في قاعات الدرس كما في الحياة: الذكور أكثر هشاشةً
كان صباحًا ربيعيًّا جميلًا تحت شمس عَمّان الدافئة، قبل امتحانات نهاية العام مباشرة، وكان من المقرر أن تقابل «أماندا ريبلي» مجموعة من الفتيات في مكتب مديرة مدرسة الأميرة عالية الثانوية. كانت رائحة النظافة والترتيب تغمر المكان، والجدران مطلية بلون أبيض رائق يتماشى مع لون الحجاب الذي ترتديه غالبية طالبات المدرسة، التي تقدم خدماتها لـ470 فتاة.
أَدخلت المديرة وراءها سبع فتيات تعلو وجوههن ابتسامات خجلة، يلقين نظرات متفحصة على الزائرة الجديدة. أخبرتهن المديرة أن يحسنّ التصرف معها وأن لا يصدر منهن قول يسيء إلى المدرسة أمامها، وقالت عنهن للزائرة إنهن تلميذات مثاليات لا يعرفن سوى حسن التصرف.
وهكذا فعلن، أمام مديرتهن وبين جدران المدرسة المحاصرة لهن، لكن أماندا ستكتشف في ما بعد أن كواليس المشهد مختلفة كثيرًا عما بدا لها أول الأمر.
متفوقات، ولكن..
لم يسبق أن تقلدت امرأة منصب وزير التعليم في الأردن.
تمثل النساء هناك أقل من خُمس القوى العاملة، ولا تشغلن سوى 4% من مجالس إدارات الشركات العامة. لكن في المدارس تختلف الصورة بشكل جذري، إذ تتفوق الفتيات على أقرانهن من الذكور في كل المواد تقريبًا وفي كل المراحل العمرية.
كذلك، تبلغ نسبة الإناث إلى الذكور في جامعة الأردن 2 إلى 1، ويحصلن على درجات أعلى في الرياضيات والهندسة ونُظم المعلومات الحاسوبية، وعدد من المواد الدراسية الأخرى.
تنال النساء الآن في العالم العربي بأكمله درجات علمية أكثر من نظيراتهن في الولايات المتحدة. في السعودية وحدها، تحصل النساء على نصف الدرجات العلمية. ومع ذلك، لن يستفيد كثيرات منهن في شيء من هذه الإنجازات، فلا تزال النساء في العالم العربي ينفقن أغلب أعمارهن في العناية بأسرهن.
هذا أمر محير للغاية، إذ اقتنع الباحثون لوقت طويل أن الآمال المستقبلية أفضل محفز لطلب التعليم، وأن إصرار النساء على التعلُّم راجع إلى رغبتهن في الحصول على حقوق قانونية وسياسية أكبر في المجتمع. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى نساء العالم العربي، فنسبة العاملات في دول كالأردن وقطر والسعودية والإمارات وسلطنة عمان أقل من واحدة من بين كل خمسة عاملين.
تمثل هذه الفجوة بين الجنسين مشكلة عالمية، والظاهر أنه كلما تمكنت الفتيات من الالتحاق بالمدارس، يحرزن إنجازات أعلى من الذكور.
في عام 2015، تفوقت فتيات في سن المراهقة على فتيان في اختبار قراءة أُجري في 69 دولة. في أمريكا مثلًا، تكمل الفتيات دراستهن الثانوية ويلتحقن بالجامعة أكثر من الفتيان، بل ويكملن تعليمهن مدة عام أطول. لكن هذه الفجوة أبلغ اتساعًا في العالم العربي، أكثر من أي مكان آخر.
التحفيز: العصا السحرية المكسورة
الرجال غير المتعلمين والمتبطلين عبء على الجميع، وأكثر عُرضةً للإصابة بالأمراض النفسية وممارسة العنف ضد أسرهم.
تقول «ناتاشا ريدج»، المدير التنفيذي لمؤسسة الشيخ سعود بن صقر القاسمي لبحوث السياسات العامة في الإمارات: «إذا أعطيت الفتيات تعليمًا جيدًا، فإنهن يستفدن منه ويحققن إنجازات مذهلة، هذا يحفزهن بنسبة ملحوظة». لكن بالنسبة للفتيان، خصوصًا من ذوي الدخل المنخفض، فإن هذا لا يُحدث الأثر نفسه: «يناضل هؤلاء الأولاد بحثًا عن رابط بين المدرسة والحياة، وكثيرًا ما ينظرون إلى المدرسة على أنها مضيعة للوقت».
