أبو الحشيش: الرجل الذي اكتشف سر لذة القِنَّب وقدراته العلاجية
تتعدد الأسماء التي سُمي بها نبات القِنَّب، فتارة يسمى الحشيش، وتارة أخرى الماريجوانا، وتارة يُشار إليه باسم النبتة العربي «القِنَّب».
هذه النبتة تلقى رواجًا في دول «العالم المتقدم»، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية، بعدما اكتشف العالم أن لها آثارًا طبية متميزة تساعد في علاج العديد من الأمراض.
في الوقت ذاته، تنتشر الماريجوانا على الصعيد الترفيهي في دول أكثر، ففي المنطقة العربية تُباع «تحت الطاولة» في كثير من الأحيان، أو تغض السُّلطات البصر عنها، أو تعاقب عليها أشد عقاب في دول أخرى، بينما ألغت دول تجريم استخدامها، ويحدث ذلك كله بسبب بعض المواد التي تحتويها مثل «THC»، التي تصنع سحرًا في جسد الإنسان وصحته، ومزاجه أيضًا، فمن اكتشف هذه المادة وعرَّفنا إلى فوائد الحشيش؟
وصل أحد كُتَّاب موقع «VICE» إلى هذا العالِم وقابله وكتب مقالًا عنه.
أبو الحشيش يجد علاجًا للصرع
تبدأ القصة في عام 1980، عندما نشر فريق من الباحثين بكلية الطب في ساو باولو سانتا كازا البرازيلية دراسة كان ينبغي أن تغير حياة 50 مليون شخص يعاني من الصرع في أنحاء العالم، لكن ذلك لم يحدث.
يروي المقال أن نتائج الدراسة، التي أُجريت بالاشتراك مع الجامعة العبرية في القدس، كانت مشجعة للغاية، إذ أشرف الباحثون على إعطاء جرعات يومية بمقدار 300 ملليغرام من الكانابيديول، أهم عنصر لا يحمل تأثيرًا نفسيًّا في الماريجوانا، لمجموعة من ثمانية أشخاص مصابين بمرض الصرع، انتهت معاناة أربعة منهم بعد أربعة أشهر من العلاج، فيما انخفضت وتيرة النوبات لدى ثلاثة آخرين بصورة ملحوظة.
يتساءل «رافاييل ميكولام»: «مَن يهتم بالنتائج التي توصلنا إليها؟ لا أحد، وهذا رغم أن كثيرًا من مرضى الصرع أطفال، يتعرضون لما يقرب من 20 أو 30 أو حتى 40 نوبة في اليوم (...) لمدة 30 عامًا، لم يستخدم أحد الحشيش لعلاج الصرع».
أمضى ميكولام 50 عامًا في محاولة فك رموز الأسرار الكيميائية للماريجوانا.
رافاييل ميكولام هذا هو بطل القصة، بحث عنه الكاتب لمدة عام كامل، وكان يراه في صورة أسطورية كأنه يشبه الفيلسوف والاقتصادي «كارل ماركس»، أو الموسيقي «سِيد باريت»، أو أي عقل ثوري آخر تحدى التقاليد السائدة في عصره وغيَّر نظرتنا إلى العالم للأبد.
قبل بضعة أشهر من كتابة مقاله، عرف الكاتب أن الأبحاث التي ينفذها ميكولام بصفته خبيرًا في الكيمياء العضوية قد تزيد من الثقل العلمي للمحاولات التي تُجرى لتقنين استخدام القِنَّب في الولايات المتحدة.
بدا الأمر كما لو كان الجميع يتفقون بخصوص شيء واحد: ميكولام هو أبو الحشيش الحديث.
رافاييل ميكولام الذي عرفه العالم متأخرًا
يعيش ميكولام، الذي يبلغ من العمر 85 عامًا، في شقة صغيرة لكنها أنيقة في القدس الغربية، حيث المباني الرخامية والأشجار في الحدائق الأمامية، ويقود سيارته البيجو الفضية كل يوم إلى مختبره في ضواحي المدينة، حيث أمضى 50 عامًا في محاولة فك رموز الأسرار الكيميائية للماريجوانا، والطريقة التي يتفاعل بها جسم الإنسان مع المركبات الموجودة في هذا النبات.
استطاع «رافي»، كما يناديه زملاؤه، أن يعزل ويفك رموز الهيكل الجزيئي لـ«الكانابينويد»، وهي المركبات الكيميائية في الماريجوانا، خصوصًا رُباعِي هيدروكانابينول، وهو الجزيء المسؤول عن الشعور بالانتشاء في القِنَّب، والكانابيديول، المركب الرئيسي غير المنشط للنبات، والناقل لصفات طبية لا تُعد ولا تحصى.
