على الاستقلال وبناء حياة دينية وعائلية لأنفسهن، وربما استئجار الأراضي في محاولة لتجاوز تجربة العبودية.

ثورة هايتي بعينَيْ كولومبوس

لوحة «وصول كولومبوس إلى هايتي» لـ«ثيودور دي براي» (Theodor de Bry) - الصورة: Library of Congress

يقول المفكِّر الهايتي «جان كازيمير» (Jean Casimir) إنه عندما يكتب المرء عن قصة وصول كريستوفر كولومبوس إلى هايتي، أو «آيتي» كما كان السكان الأصليون آنذاك يُطلِقون عليها، فعليه أن يتخذ قرارًا مهمًّا لتحديد أين يقف: هل هو مع كولومبوس على متن القارب، أم يراه من على شاطئ الجزيرة؟

يشير دوبوا في المقال إلى أن تاريخ الأمريكتين دائمًا ما كان يُدوَّن من منظور الأوروبيين، أي الغزاة والمستوطنين، وكانت كتاباتهم وأرشيفاتهم هي المادة الأصلية التي وُلد من رحمها التاريخ المكتوب لتلك البلاد.

تاريخنا الذي نحفظه عن ظهر قلب قد يختلف تمامًا لو حاولنا روايته من منظور آخر.

ناضل المؤرخون على مدار العقود الماضية لعكس اتجاه الدفة، فقرروا الوقوف على الشاطئ لا على متن قارب كولومبوس، والرؤية بأعين الأفارقة الذين استُعبِدوا. وينطبق هذا المنظور نفسه عندما نفكر في الكتابة عن تاريخ العبودية، لا سيَّما الرقيق أنفسهم وكيف كانت تجربتهم مع المؤسسة التي يرضخون لها، وكيف كانوا ينظرون إليها ويثورون ضدها في بعض الأحيان.

يوضح دوبوا كذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تأسست على تاريخ من الغزو والاستيطان، جِيءَ فيه بأشخاص من أوروبا وإفريقيا عبر المحيط الأطلنطي ليصبحوا مواطنين أمريكيين.

قد يهمك أيضًا: العبودية الحديثة: 7 أسئلة تشرح لك نظام الكفالة المعتمد في دول الخليج

وقد حثت ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، مواطني الولايات المتحدة على التفكُّر في تاريخهم، الذي يحاول كثيرون طمس معالمه أو تشويهه لأنه ليس تاريخًا سعيدًا أو وطنيًّا، وتحدثت كذلك عن أنها تحيا في «بيت شيَّدته أيدي العبيد».

إن التاريخ يحيط بنا دومًا ويطل برأسه علينا من حين إلى آخر، لكن تاريخنا الذي نحفظه عن ظهر قلب قد يختلف تمامًا لو حاولنا روايته من منظور آخر.

هبة نجيب مغربي