التحفيز أساس التعليم، تحديدًا النظام التعليمي الحديث، فالفكرة البسيطة هنا أن المزيد من الترقي في التعليم يعني بالضرورة مزيدًا من الفرص المتاحة في الحياة العملية، وهو ما يفسر سبب تخلف نتائج التعليم في بعض الدول الغنية، وتحقيق نتائج مذهلة في دول أخرى رغم الفقر والتعليم غير الجذاب. سيخبرك أي مدرس أنه إذا آمن الأطفال بالمدرسة، يجري كل شيء آخر بسهولة.
التأثير هنا عالمي. الرجال غير المتعلمين والمتبطلين عبء على الجميع، وأكثر عُرضةً للإصابة بالأمراض النفسية وممارسة العنف ضد أسرهم، بل ودخول السجن.
لكل دولة ظروفها الخاصة دون شك، والتعميم غير مناسب. ففي لبنان مثلًا، ما زال الفتيان يحرزون درجات أعلى في الرياضيات، وفي اليمن تلتحق الفتيات بالمدارس بمعدل أقل من الذكور.
مستوى التعليم وإنجاز الفتيات والفتيان في العالم العربي متدنٍّ عمومًا، ونرى الدليل على هذا في الاختبارات الدولية. المربك أن الفجوة التعليمية بين الجنسين في أغلب دول المنطقة واحدة تقريبًا، حتى بين الدول المختلفة جدًّا عن بعضها، في الدول النفطية الغنية كسلطنة عمان مثلًا، حيث يضمن الذكور وظائف حكومية بعد إنهاء الدراسة، أو في الأردن الفقيرة، حيث تتزايد معدلات البطالة عامًا بعد عام.
اقرأ أيضًا: هل هناك عمر يناسب كل الأطفال لدخول المدرسة؟
كُنّ مطيعات، تكُنّ أفضل
لنعد إلى زيارة أماندا لمدرسة الأميرة عالية، فحين جلست أمامها سبع فتيات بملابس المدرسة الخضراء المميزة، وجلست المديرة إلى مكتبها، وبعد احتساء فنجان من القهوة العربية، سألت أماندا التلميذات عن الأسباب التي تجعل، في رأيهن، الفتيات يتفوقن على الفتيان في مدارس الأردن.
ردّت نوّار موسى (16 عامًا)، التي ترتدي نظارة طبية وشريطًا أحمر عريضًا بين خصلات شعرها البني المجعد: «أؤدي فروضي المنزلية وأقرأ الكتب، أما أخي، فما الذي يفعله؟ يخرج مع أصدقائه أو يلعب البلاي ستيشن». أومأت باقي الفتيات إيجابًا، ثم أيدتها ريما الصبّاح ذات السبعة عشر ربيعًا: «إذا ذاكرتُ خمس ساعات في اليوم، لن يكون هذا كافيًا. وإذا ذاكر أخي ساعة في اليوم، ستكون معجزة».
التقييدات يمكن أن تحفِّز بعض الفتيات، فينظرن إلى التعليم كوسيلة للخروج من الحصار.
تبعًا لبيانات استطلاعية، تؤدي الفتيات في كل أنحاء العالم المتقدم فروضهن المنزلية لساعة أكثر من الفتيان، ويلعب الأولاد بلاي ستيشن يوميًّا تقريبًا. وفي كثير من الدول العربية، يَحرِم الأهل الفتيات من الحرية الممنوحة للذكور، فالخوف دائم من أن تجلب الفتاة العار على العائلة بعلاقة مع فتى غريب، في حين يتجمع الفتيان المراهقون في الشوارع والمقاهي دون رقابة.
هناك أيضًا اختلافات في التحفيزات العملية، ففي الأردن مثلًا يستطيع الشاب ذو الدرجات المتوسطة الحصول على وظيفة بعد الثانوية العامة، في الشرطة أو خدمة الفنادق. ربما لن تكون وظيفة عظيمة، لكنها ستوفر له المال كي يتزوج ويكوِّن عائلة، أي أنها ستحقق له مكانة في مجتمعه.
