«الأكل يحب اللمة»: عن السحر الذي تفعله الوجبات العائلية في أدمغتنا
خبز يابس، تُفَتته جدتي على اللبن الساخن المحلوب توًّا، «أرز مدسوس»، بط مقلي عائم في بحر الملوخية، بطاطس «متبلة» تسبح بين قطع الدجاج الطالعة من الفرن، روائح نكهة «تتبيل» الباذنجان، الطعم اللاذع والمالح لمخلل الكرنب الأحمر من ماء البنجر، أذواق وراوئح لا تُنسى، وكلما تقدم بي العمر، توهجت ذكرياتها بالألوان والروائح.
لن أنسى هذا الروتين الذي عشته في طفولتي. بعد يومٍ شاق في المدرسة والواجبات المنزلية، يعود أبي من عمله مساءً، ثم نجتمع كلنا لتناول العشاء.
من منا ينسى «نَفَس» والدته الخاص في إعداد الأطباق، سخرية الإخوة من بعضهم، أوامر الوالدَين بالانضباط وإظهار الأدب خلال الأكل، مناقشات غامضة بينهما حول ظروف العمل، أسئلة مثيرة للشهية عن أوقاتنا التي قضيناها في المدرسة، والمعلم الجديد الذي لا يتقن شرح الرياضيات.
في مقالها على موقع «Qoura»، تحكي «إليك ويس» أنه في الأوقات العصيبة من حياتها في المدرسة الابتدائية، كان جدها يخبز لها كعكة، هذه الكعكة مكَّنتها من تجاوز ظروفها الصعبة.
أما صديقي الصحفي الذي يبلغ من العمر 29 عامًا، فيؤكد لي أنه كلما مر على المخبز وتنفس روائحه، يتذكر جدته التي ظلت تخبز أمام «الفرن البلدي» رغم تقدمها في السن، وتدس العسل الأسود أو السمن بالسكر بين شقوق الأرغفة الساخنة: «أقدم ذكرى لشيء أكلته، كأنها فضت بكارة حواسي».
«الذكريات شيء فضولي، تجعلنا نضحك، نبكي، نغضب، نتنفس بندم، لكنها ثمينة بشكل يفوق الخيال، والطعام يحركها بطريقة رائعة، ويحتفظ بها، يُذكرك بوقت لم يكن لديك فيه أي اهتمام بالعالم سوى اكتشافه بشكل مبهج، أو بالأحداث العميقة التي دفعتنا إلى تغيير خياراتنا في الحياة»، هكذا تعلق إليك ويس على كعكة جدها.
الأم: ساحرة وجبات الطفولة
لطالما نظرتُ إلى أمي وأنا طفل كساحرة تحول البطاطس من نبتة طعمها مر وبارد إلى أصابع ساخنة ولذيذة، وكنت أتسلل خلسةً لألتهمها قبل أن تنتهي أمي من إعداد الطعام. تنهرني أحيانًا على قلة صبري، وأحيانًا تعد لي ساندوتش صغيرًا يسميه المصريون «تصبيرة»، يسد جزءًا من جوعي حتى وجبة العشاء.
الوجبات الجاهزة لا تُشبع مشاعر صديقي المصري مثل «أكل البيت»، وكأن شكل الحياة يتجسد في عائلة مجتمعة حول مائدة الطعام.
في معظم بيوتنا، في الغرب والشرق، تعد الأم بإعدادها الطعام خالقةً لتلك الحالة الاجتماعية والحميمية التي تحافظ على الروابط بيننا، تحت مظلة الأسرة الواحدة، وتزرع في عقولنا ذكريات لا يبليها الزمن.
«كيتلين كرول»، كاتبة وأم لولدين، توضح أن الوجبات المنزلية لا تُقاوَم: «نعرف أن اللحظات العائلية مهمة، لكنها بالنسبة إلينا كأمهات، أكثر من مجرد تجمع عائلي. الأمر يتجاوز مجرد تناول الطعام جماعيًّا، ففيها تعارف وتقارب، وعندما تجلسون إلى طاولة الطعام دون هواتف ذكية وتتجاذبون أطراف الحديث عن شؤون اليوم، سيُكافأ جميع الحاضرين بلحظات غير مُتَقَطعة من الذكريات».
صديقي الشاعر المصري يحكي أنه عاش روتينًا قاسيًا في تناول وجبات الطعام وهو طفل في قريته، إذ كانوا يستيقظون مبكرًا لتناول الإفطار، ثم في وقت مُحدَد من العصر يتناولون وجبة الغداء، وفي بدايات الليل ينهون يومهم بوجبة العشاء. أما عندما سافر إلى العاصمة وحده، وفقد يومه الانضباط، بدأ يشعر بوجود خلل، بدأ يحن إلى الزواج. هذه الوجبات العائلية شكَّلت مشاعره حول كيف يجب أن يكون الطعام، فلا بد أن يكون من يد زوجته، فالوجبات الجاهزة لا تشبع مشاعره، مثل «أكل البيت»، وكأن شكل الحياة المثالي يتجسد في عائلة مجتمعة حول مائدة الطعام.
