نحن من قتلنا الإله: هكذا تكلم نيتشه
«عندما بدأ زاراداشت رحلته الروحية، قابل رجلًا قديسًا هَرِمًا وزاهدًا كان يبغض البشرية ويحب الإله، وعندما سمع زرادشت هذه الكلمات قال للرجل: ما الذي يمكنني أن أعطيك؟ دعني أذهب سريعًا، فأنا لم آخذ شيئًا منك. وافترق الاثنان ضاحكين، ولما اختلى زرادشت بنفسه قال: هل هذا ممكن؟ هذا القديس العجوز لم يسمع في غابته أن الإله قد مات؟» - من كتاب «هكذا تكلم زاراداشت» لنيتشه.
«أُعلن موت الإله، ونحن الذين قتلناه». عندما سمعت هذه العبارة لأول مرة تلقيتها بالسخرية. مَن هذا الأحمق الذي يقول إننا البشر قتلنا الإله؟ كيف أصلًا يموت الإله؟
كبرت قليلًا، وعلمت أن هذا الذي ظننته أحمق، ليس سوى الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه»، أحد أهم فلاسفة القرن التاسع عشر. تغيَّر عندي السؤال من كيف يموت الإله؟ إلى ماذا كان يقصد نيتشه عندما ابتكر فكرة «موت الإله»؟
فكرة موت الإله
لم يبتكر نيتشه تعبير «موت الإله»، بل إن اللفظ موجود في الثقافة الألمانية منذ القرن السابع عشر. ويشير في الأصل، بحسب كتاب «حياة الإصلاح» لـ«كاثرينا فون بورا»، إلى النظريات اللوثرية (نسبة إلى مارتن لوثر، راهب ألماني وعالم لاهوت عاش في القرن السادس عشر) حول التكفير عن الخطايا من خلال موت المسيح وصلبه. وللكلمة عند لوثر معنى مختلف عما يقصده نيتشه.
جاءت الكلمة في سيرة لوثر عندما كان يمر بمرحلة إحباط، فقالت له زوجته عندما سألها عن سبب ارتدائها ملابس الحداد: «لا بد أن الإله قد مات، بما أنك تتصرف بتلك الطريقة المحبطة». ففهم لوثر ما تقصده، وآمن بأنه لا يجب عليه الإحباط ما دام يؤمن بأن الإله حي. وظهر اللفظ أيضًا في نشيد «لحن جنائزي حزين» لـ«يوهان ريخت».
يعتقد «جاسون جوزيف ستورم»، في كتابه «أسطورة التخلص من الوهم»، أن الحركة الألمانية المثالية الفلسفية في القرن التاسع عشر، وخصوصًا المشاركين مع «جورج هيغل»، هم المسؤولون عن تحويل العبارة من صداها المسيحي ودمجها مع الفلسفة العلمانية والنظريات الاجتماعية.
ففي كتابه «ظاهريات الروح»، ناقش هيغل فكرة موت الإله وتأثيرها في المجتمع، وكتب عن الألم الكبير المصاحِب لمعرفة أن الإله قد مات، وقال: «مثل السقوط في هاوية اللاشيء، يجب وصفه بالألم اللانهائي. الإحساس بأن الإله مات مرحلة، لكن مع ذلك مجرد مرحلة للأفكار العليا».
قبل نيتشه، ناقش الفيلسوف الألماني «فيليب ماينلاندر» الفكرة من خلال معارضته نظريات «شوبنهاور» في الميتافيزيقا، وجادل فكرة وجود قوة واحدة خلف العالم، بأن هناك إرادات متعددة تكافح من أجل الوجود. يقول ماينلاندر في كتابه «فلسفة الفداء»: «الآن، لدينا الحق لإعطاء الكائنات الاسم المعروف الذي ينوب دائمًا عما لم يدركه أقوى الخيالات وأكثرها جرأة، ولا القلوب الورعة، ولا حتى التفكير المجرد والعميق: الإله. لكن هذه الوحدة الأساسية أصبحت من الماضي. إنها من خلال تغيير كائناتها دمرت نفسها تمامًا. مات الإله، وموته كان حياة للعالم».
قد يهمك أيضًا: ماركس، نيتشه، فرويد: كيف زرعوا الارتياب بداخلنا؟
صرخة نيتشه
أول مرة طرح فيها نيتشه فكرة «موت الإله» لم تكن في إطار احتفالي، بل في سياق شبه جنائزي. ففي كتاب «العلم المَرِح» الذي نُشِر عام 1882، ووصفه بأنه «أكثر كتبه شخصية»، قال: «لقد مات الإله. ونحن الذين قتلناه. كيف لنا أن نعزي أنفسنا ونحن قتلة؟ مَن كان أكثر قداسة وعظمة في العالم نزف حتى الموت بسبب خناجرنا. من ذا الذي يمسح الدماء من على أيدينا؟ أي مياه تكفي لتطهير أرواحنا؟ أي طقوس تطهير مقدسة يجب أن نمارسها؟ أليس عظمة هذا الفعل كبيرة علينا؟ أيجب علينا أن نصبح آلهه فقط لنكون مستحقين لذلك؟».