لكن على الجانب الآخر، للنساء خيارات أقل، لأن عليهن إحراز درجات عالية في الثانوية العامة كي يلتحقن بالجامعة ويحصلن على وظيفة محترمة في التدريس أو الطب، وإلا يتزوجن مباشرة، فمن غير اللائق أن تعمل النساء في الوظائف الخدمية في المطاعم والفنادق إلى جانب الرجال.
يحدث الأمر نفسه في الدول النفطية الغنية، ففي السعودية لا يوجد حافز للفتيان كي يجتهدوا في المدرسة، لأن الدولة تتكفّل بالفعل بتوفير وظائف لكل الذكور بمجرد وصولهم سن العمل. وطبعًا، لا توجد حاجة للكلام عن قدر الحرية المتاح للذكور هناك، في مقابل التقييد المطلق لحرية الفتيات.
تقول السعودية مضاوي الرشيد، عالمة الأنثروبولوجيا الدينية في جامعة لندن، إن التقييدات يمكن لها تحفيز بعض الفتيات: «أظن أنهن ينظرن إلى التعليم كوسيلة للخروج من الحصار».
هذه النظرية مربكة، نظرًا لما يعرفه الباحثون عن الطبيعة البشرية، فقد وجد علماء النفس أن الاستقلالية تؤدي إلى التحفيز، لا إلى الانفصال النفسي والانسحاب. لكن يبدو أن الحرية في الشرق الأوسط تعمل كمعيق أكاديمي للذكور، فتسمح لهم بالتشتت عن المدرسة في فترة المراهقة المعروفة بالاندفاعية. أما الفتيات، فمع قلة الخيارات المتاحة لهن، لا يمتلكن سوى المذاكرة.
هذه نظرية لا يمل المسؤولون عن التعليم في المنطقة العربي ترديدها، حتى الأبناء والطلاب أنفسهم. لكن لم يبدُ ﻷماندا أن تلك القصة المكررة، التي رددتها الفتيات عليها يوم الزيارة، كاملة، وكان لا بد من الانتظار حتى يتكشّف شيء.
الذكورة كنقمة دراسية
حكى أحمد عن سوء المعاملة والإهمال ومساعدة الطلاب على الغش في مدرسته، وقال إن ضرب المعلمين للتلاميذ أمر شائع جدًّا في مدارس الأولاد.
لحسن الحظ لم تنتظر أماندا طويلًا، فقبل منتصف ليل يوم المقابلة، وصلها بريد إلكتروني من مها دراغمة، إحدى الطالبات اللاتي قابلتهن في مكتب المدير. كانت أماندا قد وزعت عليهن بطاقات فيها معلومات التواصل معها، في حال أَرَدْن قول المزيد بعيدًا عن عين المديرة المراقبة. قالت مها في رسالتها: «أنا الفتاة التي جلستْ في صمت على الأريكة، وأنا لا أوافق على أن الفتيات أذكى من الفتيان، وبالتأكيد لا أوافق على أننا نذاكر بجد».
التقتها أماندا في اليوم التالي في أحد المقاهي. مها صغيرة، في السابعة عشرة فقط، بشرتها بلون الزيتون، وترتسم على وجهها ابتسامة حذرة. قالت لها: «قبل أن تأتي، أخبرتنا المديرة أن لا نقول شيئًا سلبيًّا عن المدرسة»، وقد امتثلت مها، لكنها لم تستطع مواصلة الصمت.
قالت مها إن كلام الفتيات لم يكن كذبًا كله، لكنهن لا يدرسن بكل هذه الجدية، ويخرجن أيضًا، وإن كان خروجهن أقل من الأولاد. لكن مها نفسها تلعب بلاي ستيشن، وقد تهربت من المدرسة بضع مرات. ووفقًا لها، فسواء خرجت الفتيات أو لم يخرجن، فإن الإنترنت حاليًّا مليء بالمشتتات. الأمر ليس راجعًا إلى اختلافات بين الجنسين.
ترى مها أن المشكلة تكمن في المدرسة نفسها، فهي مملة ولا يوجد اهتمام كافٍ بالطلاب. لكن مهما كان الوضع سيئًا، لا تزال مدرستها أفضل من مدرسة أخيها، الذي يذهب إلى مدرسة أولاد فقط، لأنه بعد سنٍّ معينة، يُدرج الفتيان والفتيات في مدارس منفصلة. يحدث هذا في الأردن وفي أغلب الدول العربية. وجميع المعلمين في مدارس الفتيان من الذكور بالطبع.