تاريخ الحشيش
في بداية القرن العشرين، ومع الحظر التدريجي للماريجوانا في أمريكا، أدار العالم الحديث ظهره، في رأي الكاتب، لمسألة البحث في نبات مقدس وذي تأثير قوي استخدمه الأطباء والكهنة والقساوسة لأكثر من ثلاثة آلاف سنة.
يسجل «بين تشاو تشينغ»، أقدم كتب الأدوية في الوجود، استخدام القِنَّب (الحشيش) في الصين منذ عام 2700 قبل الميلاد لعلاج آلام الروماتيزم والإمساك والاضطرابات التناسلية للإناث (مثل بطانة الرحم) والملاريا. واخترع «هوا توه»، أبو الجراحة الصينية، مخدرًا يتألف من النبيذ والأعشاب في القرن الأول قبل الميلاد.
بحسب الكاتب، تظهر قصص مماثلة في وثائق وسرديات من الهند والشرق الأوسط وإفريقيا، وحتى أوروبا.
نشر «وليام بروك أوشغنسي»، وهو طبيب أيرلندي، كتابًا في عام 1838 بعنوان «عن إعداد القِنَّب الهندي أو الغانجا»، بعد أن أجرى تجارب على الحيوانات والمرضى. وفي التبت، كان الحشيش يُستخدم في الطقوس البوذية «التانترا» من أجل «تسهيل التأمل»، في حين استخدمه الآشوريون كبخور في القرن السادس قبل الميلاد.
قد يهمك أيضًا: «التانترا» الهندية ستغير مفهومنا عن الجنس
كيف استطاع ميكولام تحليل الحشيش؟
لم يعرف رافاييل ميكولام شيئًا عن كل هذه الأمور حين بدأ بحثه منذ أكثر من خمسة عقود.
ميكولام ابن لزوجين من البلغاريين اليهود، تعرضا للاضطهاد على أيدي النازيين. غادر أوروبا عام 1949 إلى إسرائيل، وهناك درس الكيمياء وأكمل الماجستير في الكيمياء الحيوية، وخدم في الجيش وعكف على دراسة المبيدات الحشرية، وحصل على الدكتوراه في عام 1963 من معهد وايزمان في رحوفوت، وهو نفس المكان الذي اكتشف في ما بعد أسرار القِنَّب.
عزل ميكولام كل مركبات الحشيش، وبدأ يبحث عن سبب الإثارة العقلية التي أرهبت الحكومات والمشرِّعين في القرن العشرين.
يقول ميكولام للكاتب إنه كان في الرابعة والثلاثين حين بدأ اهتمامه بالقنَّب، ولم يكن مصدر هذا الاهتمام تفاعلًا مع حركة «الهيبيز» في الستينيات، بالإضافة إلى أنه لم يتعاطَ الحشيش في حايته إلا مرة واحدة، لكنه أضاف: «يجب على العالِم اختيار موضوع أصلي، موضوع لا يبحث فيه 50 شخصًا آخر، ويجب أن يكون للموضوع أهمية وتأثير جتماعي ملحوظ. في ذلك الوقت، قرأت الكثير من المقالات بالإنجليزية والروسية والفرنسية والألمانية في محاولة لاكتشاف بعض المشاكل غير المستكشفة، حتى أدركت ضآلة معرفتنا الكيميائية بمركبات نبات القِنَّب».
دخل الكيميائي الشاب في أحد الأيام مكتب مدير المعهد وطلب مساعدته في شراء بعض الأعشاب المخدرة، ولم يتردد المدير، فالتقط الهاتف واتصل فورًا بالشرطة، ليحصل على خمسة كيلوغرامات من الحشيش المغربي المضبوط في أثناء تهريبه من لبنان.
عزل العالِم كل مركبات الحشيش، وبدأ بالبحث عن أي هذه المركبات كان سببًا للإثارة العقلية التي أرهبت الحكومات والمشرِّعين في القرن العشرين. هل هو مركب واحد فقط أم مزيج من كل المركبات؟
لإجابة هذا السؤال، اختبر ميكولام وفريقه كل مركب على القردة، وكان أول اكتشاف مفاجئ أن واحدًا فقط من المركبات، وهو رُباعي هيدروكانابينول أو ما يعرف بـ«THC»، كان له تأثير على القرود، التي بدت في حالة سُكر تحت أثر التخدير.
اكتشف ميكولام المركب المنشِّط المسؤول عن الشعور بالانتشاء عند تعاطي الماريجوانا، وللتأكد من ذلك، أخذ جرعة كبيرة من الـ«THC» إلى منزله وطلب من زوجته إضافتها إلى وصفة الكعكة الخاصة بها.
