«اليوجينيا»: كابوس التحكم في السلالات البشرية لا يزال بيننا
منذ أكثر من قرن مضى، طوَّر العلماء مفهومًا علميًّا أُطلِق عليه «الانتقاء الطبيعي»، لوصف الطريقة التي تنتقل بها الجينات الوراثية من جيل إلى آخر. قانون بَدَهِي بعض الشيء، ينص على أن الأفراد ذوات الصفات الوراثية الأفضل، والقدرة الأكبر على تحمل التغيرات الحياتية، سيكون لديها فرصة أكبر في البقاء على قيد الحياة، ثم تمرير هذه الصفات الجيدة إلى أجيال جديدة.
في المقابل، نجد أن الأفراد أصحاب الصفات الوراثية الأقل حظًّا، ستتمكن منهم تغيرات الحياة، وستقضي عليهم قبل أن يحصلوا على فرصة كافية لتمرير صفاتهم إلى النسل.
هذه الفكرة قد تجعلنا نقف قليلًا أمام قانون الغابة الأشهر كما نعتقد، والذي ينص على أن «البقاء للأقوى». في الحقيقة، البقاء ليس دائمًا للأقوى، ولا للأفضل، ولا حتى للأجمل.
الطبيعة تقول إن البقاء لمن يستطيع أن يحيا ويتكاثر. وتاريخ الكائنات يحمل لنا أمثلة كثيرة، فقد كان الهلاك من نصيب الأقوى لأنه، رغم قوته، لم يكن الأكفأ للاستمرار وتمرير جيناته. أحد الجوانب السلبية البارزة في طريقة التعامل مع هذه الفكرة، أنها مغرية للتطبيق البشري. الفارق أن الطبيعة لن تكون هي التي يقرر أي الموروثات تصلح للانتقال، وأيها يجب إيقافه، بل نحن.
يستعرض هذا التقرير الذي نشره موقع «Aeon»، بعض الجوانب المرعبة عندما يسمح البشر لأنفسهم بالتدخل بهذا الشكل في تقرير المصائر.
أسطورة «كرماء الأصل»
كان أول من استخدم كلمة «يوجينيا» (eugenics)، «فرانسيس غالتون» عام 1883، وتعني باللغة اللاتينية: «كرماء الأصل».
لاقت حركة الـ«eugenics» رواجًا كبيرًا بين النازيين في الحرب العالمية الثانية. فقد كان النازيون يرون أنهم الشعب الأسمى، ومن حقهم استعمار الأرض والاستمرار عليها. وفي نفس السياق كانت المذابح التي ارتكبها النازيون ومخيمات القتل غير الرحيم، والتي استمرت حتى أواخر عام 1945، مع نهايات الحرب العالمية الثانية، وانتهاء حكم النازيين.
ولكن.. هل هذا حقًّا ما حدث؟
يكتب «روبرت ويلسون»، أستاذ الفلسفة في جامعة ألبرتا بكندا، عن وجود مؤسسات كانت لا تزال تستخدم تقنيات تعقيم بعض الأفراد، ومنعهم من التزاوج، مستخدمين قانونًا بدأ تطبيقه عام 1923، وظل موجودًا حتى 1972. في هذه الفترة كانت ثلاث ولايات أمريكية قد قننت تعقيم الأشخاص الملحَقين ببعض المؤسسات، وأغلبها من المصحات العقلية.
نشأ اهتمام روبرت الشخصي بموضوع بقاء اليوجينيا لأنه وجد نفسه تحت رئاسة شخص وافق بنفسه على قرارات تعقيم عدد من الأشخاص، بلغ ألفين و832، بين عامي 1928 و1965. المثير في الموضوع أن نصف هذه الحالات جرت الموافقة عليها بعد انتهاء عصر اليوجينيا افتراضًا بعد الحرب العالمية الثانية. كان هذا الشخص يدعى «جون ماكيكران» الذي كُشِفَ الستار عن أفعاله بعد قضايا واتهامات وجهها إليه، خلال تسعينيات القرن العشرين، ناجون عانوا من تطبيق قوانين اليوجينيا عليهم.
كانت المنهجية التي تقوم عليها مصحات «المعيوبين عقليًّا»، استهداف الأشخاص المهشمَّين نفسيًّا، وبخاصة الأطفال، من أجل تطبيق اليوجينيا عليهم.
أول من رفع قضية ضد قوانين اليوجينيا، «ليلاني موير» (1944-2016) التي أُودِعَت مصحة «المدرسة التدريبية للمعيوبين عقليًّا». وعلى الرغم من أن المصحة كانت لـ«المعيوبين عقليًّا» كما وصفوها، فإن ليلاني البالغة من العمر 10 أعوام حينها، لم تملك أي عيب عقلي على الإطلاق، الأمر الذي كان جليًّا للأشخاص أنفسهم الذين صدَّقوا على قرار تعقيمها.
لم تكن ليلاني سوى مجرد ضحية لأبوين قاسيين تخليا عنها وتركاها. ليلاني نفسها قالت لاحقًا: «رمتني والدتي خارج السيارة كقطعة قمامة لم تُرِِدها يومًا، وهكذا انتهى بي الحال متدربة في هذه المصحة».
لم تكن ليلاني حالة فردية، بل كانت هذه هي المنهجية التي تقوم عليها هذه المصحات، إذ تستهدف الأشخاص المهشمَّين نفسيًّا، وبخاصة الأطفال، من أجل تطبيق اليوجينيا عليهم. عندما تُوِّجَت قضة ليلاني بالنجاح، مهدت الطريق لـ800 قضية أخرى مشابهة للنجاح أيضًا. صرحت بعدها ليلاني بأنها مستعدة للذهاب إلى آخر الأرض حتى لا يتعرض طفل آخر، لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لمثل ما تعرضت له.