اصطحبت مها أماندا إلى منزلها كي تقابل أخاها وأمها. أحمد (15 عامًا) حكى، بعد بداية خجول، عن سوء معاملة معلميه له ولباقي الطلاب، عن إهمالهم ومساعدتهم الطلاب على الغش أو غض البصر عنه، وحكى أيضًا عن أن ضرب المعلمين للتلاميذ أمر شائع جدًّا في مدارس الأولاد.
ثم أيدتهما والدتهما: «مدارس الفتيات أفضل، أقل خطورة».
في عام 2014، أجرت وزارة التعليم الأردنية دراسة عن الفجوة بين الجنسين. أقرت الدراسة أن مدارس الفتيان أماكن أكثر عنفًا، وقال أكثر من نصف الفتيان المشتركين في الدراسة إنهم تعرضوا للتنمر في المدرسة خلال العام الماضي، مقابل 11% فقط من الفتيات.
وأكد ثلث المعلمين الذكور أنهم شهدوا عنفًا جسديًّا بين التلاميذ، مقارنةً بأقل من ربع المعلمات في مدارس الفتيات. واشتكى الفتيان أيضًا من علاقتهم السيئة بمعلميهم، وقال 40% منهم فقط إنهم يؤمنون باهتمام معلميهم بأدائهم الدراسي، مقارنةً بـ74% من الفتيات.
أكدت هذه النتائجَ دراسةٌ حديثةٌ لم تُنشر بعد، راقب خلالها فريق من خبراء التعليم فصولًا دراسية مختلفة في أنحاء الأردن، ووجدوا أن المعلمين الذكور يميلون إلى التقليل من قدرات تلاميذهم ومعاقبتهم عند الخطأ في الإجابة، وأن الأولاد يشتكون أكثر من العقاب الجسدي الذي يوقعه معلموهم بهم.
وجدت دراسة أخرى أُجريت عام 2014 أن أغلب المعلمين الذكور عبّروا عن عدم رضاهم بمهنة التدريس. المعلمون في الأردن لا يكسبون ما يكفيهم من المال لإعالة عائلة يَفرِض المجتمع أن يكون الذكر عائلها الأساسي، لهذا يضطرون إلى العمل في وظائف إضافية كمدرسين خصوصين أو حتى سائقي تاكسي من أجل تحسين دخلهم الضئيل.
تبعًا لإحصاءات وزارة التعليم الأردنية، يحقق المعلمون الذكور، الذين مرُّوا هم أنفسهم بالنظام التعليمي ذاته مثل طلابهم، نتائج أقل في اختبار القبول الوطني للتدريس مقارنةً بالمعلمات. ويشير هذا إلى أن الفتيان يحصلون على معلمين مستواهم أقل من الفتيات.
بالإضافة إلى كل هذا، لا يُعتَبر التدريس مهنة مرموقة في الأردن بالنسبة إلى الرجال، ولهذا لا يطمح كثيرون للاشتغال بها.
دخلت أماندا الفصول وشاهدت التلاميذ منشغلين بدروسهم ويعيشون جوًّا تعليميًّا بامتياز، لكنها كانت تعرف أن هذا غير حقيقي.
يُشرِف محمد القزاق على 35 مَدرَسة في عَمّان، ويقول إن ولاء المعلمات لمهنتهن أكبر من المعلمين: «حين أطلب من المعلمين أن يجلبوا لي خططهم للفصل الدراسي، لا يهتمون. عندما تكون هناك دورات تدريبية، لا يحضرون. لا يريدون أن يكونوا معلمين، يعملون من أجل الراتب الذي يحصلون عليه لا أكثر». وحين يقابل أحدهم مصادفةً خلال عمله في وظيفة إضافية بمطاعم أو مركز تجاري يقول له: «ماذا بوسعي أن أفعل؟ أريد أن أتزوج، أريد أن أشتري سيارة».
يحكى أحد الطلاب عن معلم البيولوجيا الذي اعتاد إغلاق ستائر الفصل في الحصة الأولى والنوم على مكتبه، بعد أن أنهكته في اليوم السابق وظيفتاه الأخريان.
مثلما زارت أماندا مدرسة فتيات، اختارت مدرسة عاكف الفايز الابتدائية للبنين لتقارن بنفسها وتسمع الرأي الآخر.