شعر «أبو الحشيش» بالانتشاء للمرة الأولى والوحيدة في حياته ذلك اليوم، واستطاع إثبات الظاهرة التي تسترشد بها أبحاث اليوم عن القِنَّب أو الماريجوانا الطبية: كل شخص يتفاعل بصورة مختلفة مع مركب «THC».
كان ميكولام يعلم أنه عندما ينظر حوله سيجد أحد أصدقائه يتحدث دون توقف، ويبدو الآخر في غيبوبة، والثالث يقهقه، وواحد منهم فقط بدا عليه الاضطراب.
ماذا نستفيد من دراسة الحشيش؟
يقول ميكولام لكاتب المقال إن الـ«THC» والكانابيديول ليست مركبات سامة، ومع ذلك، «أدرك الناس منذ القرن السادس عشر أن الماريجوانا يمكن أن تثير نوبات نفسية. وهناك أدلة على أن 10% من متعاطي الماريجوانا يصلون إلى مرحلة الإدمان، وإن لم يكن قويًّا مثل إدمان المورفين. ولكن بخلاف الاضطرابات النفسية أو إمكانية الإدمان، لا يوجد أي دليل على وجود الأمراض التي يسببها الحشيش».
يتوافق هذا النقاش مع الأغراض الترفيهية للمخدرات، ويرى ميكولام ضرورة البحث في مجالين: أولهما مناقشة المخاطر التي ينطوي عليها تدخين الحشيش للوصل إلى الشعور بالنشوة، والثاني استكشاف التطبيقات الطبية المحتملة لمركباته، خصوصًا «THC» والكانابيديول.
يستطيع علماء الاجتماع تولي المجال الأول، لذا لا يُعنى ميكولام به كثيرًا، أما المجال الثاني فقد شغل جزءًا كبيرًا من حياته، وحياة أعضاء الجمعية الدولية للبحث في مركبات القِنَّب، وهي شبكة متنامية من الأكاديميين الذين أكدوا في مختبراتهم الأسباب الكامنة وراء الاستعمال التاريخي لهذا النبات.
انشغل فكر العلماء بأمرين: الوظيفة التي يفيد بها استقبال القِنَّب في الحفاظ على صحة البشر، واستخداماته الطبية الممكنة.
ربما لا يكون أعظم اكتشاف لميكولام هو الـ«THC» أو الكانابيديول، ولكن رغم كل شيء، وفي أعقاب موجة غضب قصيرة خلال فترة السبعينيات، عندما كانت قوات شرطة العالم كله تطارد زراعة وتسويق واستهلاك الأعشاب المخدرة، فقد العلم اهتمامه تدريجيًّا بهذه المركبات، لكن ميكولام لم يتوقف عن طرح الأسئلة. وفي أواخر الثمانينيات، بدأ البحث في الطرق التي يتفاعل بها مركب «THC» مع الجهاز العصبي.
اقرأ أيضًا: كيف أسهمت المخدرات في تطور البشرية؟
كيف تتفاعل أجسادنا مع الحشيش؟
اكتشف مجموعة من الباحثين عام 1988 أن أدمغة معظم الحيوانات لديها مستقبِلات في الجهاز العصبي مصممة خصيصًا للتفاعل مع مركب «THC»، وأطلقوا على تلك المستقبِلات اسم «CB1». أعقب اكتشاف هذه المستقبلِات سؤال مقلق: كيف يمكن أن يكون للجهاز العصبي مستقبِلات مصممة للتفاعل مع الماريجوانا؟ هل تطور جسم البشر للتفاعل مع نباتات معينة؟ هل تشير الطبيعة إلى أن الإنسان والماريجوانا خُلقا بعضهما من أجل الآخر؟
الجواب الذي وجده ميكولام أنتج دوامة علمية تدعمها مليارات الدولارات من شركات الأدوية الكبرى حتى يومنا هذا، وما زالت تلك الدوامة العلمية تتسع كل يوم.
يقول ميكولام لكاتب المقال: «داخل نظامنا العصبي يوجد العديد من المستقبِلات العصبية، وترتبط هذه المستقبِلات ببعض المواد التي تفرزها أجسامنا (مثل الدوبامين أو السيروتونين)، لكن هذه المستقبِلات لم تُخلق لتُربط بالشجيرات، وإذا كان هذا هو الحال، سيكون لدينا الملايين منها، أي مستقبِل لكل نوع من النباتات على وجه الأرض».
بعبارة أخرى: إذا كان للجسم البشري مستقبِلات محددة لمركبات الكانابينويد والـ«THC»، فهذا يعني أن أجسامنا تنتج تلك المركبات.
