حكاية شخصية: أنا الفتاة، وأبي المنطوي، وكرة القدم
أبي متقاعد عن العمل لما يقرب من عامين. في بداية السنة الأولى، كان أبي شديد الانطواء. في العادة، أبي لا يتحدث إلينا كثيرًا. خمس فتيات هن ما رزقه الله. يعيش حياته في معزل. حاول منذ الصغر أن يجعلهن كالصبية. اشترى لهن البنطال الجينز. قص شعرهن كما يليق بالصبية الصغار. شعر قصير، كما كانوا يسمونه حينها: «كاريه». لكن، للخيبة، ظللن فتيات رغم محاولاته.
أعترف بأنني لا أعرف عن أبي كثيرًا من الأمور. أو على الأرجح هو لم يكن يفصح عن كثير. في بداية سنته الأولى بعد التقاعد، كثيرًا ما أعلن علينا كيف أنه يأسف على أن الله لم يرزقه بالولد. كان يقضي الأيام في غرفته أمام التلفزيون. وحينما نسأله ما به؟ يرد باقتضاب مَن مَل كل شيء حتى الكلمة التي تخرج من فمه: لا شيء. أخبرنا في مرات أخرى بأنه يتمنى الموت، وأن لا شيء يستدعي الحياة لأجله.
ربما يعود الأمر إلى سنة 2000، ربما أكثر من ذلك أو أقل. أبي معلم لغة عربية في إحدى المدارس الابتدائية، بما سمح لي ولأخواتي بأن نكون على مقربة منه بشكل يومي خلال سنواتنا الأولى في الدراسة. ربما لذلك سعينا جميعًا إلى إتمام دراستنا كما أراد، في محاولة للتقرب منه. بالنسبة إليَّ، كنت أتقرب منه بطريقة أخرى.
أذكر أن أبي لم يكن يهتم بشراء الصحف إلا في أوقات ومناسبات بعينها، ومنها كأس العالم.
أبي كان يلعب كرة القدم بطريقة محترفة في نادي المحافظة. لكن في تلك السن، كنت فقط أراه يلعب كرة القدم في فناء المدرسة خلال ساعات الراحة. فريق من الطلبة ضد فريق من المعلمين. كان يبدو سعيدًا حينما يلعب الكرة. ليس هو ذاك نفسه من أثقلته هموم المعيشة.
كنت ألعب الكرة مثله. أتحدى الأولاد في سني، أخطف الكرة، وأجري. ولأنه من الصعب، كبنت، أن ألعب كرة القدم، خصوصًا بعد انتهاء المرحلة الابتدائية، لعبت اليد لفترات قليلة جدًّا، واحتفظت بحب كرة القدم كمساحة مشتركة وأرض التقي عليها مع أبي. أشاهد المباريات معه، أجتهد كي أفهم قوانين الكرة. أسأله عن ما لا أفهمه، أحفظ أسماء اللاعبين، أشيد بلعبة ما فقط لكي أجذبه خارج منطقته، وأدفعه لأن يحدثني، أنا الطفلة في سن العاشرة، عن كرة القدم.
تابعت معه الدوريات المصرية لسنوات طويلة. احتفينا معًا بقدوم كأس العالم أعوامًا عِدة. ما زلت احتفظ بجداول مجموعات كأس الأمم الأوروبية 2004، كنت قد قصصتها من إحدى الصحف اليومية. لم نملك إنترنت حينها.
أذكر أن أبي لم يكن يهتم بشراء الصحف إلا في أوقات ومناسبات بعينها، ومنها كأس العالم. كنت أتحايل بجميع الطرق كي أحصل على المال لشراء الجريدة إذا انشغل هو، أو أراد أن يتجاهل يومًا دون شرائها. عند مشاهدة المباريات أخبِره بعدد نقاط كل فريق. أقص المعلومات من الصحف وأجمعها، وأسجل بعضها الآخر عندي. كنت أراقب انفعالاته، أتأمل أي لعبة كانت تروق له، وعندما أشاهد مثلها أتحمس وأشجع. أناديه إذا كان مشغولًا، أو أنتظره إذا كان في الخارج لأخبره بتفاصيل ما رأيت. كنت أسعد إذا امتد الحديث بيننا.
شاركته الاهتمام بلاعبه المفضل، أستمع لمديحه وأرى ملامحه المتفتِّحة وهو يشاهده. لم أشاهده سعيدًا هكذا أو يحمل كل هذا الحب من قبل.
في بداية تقاعده اعتزل أبي أكثر. لكن ما حدث أن تَصاعَد اهتمامه بمسيرة لاعب. بعد تأهل مصر لكأس العالم، اشترك أبي، مثل ملايين غيره، في القنوات الناقلة للدوريات الأوروبية. تابع عن كثب مباريات الدوري الإنجليزي، أخبرني عن لاعب يُدعى محمد صلاح أكثر من مرة. أذكر انه أخبرني، منذ عدة أعوام، عن لاعب بالمنتخب الأوليمبي، يتحدث عنه كثيرون، ويتمنون انضمامه إلى المنتخب.
