الجماهير القاتلة: هل التعاطف صفة بشرية فطرية أم مكتسبة؟
تبدو فكرة الوقوف بجانب أصحابنا ومعارفنا وقت الأزمات والشدائد بديهية للغاية، ويكاد ذلك يكون التجسيد الأقوى لصفة التعاطف التي نتسم بها كأفراد وجماعات بشرية نتشارك اللحظات الحلوة قبل المرة، لكن في محاولتي لرصد بعض الأحداث التي باتت تظهر في عالمنا بدأت أشكك في فكرة أن الناس يشعرون بالتعاطف تجاه بعضهم بعضًا بشكل فِطري.
في 13 إبريل 2017، قتلت عصابة طالبًا باكستانيًّا عمره 23 عامًا يُدعى «مشعل خان» وسط مئات الطلبة بسبب آراء شخصية نشرها عبر حسابه على موقع فيسبوك، ولم يحرك أحد من المتفرجين ساكنًا وهم يشاهدون أفراد العصابة ينتزعون ثيابه ويطلقون النار عليه من مسافة قريبة، ثم يلقونه من الطابق الثاني لسكن الطلبة، وبعد ذلك يركلونه بالأقدام بعد جره في الساحة العامة لجامعة عبد الولي خان.
ما زاد الطين بلة هو انتشار مقطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي يوثق مشاهد ضرب خان الوحشية، بينما الجميع يتفرجون أو يصورون أو يشاركون بركل جثته.
ألم يكن الأجدر بشخص على الأقل أن يتصدى لما يقع أو يطلب تفسيرًا؟
أشهر حوادث عدم اللامبالاة تعود إلى العام 1964، حين اغتُصبت فتاة أمريكية تُدعى «كيتي غينوفيز» وطُعنت 14 مرة حتى الموت في أحد شوارع حي كوينز في نيويورك أمام 38 شخصًا من جيرانها، دون أن يهب أحد لنجدتها أو حتى يتصل بالشرطة، رغم صراخها المستمر طلبًا للمساعدة.
تذكِّرنا الحادثة بمشهد تكرر في 2015 لقتل وسحل سيدة أفغانية عمرها 27 عامًا تُدعى «فرخندة ملكيزاده»، بسبب ادعاء أحد رجال الدين أنها أحرقت نسخة من القرآن، واكتفى ضباط الشرطة بمشاهدة ما يحدث، حسب والدتها السيدة «بيبي هاجرة».
وفي مارس 2017، تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو لرجل مصري يستغيث بالمارة دون أن يتدخل أحد، ليعرف الجميع بعد ذلك أنه تعرض للضرب أمام مقهى عام قبل أن يُختطَف ويُقتل. وفي السعودية، انتشر فيديو على تويتر لمواطن سعودي يضرب زوجته في وضح النهار وهي تصرخ، وكأنه مشهد يتكرر أمام المارة بصفة يومية.
ألم يكن الأجدر بشخص واحد على الأقل أن يتصدى لما يحدث في تلك المواقف؟ أو يطلب تفسيرًا لما يجري؟ أو يلجأ إلى الشرطة أو القضاء قبل أن يشارك بالقتل والوحشية أو التصوير اللامبالي؟
يعيدنا ذلك إلى التساؤل عمَّا إذا كان الناس بطبيعتهم متعاطفون أم يكتسبون صفة التعاطف خلال مراحل حياتهم المختلفة.
قد يهمك أيضًا: كيف تجتمع المبالاة مع اللامبالاة عند «زِن»؟
نظرية المتفرج
أثارت هذه الحوادث، وبالذات ما جرى لكيتي غينوفيز، فضولًا كبيرًا لدى علماء النفس والاجتماع، دفعهم إلى دراسة الحالات المماثلة وإجراء أبحاث حول الأسباب، أشهرها التجارب التي أجراها عالما النفس الأمريكيان «بيب لاتين» و«جون دارلي» في عام 1969، وتوصلا فيها إلى أن هناك نموذجًا موحدًا من الحالات التي يمر بها المتفرج في أثناء الواقعة تفسر سبب تدخله من عدمه.
البشر معتادون على تقليد بعضهم في حالة الطوارئ بحثًا عن الحل الأمثل للمساعدة.
اللحظة التي يقرر فيها المتفرج تحمل المسؤولية هي المفصلية في أي واقعة، لأن غالبية المتفرجين الذين يجدون أنفسهم في حوادث تستدعي التدخل يرفضون تحمل المسؤولية وينتظرون أن يتدخل غيرهم ليقلل التكلفة النفسية لعدم المساعدة، فتتقاسم المجموعة الموجودة التكاليف النفسية مثل الإحراج والذنب، ممَّا يقلل احتمالات التدخل، وتُعرف هذه الحالة باسم «Bystander Apathy» أو لامبالاة المتفرج.