بدت المدرسة أقل نظافةً من مدرسة الفتيات بالفعل، ربما لأنه يُطلَب من البنات المساعدة في تنظيف مدرستهن، في حين لا يُفرض على الأولاد شيء من هذا إلا في مناسبات خاصة، عند زيارة شخصيات مهمة مثلًا.
دخلت أماندا الفصول الدراسية وشاهدت التلاميذ وهم منشغلون بدروسهم ويتفاعلون مع معلميهم ويعيشون جوًّا تعليميًّا بامتياز، لكنها كانت تعرف مسبقًا أن هذا الأداء غير حقيقي، فقد أخبرها تلميذان قبل وصولها بقليل أن المدير أمر الطلاب بحسن التصرف، لأنه «ستأتينا زائرة مهمة».
سمح لها المدير بمحاورة مجموعة من الفتيان في حجرته، وجلس إلى مكتبه وخلفه عدد من البورتريهات الضخمة للملك وأقاربه من الذكور. لم تسفر المقابلة سوى عن تكرار للنظرية المعتادة: «الفتيات أكثر جديةً في عديد من الأشياء، أما أنا فأخرج مع أصدقائي، نلعب كرة القدم في أي مكان نستطيع إيجاده لساعات. تبقى أَخَواتي في المنزل ويلعبن على هواتفهن أو يذاكرن».
لكن في اليوم التالي زارت أماندا الطالب الذي قال هذا، عز الدين أبو الدرك، في منزله، وقد وجد شجاعة لتغيير قصته قليلًا بعيدًا عن الأعين المسلطة عليه في مكتب المدير، وهي أحد أوجه التشابه المهمة بين المدرستين.
قال أبو الدرك إن المشكلة في مدارس الأولاد، لا في اختلاف العادات بين الجنسين: «أنا أذاكر أكثر من أخواتي الفتيات». وافقته أمه وأخواته الجالسات إلى جواره. لا يلعب عز الدين كرة القدم لساعات كل يوم: «أريد أن أصبح محاميًا دوليًّا، وأحب مذاكرة الرياضيات واللغة العربية». واشتكى من أن بعض المعلمين ينفقون أغلب الوقت في محاولة إرساء النظام داخل الفصل.
قد يهمك أيضًا: لماذا تظن البنات أنهن أقل ذكاءً من الأولاد؟
مدارس أحادية الجنس
تقول «ماري تادروس»، وهي مستشارة البرامج الأكاديمية في أكاديمية الملكة رانيا للمعلمين، وتعمل على تحسين تدريب وانتقاء المدرسين في الأردن، إن أغلب مشاكلها مع المعلمين الذكور ترجع إلى «رغبتهم في الصراخ في الأطفال، في إهانتهم. لكنك بمجرد أن تفعل هذا مع أطفال صغار، تخسرهم».
لا يتلقى المعلمون تدريبًا خاصًّا لمساعدتهم على استيعاب وتطبيق أساليب معينة للتعامل في المدارس المنفصلة.
بالإضافة إلى المحاولات الأكاديمية، تدرس وزارة التعليم اقتراح رفع سن فصل التلاميذ بناءً على الجنس، حتى يتسنى للأولاد قضاء وقت أطول مع معلمات مجتهدات. ولأن هذا المقترح تعطّله اعتراضات المحافظين، فقد بدأت الوزارة في تطبيق مقترح آخر أسهل: تعيين المعلمات في المدارس الابتدائية المختلطة قبل الفصل، بحيث يكون لهن تأثير أكبر على كلا الجنسين. وبالفعل، كلما ترك أحد المعلمين مكانه، استُبدل عمدًا بمعلمة ما أمكن.
ينظر الأولاد إلى من يحققون إنجازات دراسية كأنهم أقل ذكورة.
بعيدًا عن الأردن، أجرت سلطنة عُمَان في عام 2014 حلقة نقاش موسعة عن مشاكل الذكور في الدراسة، وعُرضت ونوقشت فيها نتائج مشروع بحثي استغرق ثلاث سنوات عن الفجوة الدراسية بين الجنسين، واقتُرحت بعض الحلول.
خلال الحلقة، وضّح حمّود خلفان الحارثي، وكيل التعليم والمناهج في السلطنة، أننا «اعتدنا الحديث عن تمكين النساء، والآن نحن بحاجة إلى الحديث عن تمكين الرجال».