يروي الكاتب أنه بعد ذلك، في ديسمبر 1992، نشر ميكولام اكتشاف مركب ينتجه الجسم البشري يقع في الدماغ وحولها، ويرتبط على نحو كامل بالمستقبِلات التي اكتشفها قبل سنوات، وكان هذا الاكتشاف غايةً في الأهمية لدرجة أن الجزيء استحق اسمًا خاصًا به، ولذلك أطلق عليه أحد أعضاء الفريق من المتحمسين للهندوس اسم «أنانداميد»، من الكلمة السنسكريتية «أناندا»، التي تعني السعادة المطلقة.
مع اكتشاف مستقبِلات «CB1» وأنانداميد (وبعد ذلك اكتشاف مستقبِلات مماثلة سميت CB2)، أصبح واضحًا لميكولام وفريقه أن الجسم البشري يحتوي على نظام من المستقبِلات لمركبات مشابهة لتلك الموجودة في الماريجوانا، فأطلقوا على هذا النظام اسم «Endocannabinoid».
انشغل فكر العلماء بعد ذلك بأمرين: الأول هو الوظيفة التي يؤديها هذا النظام ضمن التوازن الذي يحافظ على صحة البشر، والثاني هو كيف يمكن استخدام الماريجوانا لعلاج الأمراض المتصلة بهذا النظام؟
يشرح ميكولام: «إنه نظام مهم للغاية. فجميع الأمراض التي نعاني منها تقريبًا مرتبطة بهذا النظام بصورة أو أخرى، وهذا أمر غريب للغاية، فلا يوجد في جسم الإنسان العديد من الأنظمة التي تتدخل مع كل مرض».
هذه أمراض قد يعالجها الحشيش
يقصد ميكولام بالأمراض التي ترتبط بنظام «Endocannabinoid» جميع الأمراض، ويشمل ذلك أمراض الرئة والقلب والكبد والكلى، لكن «كل هذا يتوقف على مدى قوة نشاط المستقبِلات، ولنأخذ الدوبامين مثالًا توضيحيًّا، فإذا انخفضت نسبة الدوبامين في أجسامنا، يمكن أن نعاني من شلل رعاشي، وإذا زادت أكثر من اللازم قد نعاني مرض انفصام الشخصية».
بحسب ميكولام، يسري الأمر نفسه على مركبات الكانابينويد، فمستقبِلات «CB2» تحمي الجسم من عديد من الأمراض، في حين تعمل مستقبِلات «CB1» بطرق مختلفة، اعتمادًا على ما إذا كانت الجرعة عالية أو منخفضة.
طالما كانت مستويات أنانداميد و«Endocannabinoids» مستقرة، سيؤدي الجسم البشري كثيرًا من وظائفه بشكل صحيح. وإذا أصبحت هذه المركبات غير متوازنة، يمكن أن نستخدم مركبات مثل «THC» الموجودة بشكل طبيعي في الماريجوانا لعلاج عديد من الأمراض.
قد يعجبك أيضًا: يوم «فور توينتي».. حشاشو العالم يحتفلون والعرب ينتظرون الفرج
هل يداوي الحشيش مرضى السرطان؟
ذكر ميكولام أن هناك تلميحات لارتباط نظام مستقبِلات القِنَّب في جسم الإنسان بأنواع معينة من السرطان، لكننا «لسنا على يقين وليس لدينا دليل، لأننا لم ننفذ تلك الدراسات التحليلية بعد. نعرف الناس الذين استخدموا الماريجوانا وادَّعوا أنهم تعافوا من السرطان، لكننا لا نعرف شيئًا أكثر من ذلك. نحن بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسات التحليلية».
هذا رأي يكرره ميكولام في كل حديث ومقابلة ومحاضرة له، وذلك لأنه ناشط في علوم القِنَّب. ورغم أن العالَم تجاهله لعشرات السنين، يصر ميكولام على أن ما يمكن أن تقدمه المخدرات للإنسانية لا يمكن حصره، ويبدو اليوم أكثر تفاؤلًا بسبب الاهتمام المتزايد بالمسألة من قِبل الأكاديميين وشركات الأدوية.
في نهاية المقال تساءل الكاتب عن كيف يمكن لصناعة مُربحة للغاية مثل الأدوية أن تتجاهل نتائج دراسات القِنَّب، وأجاب ميكولام: «الأمر بسيط، لا أحد يريد أن يرى اسم شركته على الصفحة الأولى من جريدة النيويورك تايمز، مرتبطًا بعنوان يقول إنهم ربحوا الملايين من الماريجوانا».
ترجمات