يشرح عالم النفس الأمريكي «فيليب زيمباردو» تلك النظرية بأنها الحالة التي يمتنع فيها المتفرج عن التدخل في مساعدة الضحية بسبب وجود أعداد كبيرة من الشهود، وبالتالي يشعر بانتفاء المسؤولية عنه، على عكس ما إذا كان هو الشاهد الوحيد الموجود، فتزيد احتمالات أن يهب لمساعدة الضحية.
يوضح زيمباردو أن البشر معتادون على تقليد بعضهم في حالة الطوارئ بحثًا عن الحل الأمثل للمساعدة، فعندما يمتنع الجميع عن التدخل يكون رد الفعل الطبيعي للشخص المتفرج بالامتناع كذلك لأنه «الأمر المقبول اجتماعيًّا»، بينما يختلف الأمر لو تدخل أحد الموجودين، وحينها يشعر الباقون بالرغبة في المساعدة.
لكن من بين عدة حالات تشهد لامبالاة المتفرجين يقرر شخص واحد تقديم المساعدة طوعًا، فماذا عن أولئك الأفراد؟
في مقال نشره موقع «سايكولوجي توداي»، يوضح خبير المعالجة النفسية الأمريكي «جون دوفيديو» وجود علاقة مباشرة بين صفة التعاطف وصفة الشعور بالتوحد والمساواة مع الذين يحتاجون للمساعدة، فكلما شعر الفرد بتشابه بينه وبين ذاك الذي يحتاج المساعدة، أحسَّ بحاجة إلى التعاطف معه بصفته شخصًا ينتمي إلى جماعته، التي يشتركان فيها عن طريق القرابة أو الصداقة أو العِرق أو البلد أو الدين، على سبيل المثال.
وفي بعض الحالات لا توجد صفة ظاهرية مشتركة بين الأشخاص، إلا أن شعور واهب المساعدة بأنه متعاطف مع الآخرين، كونه تعرض لنفس الموقف من قبل أو تخيل نفسه في مثله، كفيل بدفعه إلى تقديم النجدة.
كيف تدفع غريبًا إلى حتفه؟
لا يزال التساؤل قائمًا حول الدافع الذي يحرك مجموعة من الأشخاص للقيام بما هو أكثر من الامتناع عن المساعدة، ويُسهم في إنهاء حياة شخص غريب تمامًا بمنتهى القسوة.
أجرى لاعب الخفة ومقدم البرامج البريطاني «دارين براون» تجربة ليفهم ذلك، فاستأجر ممثلًا لتحريض مجموعة من المدعوين لحفل توظيف على أداء أعمال سيئة لقاء إيجاد فرصة عمل لهم.
يفقد المسؤول عن الحفل وعيه لكن يُقال للمدعو إنه مات، ويُطلب منه المساعدة في إخفاء الجثة وركلها في بطنها لتظهر كدمة تبرر الوفاة، ثم يفيق الرجل ويهدد المدعو بالسجن، وعندئذ يدفعه الممثل إلى إلقاء الرجل من علٍ كي يهرب من السجن ويحظى بالوظيفة، وهو ما يحدث.
يقول براون إنه «من المدهش ما يمكنك فعله لدى تقمُّصك شخصية ذات سلطة مؤثرة على الأفراد البسطاء، يمكِّنك ذلك من استغلالهم لفعل أمر لن يجرؤوا على أدائه عادةً. ولا تأتي الأوامر بالضرورة من شخص بعينه، بل قد تصدر من جماعة قريبة منك أو حتى عقيدة تسعى لإحكام قبضة النظام العام، لكنها تدفع كذلك إلى الفوضى عبر ارتكاب جرائم رهيبة».
هذا الضغط الاجتماعي الذي شعر به المشارك في التجربة جعله يُقدِم على فعلته لئلا يتعرض لما هو أشد ضررًا، مثل السجن أو عدم الحصول على الوظيفة.
قد تقتلك الجماهير بكل برود
ماذا سيحدث في حالة اختفاء القوانين الرادعة وموافقة الضحية على الإسهام في قمعها وتعنيفها؟ وهل للقوانين دور فعال في إيقاف العنف؟
في عام 1974، نفذت فنانة الأداء الحي «مارينا أبراموفيتش» لوحة حية أسمتها «Rhythm 0» في معرض فني لتختبر حدود الأدب بين الجمهور والفنان، فوضعت على طاولة 72 أداة متفاوتة النوع تتعلق بالألم والمتعة، مثل سوط، وقنينة عسل، وعنقود عنب، وريشة، ومجموعة سكاكين، وكاميرا، وإصبع حمرة، ومبضع، ووردة، ومسدس وطلقة واحدة.