توصل البحث إلى أن المشكلة لا تكمن ببساطة في حرية الفتيان الزائدة وسوء إعداد المعلمين الذكور فقط، بل الأمر أكبر من هذا، ويتضمن قائمة طويلة من العوامل المتداخلة، مثل شعور الطلاب بالأمان، وعادات الدراسة، وطبيعة الصداقات بين الأقران، وهذه العوامل تمتزج لتنتج جوًّا صحيًّا يشجع الدراسة والطموح، أو العكس: جو سام يقتل كل تحفيز.
في كل دولة هناك دليل على إمكان إنتاج مزيج صحي أكثر من الموجود. ففي الأردن على سبيل المثال، تقل الفجوة بين الجنسين كثيرًا في المدارس الخاصة. ومع أن أحدًا لا يعرف بعدُ سبب هذا، فإنه ربما يرجع إلى قدرة الأهل ذوي المستوى المادي المرتفع على إعطاء أولادهم دروسًا خصوصية، أو قد يكون جودة التدريس، لأن هذه المدارس تعطي أجورًا أعلى، فيتفرغ مدرسوها تمامًا للتدريس.
مهما يكن السبب الأساسي، نعرف كحقيقة أن المدارس الخاصة تكون في الغالب مدارس مشتركة لا ينفصل فيها الجنسان، أي يتعلم فيها الأولاد والبنات جنبًا إلى جنب، وقد يعني هذا أن الأولاد تحفزهم المنافسة مع الفتيات لإعلاء مستوياتهم الدراسية، كي تتناسب مع المستويات العالية التي تحرزها الفتيات.
هذا بالضبط ما يحدث في تونس ولبنان، حيث يندر وجود المدارس المنفصلة، وتقريبًا لا توجد فجوة دراسية بين الجنسين.
لاحظ العالم النفسي «ليونارد ساكس» أنه بعد فتح مئات من المدارس المنفصلة في ولاية ساوث كارولينا الأمريكية بدءًا من عام 2008 (اعتمادًا على توصيات ودراسات تَدّعي أن الفصل بين الجنسين أفضل للدراسة)، صار استدعاء الطلاب الذين لم يسبق لهم الانخراط في المشاكل إلى مكتب المدير من أجل تلقي العقاب أمرًا معتادًا. أحد هؤلاء قال إنه «إذا كنتَ في مجموعة من الأولاد، فإن عدم احترام المعلم قد يرفع مكانتك في أعين بعضهم. ويعرف الفتيان أن هذه ليست الحال مع الفتيات».
الظاهر أن هذا ما يحدث بالضبط في كثير من المدارس العامة في المنطقة العربية، إذ تجتمع العوامل لخلق مزيج سام يفسد الحياة الدراسية على الأولاد خصوصًا. والأمر متعلق بالكلمة التي ينبني عليها كل شيء: التحفيز. وهذا التحفيز يخلقه الأهل والمعلمون والثقافة بكاملها، لكن أيُّ تحفيز وأغلب الفتيان يشعرون أن معلميهم لا يهتمون بأمرهم؟
هناك مشكلة إضافية تواجه التحفيز، ولا يمكن حلها بتحسين المعلمين أو المدارس.
يقول محمد الطاهر عثمان، المسؤول عن الدراسة التي أجريت في سلطنة عمان، إن «الأولاد ينظرون إلى من يحققون إنجازات دراسية منهم على أنهم أقل ذكورة»، ما يعني أن مفهوم الذكورة عند الفتيان في مراحل المراهقة يتعارض مع مفاهيم التفوق المدرسي. للأولاد مجتمع خاص بهم تحكمه قواعدهم وقيمهم، ولهذا المجتمع التأثير الأبلغ في تشكيل طموحاتهم.
إنها مشكلة عالمية على ما يبدو، ففي كل أنحاء الكرة الأرضية، لم تتطور مفاهيم الذكورة كي تواكب مطالب عالَم يحتفي بالإبداع والتفكير النقدي فوق القوة الجسدية. وحتى في أمريكا، طبقًا لاستطلاع رأي جديد، لا يتوقع الآباء كثيرًا من أبنائهم، وآمالهم الأكاديمية في بناتهم أكبر.
