الإسلام الوسطي مجرد أسطورة: الشعرواي نموذجًا
بعد زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أشاد البيت الأبيض بجهود الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي «الشجاعة» لنشر مفهوم معتدل للإسلام، وأوضح أنه اتفق مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على ضرورة «التركيز على الطبيعة السلمية للإسلام والمسلمين في العالم».
لم تكن هذه المرة الأولى التي يتناول فيها رئيس للولايات المتحدة الإسلام الوسطي، فقد سبق وتحدث الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن الحرب في سوريا، فذكر أنها يجب أن لا تكون حربًا عسكرية فقط، بل محاربةً للتطرف عبر نشر الإسلام المعتدل.
تنتشر مصطلحات «الوسطية» و«الإسلام الوسطي» كثيرًا في مواجهة التشدد والتطرف، لكن ما المقصود بالإسلام الوسطي بالضبط؟
«وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطًا»
بينما تقصد الإدارة الأمريكية بالوسطية أمورًا تتعلق بالقتال، يذكر الدكتور عادل عبد الله الفلاح، رئيس ومؤسس المركز العالمي للوسطية في الكويت، أن «الوسطية في المفهوم العصري تستند إلى أربع ركائز أساسية، هي الحوار، وقبول الرأي الآخر، واحترام الرأي الآخر في حال عدم قبوله، والتعايش السلمي مع الآخرين».
لا يزال تعريف الإسلام الوسطي يدور داخل دائرة أهل السنة، دون التطرق إلى الطوائف الأخرى.
أما الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، فخلال زيارته إلى جامعة دار السلام كونتور في إندونيسيا، دار تفسيره للوسطية في نطاق عدم تكفير أحد المنتمين إلى المذاهب الأربعة، الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، وقال إن «الخطاب الوسطي هو الدواء الشافي لكل الأمراض الفكرية المنتشرة»، محذرًا من فكرة التكفير، ومسلِّمًا بأن «الخلافات بين المذاهب الأربع مقبولة ولا ينبغي أن يُقصي أحدها الآخر».
يوافق الطيبَ المشاركون في مؤتمر الخطاب الوسطي والأمن المجتمعي، الذي أقيم في باكستان يناير 2017، من خلال بيانهم الختامي الذي ركز على عدم إقصاء أهل السنة والجماعة وتكفيرهم، كما أوصى البيان بالتركيز على الأشياء المشتركة ورفض التعصب والانغلاق.
وممَّا يقوله الطيب وما تناوله المؤتمر، لا يزال تعريف الإسلام الوسطي يدور داخل دائرة أهل السنة، دون التطرق إلى الطوائف الأخرى التي يكفِّرها الإسلام المتشدد.
وفَصَل الشيخ يوسف القرضاوي، في كتابه «كلمات في الوسطية الإسلامية ومعالمها»، معنى الوسطية، إذ يعرفها بأنها التوسط والتعادل بين طرفين متقابلين.
وضع القرضاوي 30 مَعْلَمًا للوسطية في الكتاب لتكون منارة يهتدي بها من أراد اتباع هذا المنهج، وأهم ما ورد فيها ما يتعلق بالتيسير في الفتوى والإيمان بالتعددية، وكذلك الاعتراف بحقوق الأقليات الدينية ومعاملتهم بما أوجبه لهم الإسلام، وتحديده عبارة «بما أوجبه لهم الإسلام» يعني باعتبارهم أهل ذمة، وليس مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
من معالم الوسطية توكيد ما جاء به الإسلام من إعطاء المرأة حقوقها، وهي بحسب القرضاوي حقوق دينية ولا تعتبر النساء مواطنات مساويات للذكور في الدولة، كما ترى الجهاد فرض عين، والسلام لا يُقدَّم إلا إلى من يبسط يده بالسلام، ويذهب القرضاوي خلافًا للمذكورين سلفًا إلى إحسان الظن بكل من نطق الشهادتين وصلى للقبلة، في ما يبدو رسالةً جامعةً إلى كافة الطوائف.
قد يُتَّهم القرضاوي نفسه بأنه من المتشددين بسبب انتمائه السياسي إلى جماعة الإخوان المسلمين، لكن ماذا لو أخذنا رأي من يعتبره معظم المسلمين رمز الوسطية، الشيخ محمد متولي الشعراوي؟
الشيخ الشعراوي: إمام الدعاة والوسطية
لا يخلو حديث عن الوسطية في الدين من الإشارة إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي، أحد أعلام الأزهر ووزير الأوقاف المصري في الأعوام من 1976 إلى 1978، الذي حصل على شهرته وجماهيريته من برامجه التليفزيونية، التي بدأها بـ«نور على نور» وحتى «خواطر الشعراوي»، مرورًا بـ«الدين والحياة».