وقفت أبراموفيتش ساكنة تمامًا، وعلقت إلى جوارها لوحة كتبت عليها «يمكنك استخدام أيٍّ من تلك الأدوات على جسدي كما تشاء، أنا المتلقي وأتحمل كافة المسؤولية في ذلك لمدة ستِّ ساعات».
تردد الجمهور في البداية، وبدأ بعضهم يستخدم أدوات المتعة مثل الوردة والريشة، ثم تجرؤوا بالتدريج وأخذوا يجربون أدوات العنف على جسدها، حتى نزع أحدهم ثيابها وجرح آخر عنقها وشرب من دمها، وازدادت حدة الجمهور في النهاية عندما وضع أحدهم الطلقة في المسدس ووجهه إلى رأسها، لولا اندفاع آخر لإيقافه في الوقت المناسب.
حكت مارينا أن فضولها كان أكبر من خوفها على نفسها، وكان «يدفعني لمعرفة ما سيفعله الجمهور دون أي تدخل مني، وفوجئت بأنني كنت سأُقتل إذا ما تُرك لهم أمري تمامًا. لقد نزعوا ثيابي ووضعوا أشواك الورد في سُرِّة بطني، وعند انتهاء الستِّ ساعات بدأت في الحركة فهرب الجميع من أمامي».
توضح نتائج التجربة تعطُّش البشر للعنف في حالة اختفاء القوانين الرادعة، وموافقة الجميع على قمع وتعنيف الضحية المغلوبة على أمرها.
قد يعجبك أيضًا: ماذا لو وُجدت أدوية لتقويم أخلاق الناس؟
هل يمكنك تعلم التعاطف؟
من الصفات الأساسية التي تميزنا كبشر قدرتنا الفطرية على «وضع أنفسنا مكان الآخرين»، فأدمغتنا مصممة بحيث نتعاطف مع الأشخاص القريبين منَّا، إذ نشعر أن مُصابَهم مصابُنا، ونتعاطف معهم عندما يهددهم أي خطر.
أثبتت إحدى الدراسات أن الإنسان بطبيعته يشعر بالسعادة إذا قدم المساعدة لشخص يحتاجها، لكن في نفس الوقت فإن التعاطف وتقديم المساعدة لغيرنا هي عملية مستدامة، بمعنى أن حجم التعاطف يزيد بزيادة ممارسة الشخص نفسه العطاء المعنوي تجاه الآخر.
اقرأ أيضًا: كيف يجعلنا الأدب والفن أكثر تعاطفًا مع الآخرين؟
يمكن للأهل تدريب الأبناء على التعاطف عبر إرساء قدوة حسنة لهم.
تؤثر عوامل مثل البيئة وطريقة تنشئة الوالدين للطفل على مدى التعاطف الذي يُظهره للآخرين فيما بعد، ويرجح علماء النفس أن هناك نوعين من أساليب التربية التي قد يتبعها الأهل.
الأسلوب الأول يعتمد على شرح نتائج الأفعال الحميدة أو السيئة التي قد يقوم بها الطفل، وإفهامه العواقب المترتبة عليها وكيف يؤثر ذلك على الآخرين، أما الثاني فهو التقليدي المعتمد بشكل أساسي على تلقين الصواب والخطأ، مع اللجوء إلى العقاب الشديد أو الغضب في حالة الخطأ.
يفضل العلماء الأسلوب التربوي الأول لأنه يعلم الأطفال الإحساس بغيرهم وتقدير آلامهم، وبالتالي التعاطف مع الآخرين.
يمكن للأهل كذلك تدريب الأبناء على التعاطف عبر إرساء قدوة حسنة لهم، فعالم الاجتماع «سام أولينر» أجرى دراسة مكثفة على اليهود الذين نجوا من الهولوكوست وترعرعوا لاحقًا مع عائلات ألمانية، وتوصل إلى أن أولئك الذين تربوا مع أُسَر كانت بطبيعتها متعاطفة باتوا يمتلكون حسًّا عاليًا بالإيثار والرحمة.
لكي نفهم أسباب العنف التي تبررها المعتقدات المتطرفة، أو حتى المجتمعات التي ينتشر فيها العنف دون مبرر، مثل حي كوينز في مدينة نيويورك الأمريكية، علينا أن نفهم تكوين تلك المجتمعات، التي دفعت أفرادها إلى التضحية بأشخاص مثل مشعل خان وفرخندة وكيتي غينوفيز دون ذرة واحدة من التردد.
سحر الهاشمي