عالم النفس «مايكل ثومبسون» يؤكد أن الأولاد لا يشعرون أن المدرسة يمكن أن تساعدهم حقًّا على الوصول إلى «الرجولة»، وربما ينظرون إليها كعائق أمام تحقيق ذكورتهم. وبناءً على هذا، يكون المتفوق في وجهة نظرهم أقرب إلى الخنوثة، أما الفتيات فنادرًا ما يعتبرن المدرسة عائقًا أمام الأنوثة.
يمكن إعادة تدريب المعلمين وتحسين علاقاتهم بالطلاب، لكن مشكلة الهوية الذكورية تستعصي كثيرًا على الحل.
يوضح ثومبسون أنه «إذا اعتقد الأولاد أن الطريق إلى الذكورة والشباب والرجولة المحترمة موجود خارج فصول الدراسة، فلن يحققوا إنجازات جيدة في المدرسة كالفتيات».
إجراءات تعليمية مريبة
يحاول عدد من الدول اتخاذ إجراءات بعضها غريب للغاية. فجامعة السلطان قابوس، الجامعة العامة الوحيدة في سلطنة عُمَان، رفعت درجات القبول للفتيات مقارنةً بدرجات قبول الذكور، وفي عام 2009، رفض قسم الهندسة 732 فتاة كُنّ ليقبلن لو لم تتغير قواعد القبول لصالح الذكور.
يرفض محمد الطاهر عثمان هذا، ويراه غير مُجدٍ بأي شكل، بل مضر على المدى الطويل وتأثيره خطير على ثقة الطلاب في أنفسهم وفي النظام التعليمي بالكامل، وكذلك على شعورهم بالمساواة في التعامل بينهم: «كان عليهم إيجاد طريقة أفضل لتعزيز قدرات الذكور».
قدّم عثمان وزملاؤه في تقريرهم 30 اقتراحًا، لكن ولا واحد منها نفِّذ حتى اليوم، من بينها تحديد أفضل المعلمين الذكور ممن أسهموا في تحسين المستوى الأكاديمي للطلاب، وإعطاؤهم سُلطة وجعل صوتهم مسموعًا. ويمكن للمديرين مساعدة المعلمين لبناء ثقة أكبر مع تلاميذهم، وتطوير استراتيجيات أفضل للتعامل مع إساءة السلوك.
صعوبة تعلُّم الفتيان في كل أنحاء العالم تعني أن أغلب المدارس متحيزة للفتيات، وأن كثيرًا من المعلمين يفضلون الطاعة على التنافسية.
نعتقد حقًّا أن محاولات الإصلاح مجدية، كما أجدت في السابق محاولات مساعدة الفتيات.
ففي دراسة أجراها الخبير الاقتصادي «ديفيد أوتور» وزملاؤه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تبين أن الأولاد يصابون بضرر أكبر عند إدخالهم مدارس سيئة، لكنهم في المقابل يستجيبون بسرعة ملحوظة للمدارس الجيدة. وباستخدام سجلات مواليد مدارس ولاية فلوريدا، قارن الباحثون آثار المدارس الجيدة على الأشقاء في العائلة نفسها. وخلصت الدراسة إلى أنه كلما ساء مستوى المدرسة، زادت الفجوة بين الجنسين لصالح الفتيات.
إذًا، يستجيب الذكور بشكل أكبر لنوع المدارس التي يتعلمون فيها.
ربما يكون صحيحًا أن الفتيان يميلون إلى النشاط ويستغرقون وقتًا أطول لتعلُّم التحكم في أنفسهم، كما تقترح الأبحاث التطورية، لكن يجب أن يتمكن المعلمون من التعامل مع هذه التحديات.
مهما كان، ليس العيب في الفتيان، بل العيب في المدارس. نعم، بهذا الوضوح.
صعوبة تعلُّم الفتيان في كل أنحاء العالم تعني أن أغلب المدارس متحيزة للفتيات، وأن كثيرًا من المعلمين يفضلون الطاعة على التنافسية، والاجتهاد الهادئ على المخاطرة، وهو ما يؤدي إلى أن تصبح المدارس أماكن مريحة بالنسبة إلى الفتيات عن الأولاد في كل المراحل الدراسية. لكن، كما أن الفتيان في حاجة إلى تعلم التركيز والهدوء، على الفتيات تعلم المخاطرة، ولا يمكن لأيٍّ منهما الحياة في عالم يُنتَقص فيه حق الآخر.
سارة العناني