كنت قد توقفت عن متابعة كرة القدم منذ عدة سنوات. أتابعها على فترات متباعدة، لكني أتابع البطولات القارية كدوري أبطال إفريقيا وكأس الأمم الإفريقية.
احتفلت مع من احتفلوا بالجيل الذهبي لأبوتريكة ومتعب وزيدان وعمرو زكي وعبد ربه وغيرهم. لكني توقفت، ربما منذ يناير الثورة. تجادلنا وابتعدنا كثيرًا حينها. تابع أبي كل مباريات الدوري الإنجليزي لهذا الموسم، تنتهي المباريات، فيخبرني كيف يفتح المتصفح على الهاتف المحمول ليقرأ كل ما كُتِبَ عن لاعبه المفضل. يشاهد الأهداف مرة ثانية وثالثة ورابعة إلى ما لا نهاية. ينتظر إعادة المباريات في الرابعة صباحًا، أجلس بجواره لأشاهد وجهه يبتسم. يشرح لي كيف لعب الكرة هنا، يضحك. كأنه يخبرني عن ابنه، سعيد بكل ما يأتي به هذا الابن.
أمسكت بطرف الخيط. إنها كرة القدم مرة أخرى. شاركته الاهتمام بلاعبه المفضل، أستمع لمديحه وأرى ملامحه المتفتِّحة وهو يشاهده. لم أشاهده سعيدًا هكذا أو يحمل كل هذا الحب من قبل. أجلس بجانبه، أبادله المديح لهذا اللاعب، أجمع كل ما تعلق به على شبكة الإنترنت، أترجم له ما كتبته الصحف الأوروبية، وأقرأه عليه، أُحمِّل جميع اهدافه حتى يتسنى له رؤيتها من دون إنترنت. شاهدت معه مباريات الدوري الإنجليزي ودوري أبطال أوروبا. إذا شاهدها في المقهى أكون أنا في البيت يأكلني القلق، أحدثه على الهاتف، نتبادل هواجسنا في ما يخص المباريات، ونقضي الليل نشاهد بمتعة لاعبنا المفضل.
يبدو أن كرة القدم هي من حملتني إلى ذاكرة أبي. منذ أيام قليلة، ربما قبل انطلاقة كأس العالم، جلس أبي دون سابق إنذار ليخبرني كيف أن فريق المحافظة لكرة القدم كان على وشك الهبوط لدوري الدرجة الثانية. حينها، تعادلوا مع الإسماعيلي والمصري، وتلقوا المكآفات. كيف أُعجب مدرب النجمة اللبناني بطريقة لعبه للكرة الثابتة.
وكيف أنقذته الكرة في سنوات الخدمة العسكرية، حينما عزم على ترك الخدمة ذات يوم، فترك المعسكر، وسار في الرمال دون وِجهة، وحينما أرهقه التعب تساقط المطر. عاد باتجاه المعسكر ليجدهم يلعبون الكرة. سأل قائد أحد الفريقين إذا كان هناك من يستطيع الوقوف في المرمى، ليقف أبي. ولأنه كان يمارس اللعبة باحتراف قبل اللحاق بالجيش، أنقذ مرمى القائد، ليُعجَب به، ويدفعه إلى اللعب باستمرار بفريق المعسكر.
أخبرني كيف بكى حينها لرحمةٍ مَسَّته.
كيف كانوا يستيقظون قبل الفجر يلعبون الكرة طيلة النهار، يواجهون الفرق الأخرى في دوريات خاصة بهم. وكيف كان يقطع فترات الخدمة بتدريبات مع النادي، وأنها من أفضل فترات حياته، ليخرج من الخدمة وقد قارب الثالثة والعشرين، والنادي قد هبط للدرجة الثانية.
بعد مرور سنوات رفض حتى عضوية النادي. حين كنا صغارًا ذهبنا معه للركض هناك، لكننا لم نمتلك عضوية. أبي لم يخبرني قط بأيٍّ من تلك التفاصيل من قبل. كل ما أذكره حديثه عن إمكانيةٍ ما لاستمراره في لعب الكرة. وأحيانًا عن إمكانية أخرى للدراسة في الجامعة. كان قد تركها لأنه لم يرها مجدية.
كان قد أسقط الستار على ذاكرته الشخصية لكرة القدم، وإن ظلت حية داخله، تؤرقه كإمكانية لم يُكتَب لها أن تكون. لكنها أسعدتني أخيرًا حينما حملتني إليه لنلتقي من جديد.
هذا الموضوع اقترحه أحد قُراء «منشور» وعمل مع محرري الموقع على تطويره، وأنت كذلك يمكنك المشاركة بأفكارك معنا عبر هذه الصفحة.
هبة عادل محمد