«الفانتازي»: لأن المرء يبتسم دائمًا حين يَصدق توقعه
قبل عدة سنوات كنت جالسًا على مقهى برفقة مجموعة من الأصدقاء، وكان الحديث يدور كما هي العادة، عن كرة القدم. بدأ أحدهم يستجوب أحدث المنضمين إلى المقهى لمعرفة ميوله الكروية الأوروبية، لكن الإجابة كانت صادمة لجميع الحاضرين.
أجاب الرجل بأنه لا يميل إلى تشجيع فريق بعينه، بل يتابع لاعبيه المفضلين في الأندية المختلفة، ولا يضيره أبدًا أن يُهزم هذا النادي أو ذاك، ما دام لاعبه يقدم أداءً جيدًا.
ظللت ناظرًا إليه في دهشة. تخيلت للحظة أن كل من في القهوة تركوا مقاعدهم والتفوا حوله مرددين بصوت كورال فيلم الشيماء: «لقد نجا، لقد نجا». حمدت الله لأنني لم أُصِح في الحاضرين بصوت سعاد محمد: «يا عُصبة الشر ارجعي، إن الصباح قد انبلَج».
نعم، نجا هذا الرجل بالفعل من اللعنة التي أصابتنا صغارًا، وتركت بعضنا يعاني من أثر تغير الزمن. لو كنتُ قد نجوت رفقة هذا الرجل لما احترقت أعصابي عبر الزمن، بسبب متابعة لاعبين على شاكلة «نيكلاس بيندتنر» و«مروان الشماخ» و«داني ويلبيك» و«أوليفيه جيرو»، بعد أن أصبحتُ مشجعًا وفيًّا لأرسنال الإنجليزي بفضل «دينيس بيركامب» و«تييري هنري».
استدعيتُ تلك الذكرى حين قاطعني شاب يصغرني بنحو 10 سنوات ليطلب مني الموافقة على تغيير القناة، إذا كنت لا أتابع شيئًا على تلفزيون القهوة، فهو يريد متابعة مباراة توتنهام وواتفورد. سألته متجهمًا إذا كان يشجع توتنهام، فأجاب بوضوح أنه لا يميل إلى تشجيع فريق على حساب آخر، لكن في المباراة خمسة لاعبين من تشكيلته في لعبة الفانتازي الخاصة بالدوري الإنجليزي.
حسنٌ، ليكن الحديث عن فانتازي الدوري الإنجليزي لأنه الأشهر بين كل الدوريات. دون مبالغة، آخر 50 مرة تحدثت مع أحدهم عن الدوري الإنجليزي، لم يخلُ الحديث عن الفانتازي وتوقعات من سيُحرز ومن سيخرج بشبكة نظيفة.
فلما صدق توقعي ابتسمت
بدأ الأمر على يد الإيطالي «ريكاردو ألبيني»، الذي اخترع قواعد اللعبة الخاصة بكرة القدم عام 1988. اللعبة ذاتها ظهرت في دوري البيسبول الأمريكي بشكل بدائي عن طريق مجلات شهرية أو أسبوعية، يختار المشاركون لاعبيهم المفضلين في شكل قوائم، ثم تُرسَل تلك القوائم عن طريق البريد أو الفاكس، ثم ينتظرون حتى تعلن المجلات النتائج. انتقلت إلى إنجلترا عن طريق شركة «Fantasy League ltd» عام 1991.
بعد عام واحد ظهرت اللعبة بشكل واضح في مجلة «90 Minutes»، لتستحوذ تمامًا على فكر الإنجليز، وتؤدي إلى انخفاض إنتاجية العمل في المكاتب بنسبة 81%، ما قد يكون السبب في الركود العالمي الذي ضرب العالم طبقًأ لرأي صحفي «الغارديان» «باري غليندنينغ».
تطورت اللعبة بمرور السنين وتخطت حدود إنجلترا. هناك أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون في العالم مشترك في لعبة الفانتازي، يتابع كثير منهم مباريات الدوري الإنجليزي أسبوعيًّا بشغف للتأكد من أنهم أحسنوا اختيار لاعبيهم.
قِطاع عريض من لاعبي الفانتازي لا يهتموا بأي فريق بقدر اهتمامهم بلاعبين معينين في كل الفرق.
حين تشترك في اللعبة، تُمنَح ميزانية وهمية تمكِّنك من شراء 15 لاعبًا تتفاوت أسعارهم طبقًا لأهميتهم في الملعب، بحد أقصي ثلاثة لاعبين فقط من الفريق الواحد. تحصل على نقاط حين يحرز لاعبوك أهدافًا أو يصنعونها أو يحافظون على نظافة شباكهم، وبالطبع تُخصم منك النقاط لو استقبلوا الأهداف أو تلقوا كروتًا حمراء وصفراء أو أضاعوا ركلات جزاء.
إذا كنت من مشجعي مانشستر يونايتد على سبيل المثال، فهذا بالضرورة يعني أنك تكره كل ما يمت بصلة لفريق مانشستر سيتي الغريم الأبدي لفريقك. يبدو هذا منطقيًّا، لكنك لن تستطيع اختيار تشكيلك كاملًا من يونايتد بالطبع. اللعبة لن تسمح لك بهذا، وستحتاج إلى انتقاء لاعبين يسجلون نقاطًا من سيتي. مع الوقت، تتصالح مع فكرة فوز غريمك، شريطة أن يحرز اللاعب الذي اخترته في الفانتازي أهدافًا.