أما صديقي الصحفي (32 عامًا)، فقد عاش تجربة مختلفة في الوجبات العائلية، كان مجبرًا على أن يأكل أطعمة بعينها: «كنت أكره الأرز والدجاج واللحوم، وشرب اللبن صباحًا»، ووبخته أمه كثيرًا كلما رأته يشرب «محلول المخلل»: «كنت شغوفًا بهذا المحلول بطريقة مَرضية»، وكانت والدته تغضب أيضًا عندما يطلب طعامًا معينًا، على الأسرة كلها أن تأكل نفس الوجبات. لذا عندما استقل وسافر إلى القاهرة، كفَّ لفترة طويلة عن تناول اللحوم، وظل لفترة يبدأ يومه صباحًا بكوب من محلول المخلل.
«لا أريد أن أتزوج، لا أريد أن أكون أسرة، الحياة العائلية بالنسبة إليَّ يعني أن أكون مضطرًّا إلى أن أفعل أشياء لا أحبها من أجل عائلتي، أفقد ذاتي وخصوصيتي من أجل المجموع».
قد يهمك أيضًا: أطباق رمضانية على الموائد العربية.. كيف تُصنع؟
وجبات الأسرة: رمز استقرار الطبقة الوسطى
ما يخطر على بالنا عندما نقرأ كلمتي «وجبة العائلة» سيكون غالبًا صورة لأسرة صغيرة مكونة من أم وأب وأطفال يجلسون إلى طاولة، ويتناولون طعامًا صحيًّا وشهيًّا أُعِد في المنزل، لكن تلك الصورة ليست حقيقية بحسب «بول فيلدهاوس»، الكاتب والخبير الكندي في شؤون التغذية، بل مجرد «اختصار مناسب لفكرة متخيلة».
يوضح فيلدهاوس أن التخيل السابق «صورة» أبرزتها الإعلانات في منتصف القرن العشرين، وروجت لها الثقافة الشعبية في التلفزيون والمجلات، ورسخت نفسها بقوة كمثال ثقافي، فصارت شيئًا يتطلع إليه كل الناس، ورمزًا نهائيًّا للوحدة العائلية المثالية.
مع مرور الزمن، باتت الوجبة المنزلية تمثل الأسرة نفسها في ذهن الطبقات الوسطى.
لن تستغرق وقتًا طويلًا في قراءة التاريخ، لترى أن هذه الصورة للوجبة العائلية ظاهرة حديثة إلى حد ما. في بريطانيا الفيكتورية، كانت أطفال العائلات الأرستقراطية والغنية يأكلون في الحضانة أو المطبخ مع الخدم ومربية الأطفال، أو في غرف الطعام الجامعية في المدارس، على عكس الأسر ذات الدخل المنخفض، التي كان أفرادها يتناولون الطعام معًا على الطاولة، وأحيانًا دون طاولة.
اقرأ أيضًا: لماذا يتجه فقراء العالم لطعام الأغنياء، والعكس؟
أصبحت وجبات الطعام العائلية جزءًا من الوعي الطبقي في أمريكا الشمالية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خلال النمو الاقتصادي وسنوات الازدهار بعد الحرب الأهلية الأمريكية «1865-1890»، وباتت فكرة الوجبة العائلية هي القاعدة عبر الطبقات الاجتماعية.
في معظم الدول العربية، في بدايات القرن العشرين، كان الأب والذكور يتناولون طعامهم أولًا، ثم يأتي دور الإناث. أما في أرياف معظم الدول العربية، فلم يعرف الفلاحون آنذاك العائلة الصغيرة المنفصلة عن العائلة الكبيرة التي تضم الأعمام والعمات وأولادهم، ويكون للجد والجدة كلمة مسموعة، وكانوا يأكلون مجتمعين. وساد في النصف الثاني من القرن العشرين، في معظم الدول العربية، الصورة الشائعة عن تجمُّع الأسرة كاملة حول مائدة الطعام، سواء في الأرياف أو المدن.
مع مرور الزمن، باتت الوجبة المنزلية تمثل الأسرة نفسها في ذهن الطبقات الوسطى، ويحزن كل جيل على زوال تلك العادة منذ العقد الثاني من القرن العشرين، الفترة التي كبرت فيها المخاوف بشأن دور الأنشطة الترفيهية وانتشار السيارات في تقويض أوقات الطعام العائلية، وتجلِّي ذلك بين عائلات الطبقة الوسطى.
عالمة الاجتماع «آن موركوت»، تعلل هذا الشعور بأن وجبة الأسرة أصبحت نفسيًّا تمثل «الاستقرار» في أوقات التغيير، ورثاء تلك الوجبات رد فعل على تغير أدركوه في هيكل الأسرة وترتيباتها.
لكن رغم أن الناس يقدِّرون الوجبات العائلية، فإنهم يتهرَّبون منها بحجج مثل عدم توفر الوقت ومتطلبات العمل، والحياة الاجتماعية المزدحمة والأنشطة المجدولة، وبات تناول الطعام وحيدًا في العصر الحديث ظاهرة شائعة، وتشير بيانات استطلاعات الرأي في أمريكا أن ستًّا من كل عشر وجبات تؤكل بشكل منفرد.
يقول «فرانسوا دي لاشروكولد»، الكاتب البارز من القرن السابع عشر: «تناول الطعام أمر ضروري. لكن أن تتناوله بذكاء، فذلك فن». ويفسر المؤرخ «كودي س. ديليستاتي»، العبارة بأن الذكاء في تناول الطعام أن تكون الوجبة مناسبة وكافية، مع عائلتك أو زملائك في الغرفة أو أصدقائك.
أحمد شهاب الدين