اقرأ أيضًا: الحمل كسؤال فلسفي: من يملك الأرحام وما فيها؟
الناجون من اليوجينيا
يصف روبرت في مقاله أن «الناجي» هو الشخص الذي مر في حياته بصدمات نفسية عنيفة، وتمكَّن من الخروج من الجانب الآخر، وإكمال، أو محاولة إكمال، حياته، سواء كانت هذه الصدمات نتيجة حرب أو اعتداء جنسي أو أعمال وحشية أو مذابح أو غيرها. الصدمة النفسية التي يوضع فيها الناجون من اليوجينيا، تبدأ عندما يُنظَر إليهم باعتبارهم أقل من البشر، وتصنيفهم في أقسام: إما معيوبين عقليًّا أو صحيًّا، وإما منتمين لعرق لا يرقى إلى أن يكون مساويًا للأعراق الأخرى.
كل قسم من هذه الأقسام كان يجري التعامل معه بشكل مختلف من أجل الوصول إلى النهاية المشتركة، وهي اليوجينيا. في ألبرتا، كانت العيوب العقلية القسم الذي يختفي خلفه أنصار اليوجينيا، حيث يُدخلونهم إلى مصحات، ثم يعقمونهم بناءً على توصيات طبية.
يرى روبرت، في الوقت نفسه، أن تاريخ اليوجينيا غير موثق جيدًا لأن ضحايا اليوجينيا غالبًا ما يفضلون الصمت واستكمال حياتهم عوضًا عن النبش في ماضيهم المؤلم، وأيضًا لعدم وجود المتلقي الذي يستمع لقصصهم ويحفظها.
في 2013، أوضح مركز التقارير التحقيقية في كاليفورنيا، وجود حالات تعقيم لنساء بسجن المقاطعة دون موافقتهم، وأحيانًا من دون علمهم.
محاولات تأريخ اليوجينيا بدأت في الدول الاسكندنافية بعد قضايا التسعينات، أي القضايا التي رُفِعَت بعد قضية ليلاني، فاليوجينيا كانت موجودة في هذه الدول حتى السبعينات، كما هو الحال في ألبرتا.
أطلقت دول، مثل النرويج والدنمارك والسويد وفنلندا، لجنات تحريات صارمة من أجل سبر أغوار أحداث اليوجينيا في هذه البلاد، ما أدى إلى إيضاح كثير من الأمور عن مأساة اليوجينيا التي لم تكن معروفة من قبل.
على غرار هذه التحريات، قابل روبرت بنفسه أطباء ممن كانوا شاهدين على حالات اليوجينيا، وتعرَّف إلى كثير من الناجين وصادقهم، وبدأ مشروعًا يهدف إلى الوصول إلى مئات الناجين من اليوجينيا، في ألبرتا، منتصف التسعينات، ومحاولة الاستماع لقصصهم وتوثيقها، ونشر هذه القصص على الموقع «EugenicsArchives.ca».
أضاف هذا الأمر بُعدًا مختلفًا تمامًا لتاريخ اليوجينيا. وكان نشر هذه القصص للعامة دافعًا قويًّا للآخرين على مشاركة قصصهم، بل وصدمة للمستمعين الذين كانوا يعتقدون أنهم يمزحون عندما يقولون: «تخيَّل لو كنا لا نزال في عصر اليوجينيا».
قد يهمك أيضًا: هل يتحيز الطب ضد النساء؟
في عام 2012، أطلق مجلس الشيوخ الأسترالي لجنة تحقيق في أحداث تعقيم معاصِرة حدثت لفتيات صغيرات ونساء من ذوات الإعاقات، فقد كان المبرر المشهور دائمًا: «هذا من أجل المصلحة العامة»، يرد دائمًا في تقارير التعقيم.
في صيف 2013، أوضح «كوري جونسون»، من مركز التقارير التحقيقية بولاية كاليفورنيا، حقيقة وجود حالات تعقيم لنساء بسجن المقاطعة دون موافقتهم، بل وأحيانًا من دون علمهم حتى. وكشف تقرير جونسون أن عدد هؤلاء النساء وصل إلى 150 حالة بين عامي 2006 و2010.
في عام 2006، أصدرت الأمم المتحدة تقريرًا يوضح أن ما يقرب من 37% من النساء في الهند، قد جرى تعقيمهن. بعضهن فعلن هذا باختيارهن، إذ توفِّر عدد من البرامج إمكانية الخضوع لعمليات تعقيم مجانية، بل وأحيانا يقدمون مقابلًا ماديًّا لإجراء هذه العملية، في محاولة للحد من الفقر نتيجة الزيادة السكانية. أما بعض الحالات الأخرى، فقد حدثت دون موافقة من تعرضن إليها.
في عام 1996، أصدر رئيس بيرو السابق، «ألبرتو فوجيموري»، قرارًا بالسماح باستخدام تقنيات التعقيم على عدد من السكان الأصليين، ما أدى إلى تعقيم نحو 300 ألف شخص. وهي الجريمة التي لم يُحاسَب عليها بأي شكل من الأشكال.
رغم أن عصر اليوجينيا بمفهومه الصريح قد انتهى في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فإن الممارسات التي يتعرض إليها أصحاب الإعاقات والفقراء والأعراق المختلفة، لا تزال موجودة، وتدل على يوجينيا يبدو أنها لم تختف يومًا.
أفنان سلطان