لنضرب مثالًا أوضح: يشبه الأمر ما يفعله المصريون منذ سنوات مع محمد صلاح. هؤلاء تابعوا فيورنتينا الإيطالي بشغف، ثم تابعوا روما بالشغف ذاته، ثم انتقل الشغف بشكل عجيب إلى ليفربول الإنجليزي. يتابع المصريون صلاح أينما رحل، لا يهم ما إذا كانت تلك الفرق تفوز أو تخسر، المهم أن يتألق «مو».
أن يصدق توقعك، هذه متعة كبيرة بالطبع. لكن إلى أي حد قد يتطور الأمر؟
أعطني نقاط الفانتازي، ولتذهب كل الفرق إلى الجحيم
يرجع الفضل في تطور اللعبة إلى ظهور الإنترنت والتقدم الهائل في سهولة الحصول على المعلومات ومتابعة المباريات، ما لم يكن متوفرًا بالطبع في تسعينيات القرن العشرين.
تعد اللعبة نقطة فارقة في تطور صناعة الكرة، وهو خط تطوري اقترن بالتطور التكنولوجي الذي يستفيد منه القائمون على الصناعة.
نحن نتحدث عن جيل جديد لم يقع فريسة لشغف نادٍ ما، واضطر إلى خوض رحلة البحث عن مقهى يبث مباريات ذلك الفريق، أو انتظر التقرير الرياضي على التلفزيون ليشاهد الأهداف. نتحدث عن جيل قادر علي متابعة إحصائيات فرق الدوري بأكملها، لمعرفة أيٍّ من المدافعين يتقدم للمساعدة في صنع الأهداف، أو أيٍّ من المهاجمين لا يسجل في ملعب بعينه. جيل قادر على تذوق فنيات الكرة دون النظر إلى الفريق الذي يقدم تلك الفنيات. لكن هنا تحديدًا تكمن المشكلة.
لا توجد إجابة مثالية للأسف. قابلت الطرفين، من يعشق كرة القدم ويرى في الفانتازي حافزًا مثاليًّا لمتابعة كل مباريات الدوري بنفس الحماسة والترقب، ومن لا يفقه شيئًا في كرة القدم، لكنه يتابع كل المباريات على أمل أن ينتصر على أقرانه في اللعبة.
المؤكد أن هذه اللعبة تمثل نقطة مهمة وفارقة في تطور صناعة الكرة، وهو الخط التطوري الذي اقترن بالتطور التكنولوجي الذي يستفيد منه القائمون على الصناعة.
قد يهمك أيضًا: هكذا أصبحت كرة القدم أكثر الألعاب شعبية في العالم
الفانتازي: الفرخة التي تبيض ذهبًا للاتحاد الإنجليزي
بدأ الأمر بإعلان الاتحاد الإنجليزي عن الفانتازي كلعبة سهلة القواعد، ثم تطور الأمر لتصبح عاملًا أساسيًّا لتسويق الدوري الإنجليزي ذاته.
نعرف الآن أن اللعبة تسمح لك باختيار ثلاثة لاعبين من الفريق الواحد بحد أقصى. ومع الأخذ في الاعتبار أسعار اللاعبين وميزانيتك المحدودة، تجد نفسك تختار لاعبين من أكثر من سبعة فرق، بعضها كبير والآخر صغير.
لأنك بالطبع ستحب اختبار مدى براعتك في الرهان على هؤلاء اللاعبين دون غيرهم، ستحتاج إلى متابعة مباريات الفرق التي يلعبون لها، ما يضمن للاتحاد الإنجليزي أنك ستشاهد ما يقرب من نصف مباريات الدوري. لن تكتفي بمشاهدة الفرق الكبرى فقط، بل ربما ستشاهد مباراة بين متذيل الدوري والفريق الذي يسبقه من أجل متابعة أحد اللاعبين.
مرحبًا بك في صلب صناعة كرة القدم الحديثة، إنها لعبة البث التليفزيوني.
الرهان دومًا يبقى على متعة كرة القدم، حتى لو تحول الهتاف إلى لاعبي الكرة على حساب الأندية، لن تختفي متعة كرة القدم.
في 2017، حصل كل فريق في الدوري الإنجليزي، بغض النظر عن ترتيبه النهائي، على نحو 79 مليون جنيه إسترليني مقابل البث التليفزيوني فقط. هذه الأرقام تجعل «البريميير ليغ» الأكثر ربحًا في العالم، حتى إن ما يحصل عليه إيفرتون وساوثهامبتون، سابع وثامن موسم 2017، يفوق ما يحصل عليه ريال مدريد وبرشلونة، عملاقا إسبانيا والعالم.
ولأنه الدوري الأكثر ربحًا، فهو الدوري الأكثر جذبًا للصفقات. لا عجب أن ترى فرق منتصف الجدول تُبرِم صفقات لا يستطيع كبار إيطاليا مثلًا أن يجاروها، ما يجعله دوريًّا يتسم بالندية والمفاجآت.
بمجرد أن ينضم لاعب ما إلى أحد الأندية، يبدأ التخمين حول سعره في لعبة الفانتازي. وهكذا تدور الدائرة، والمستفيد الأكبر هو الاتحاد الإنجليزي.
اقرأ أيضًا: هوس التشجيع: ما هربنا منه نحو كرة القدم، وجدناه في كرة القدم
الرهان دومًا يبقى على متعة كرة القدم، حتى لو تحول الهتاف إلى لاعبي الكرة على حساب الأندية، لن تختفي متعة كرة القدم، بل ربما سيتيح ذلك لمتابعيها الحفاظ على الحماسة والاستمتاع بكل المباريات.
ربما يتسبب الفانتازي في أن أُصدِّق ذلك الرجل على المقهى حين يقول: «أنا أشجع اللعبة الحلوة»، لكني بالطبع سأرد عليه: «فقط لو ستجلب لك نقاطًا في الفانتازي».
محمود عصام