يظهر من الفقرة أن الفكرة لدى نيتشه أوسع من النظرة الإلحادية. لقد قتلنا الإله من خلال البشاعة التي أظهرها الإنسان في حقبة عصور الظلام والحروب الصليبية باسم الإله والدين. لذلك يعطي نيتشه المهمة إلى الإنسان لإكمال نقص العالم من أجل حياة حقيقية على الأرض.
إعلان نيتشه موت الإله كان رسالة للبشر للتحرُّك نحو فكرة أن كل إنسان يجب عليه إعادة اختراع نفسه ليصبح متذوقًا لمتعة الحياة.
تأثر إعلان نيتشه موت الإله بالثورة التي أحدثها عصر التنوير في أوروبا، حين طُرِحَت فكرة أن الكون محكوم بقوانين الفيزياء، وليس من خلال قوة الإله. قتل الفلاسفة الإله من خلال رؤيتهم الواسعة للكون والنظريات العلمية الحديثة وتصاعد العلمانية في أوروبا. قتلت الإله المعروف في الأديان الإبراهيمية، والذي كان أساس المعرفة في الغرب لآلاف السنين. رأى نيتشه أن أوروبا لا تحتاج إلهًا ليكون مصدرًا للأخلاق والمعرفة والقيمة. الفلاسفة والعلماء سيؤدون هذا الدور للبشرية.
هذه الفكرة قادت فلسفة نيتشه حتى نهاية حياته، وذكرها في كثير من كتبه اللاحقة.
لكن لا يجب مناقشة هذه الفكرة بمنأى عن الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية التي عاشها نيتشه، وأدت إلى هذا الإعلان الأشبه بالتمرد على السائد. كان إعلان نيتشه «موت الإله» طريقته لقول إنه لا توجد قوة ميتافيزيقية تتحكم في حياة الإنسان وتضع إطارًا متعاليًا للمعاني، فالفرد اذًا هو المسؤول والمتحكم في أفعاله والطريقة التي يشكل بها عالمه.
والد نيتشه كان راهبًا بروتستانتيًّا، ومات عندما كان ابنه في سن الرابعة، لينشأ في أسرة متدينه تسيطر عليها التقوى اللوثرية الكئيبة من وجهة نظره، برفقة أمه وشقيقته. لذلك كان إعلانه موت الإله تمردًا على هذا الحِمل المظلم للمواعظ المسيحية التي سيطرت على حياته.
إعلان نيتشه كان ذا رسالة اجتماعية. بالنسبة إليه، عندما مات الإله أصبح الجسد حرًّا، ليقول في كتاب «العلم المَرِح» إن «الحاجات الفسيولوجية الواهمة التي تختبئ تحت عباءة الموضوعية والمثالية والروح النقية، تصل إلى حدود مخيفة»، ويضيف: «صُمِّمَت المسيحية لرؤية العالم سيئًا وقبيحًا، فأصبح العالم سيئًا وقبيحًا». إعلان نيتشه موت الإله كان رسالة للبشر للتحرُّك نحو فكرة أن كل إنسان يجب عليه إعادة اختراع نفسه ليصبح متذوقًا لمتعة الحياة، هذه المتعة التي كبتتها المسيحية.
في الوقت الذي قال فيه نيتشه ذلك، كانت دعوة «بسمارك» لتوحيد ألمانيا في أوجها، والذي قاد معركة لتوحيد الثقافة الألمانية خلف البروتستانتية. وقف نيتشه ضد تلك الدعوة عكس الكنيسة، فقد كان مفكرًا حرًّا. وبالنسبة إليه، كان بسمارك أيقونة للانتهازية والابتذال. وعندما أعلن موت الإله كان يبدو كأنه يقول لرجال السياسة، لا يمكنكم استغلال اسمه في السعي وراء دعواتكم.
تبعات إعلان نيتشه موت الإله
كان نيتشه مدركًا لعواقب إعلانه الصادم الذي أحدث زلزالًا في أوروبا، وما يزال تأثيره مستمرًّا حتى اليوم بعد أكثر من مئة عام. يقول في كتابه «غسق الأصنام»: «عندما يتخلى شخص عن الإيمان بالمسيحية، فإنه يتخلى عن قيمها الأخلاقية، فهذه الأخلاق ليست قائمة بذاتها. فالمسيحية نظام متكامل، رؤية كاملة للأشياء مرتبطة ببعضها. عندما تهدم مبدأ أساسيًّا فيها، وهو الإيمان بالإله، فإنه كفيل بهدم النظام كله».
لكنه مع ذلك، يضيف أن هذا ليس شيئًا سيئًا بالكامل، فـ«عندما نسمع أخبار موت الإله، فإننا، نحن الفلاسفة والأرواح الحرة، نشعر بأننا مضاؤون بنور الفجر الجديد».
لكن مع تدمير النظام القديم، تأتي المخاطرة بأن يُخرج الإنسان أسوأ ما فيه، وأن يسقط في اليأس والعدمية. إذ أصبح يعلم أن الكون ليس مُصممًّا لأجله، ويتساءل عن معنى الحياة من دون وجود الإله.
بات الإنسان يعتقد بأنه تطور من كائن وحيد الخلية، ويظن أنه عرف أخيرًا حقيقة العالم الذي يعيش فيه. عبَّر نيتشه عن خوفه من أن هذه المعرفة قد تقود الإنسان إلى التشاؤم، وما وصفه بـ«السير إلى العدم».
وقال في كتابه «إرادة القوة»: «ما أراه هو تاريخ القرنين القادمين، وأصف ما هو قادم، والذي لا يمكن تغييره. التقدم نحو العدمية، لبعض الوقت، الآن الثقافة الأوروبية تسير نحو الكارثة».
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حمَّل بعض الفلاسفة والمفكرين نيتشه مسؤولية صعود النازية. ليس بسبب إعلانه «موت الإله»، لكن بسبب البديل الذي طرحه. ففي إطار بحثه عن بديل للإله الميت، طرح فكرة «الرجل الخارق» أو «الإنسان الأعلى» الذي سيأتي لإنقاذ العالم. هذا الرجل سيصنع معاني جديدة وقيمه وأخلاقه الخاصة المبنية على أساس حياته في العالم الذي يعيش فيه.
من خلال العيش بقانونه الأخلاقي الخاص، سيملك «الرجل الخارق» إحساسًا عميقًا بالأخلاق وأهدافًا ثابتة. وفي ضوء هذا الموقع المثقف يتقدم ببطء نحو تقدم الإنسانية وإخراج أفضل ما فيها. الرجل الخارق سيكون واعيًا بمعاناة الوجود، ومستعدًا للتضحية بسلامته من أجل المساعدة في سمو الإنسانية.
مع مرور الوقت، في ظن نيتشه، سيساعد الرجل الخارق البشر في التخلص من قيود الأخلاق المؤسسية، وهكذا سيصبح رمزًا يؤثر في التاريخ إلى الأبد.
في ضوء هذه الرؤية، يتضح أن نموذج نيتشه للرجل الخارق بعيد تمامًا عن المشروع النازي المجرم. إنه أقرب إلى نموذج قيصري.
لكن نيتشه كان يعلم أن هذا النموذج هدف بعيد المنال، وأدرك صعوبة الوصول إليه، ورأى أن الإنسان المعاصر مجرد حلقة وصل، فجاء في كتاب «هكذا تكلم زاراداشت»: «الرجل هو الحبل الواصل بين الحيوان والإنسان الأعلى، حبل فوق الهاوية»، وأضاف على لسان زاراداشت: «أحب من يعيش ليتعلم، ويبحث عن المعرفة من أجل الحياة المستقبلية التي قد يعيشها الإنسان الأعلى، وهكذا يسعى إلى هلاكه الشخصي. أحب هذا الذي يعمل ويخترع، لأنه ربما يبني منزلًا للإنسان الأعلى، ويهيئ له الأرض».
يظهر من هذه الكلمات أن هذا هو موقف نيتشه نفسه، فمن خلال فلسفته أراد تجهيز الأرض لاستقبال الإنسان الأعلى.
في نفس الكتاب، عبَّر نيتشه عن إحباطه من أن هذه الرسالة ربما لن تصل إلى الناس، فيقول على لسان زاراداشت: «ها هم يقفون، ها هم يضحكون. إنهم لا يفهمونني، فأنا لست الفم لهذه الآذان»، ورأى أن الهدف الذي يسعى اليه الناس أكثر حقارة من الإنسان الأعلى، فقدم نموذجًا آخر هو «الرجل الأخير»، فقال: «سأرضخ لغرورهم، وسأحدثهم عن أكثر الأشياء الجديرة بالإزدراء. هذا مع ذلك هو الرجل الأخير».
في عالم الرجل الأخير، لن تكون هناك أفكار مزدهرة، وسيكون الإبداع مكبوتًا.
في الكتاب، سيفرح العامة بهذا الرجل الأخير، ويصيحون: «أعطنا هذا الرجل الأخير يا زاراداشت، أعطنا الرجل الأخير، وسوف نهديك الإنسان الأعلى».
شعر زاراداشت بالحزن وقال في قلبه، وهنا يبدو أنه لسان حال نيتشه نفسه: «إنهم لا يفهمونني، ويظنون أني أستهزئ بمداعبات سخيفة. الآن ينظرون إليَّ ويضحكون. وبينما يضحكون يكرهونني، فهناك برود في ضحكاتهم».
علي جابر