وجد الناس الشعراوي وجهًا سمحًا للإسلام يعبر عن حسه السلمي ورحمته.
حين تحدث عن الشعراوي، وصفه الصحفي المصري إبراهيم عيسى في سلسلة مقالات كتبها بأنه «كان رجلًا جديدًا تمامًا، أداؤه الحركى بالغ التطور، يتحرك بيديه وجذعه ويميل بمرفقيه ويغضب بملامحه ويضحك بأسنانه (...) كل انفعالاته تتركز فى نغمات صوته، الذي يرتفع وينخفض ويخشَنُّ ويرقُّ ويغلظ وينعم، كما أنه كثير التداخل بين العامية والفصحى، ويردِّد أمثلة متعددة من الريف القح الجُوَّاني».
يرى عيسى أن طريقة الشعراوي في برنامجه كانت أقرب إلى الكتاتيب، فكان يطلب من الجالسين الرد عليه ومشاركته، لكنها بحسب رأيه تعتمد أساسًا على التلقين لا على المناقشة والأخذ والرد، الأمر الذى ينتهى غالبًا بالجالسين يصرخون إعجابًا.
هذه الطريقة التي اعتمدها الشعراوي جعلته أقرب إلى الناس وأوسع في الانتشار الجماهيري، إذ كان الناس يجلسون أمام الشاشات متسمرين يستمعون إليه يفسر آيات القرآن بطريقته الريفية البسيطة وخفيفة الظل في بعض الأحيان، فكان أحد أوائل الدعاة التليفزيونيين، وجده الناس وجهًا سمحًا للإسلام يعبِّر عن حسه السلمي ورحمته.
لكن بالمعايير التي تُتَداول اليوم حول الوسطية والمواضيع المثيرة للجدل في الأحكام الفقهية، هل كان الشعراوي وسطيًّا حقًّا؟
الشعراوي والأقليات الدينية
يُعتبر موضوع الأقليات الدينية من أكثر الأمور جدلًا في مسألة التشدد، فماذا كان رأي إمام الوسطية في الأقليات؟
قال الشعراوي عندما سُئِل عن رأيه في الشيعة إن مبدأ التَّقِيَّة (إخفاء المُعتقَد لحماية النفس) يجعله يشعر بالخوف بشأنهم، خصوصًا أنهم لا يُصَلُّون خلف إمام الحرم المكي، ولا يسلمون على أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في المدينة.
أما المسيحيين فقد نصح الشعراوي من على منبره الشهير بأن «عليك أن تتعايش مع النصارى، لكن يجب أن لا تحبهم ولا ترضى عنهم، وإن رضوا عنك هم أو اليهود فقد خرجتَ من الملة».
شدد الشعراوي، في لقائه مع البابا شنودة، بابا الإسكندرية وبطريريك الكرازة المرقسية، على رفضه عبارة «الدين لله والوطن للجميع»، ونبَّه على أن وطنًا دون دين ولا يُحكم باسم الله لا يستحق الاعتزاز به، وأن الإنسان حين يكون مستضعفًا في أرض فعليه أن يرحل منها.
هذه التصريحات، التي أتت من رجل ذي شأن عظيم عند الناس، هل أسهمت في تكوين أُسُس الخوف من الآخر وخطابات الكراهية والاستعداء ضد شركاء الوطن؟ هل أسهمت في اعتبار المسيحيين أهل ذمة، علينا أن نتعايش مع وجودهم ولا نقبلهم وإلا صرنا كُفارًا؟
لقد سبق أن هاجم الصحفي المصري مفيد فوزي الشيخ الشعراوي، واتهمه بأنه من مهَّد لما حدث بعده من تطرف، وقوبل هذا الهجوم باستغراب واستنكار من الصحافة، باعتبار أن الشعراوي كان ضد تفجير الملاهي الليلية، وكان يرى الجهاد ضد غير المسلمين فقط، وضد من يبدؤون بالاعتداء.
الشعراوي والمرأة
«إذا رأيت المرأة تعمل وتجري لعيشها، فهناك خور في المجتمع ونقص في الرجولة»، هذا ما قاله الشعراوي حول عمل المرأة، منبهًا على أن الضرورة القصوى هي التي تدفع النساء إلى العمل، لكن هذه الضرورة لا تبيح الاختلاط.
إذًا، ما الذي يختلف فيه الشعراوي عن شيوخ الدين الذين نتهمهم بالتشدد وإبراز صورة سيئة للإسلام؟
لا يختلف الشعراوي عنهم، إذ يرى أن عمل المرأة دليل فساد المجتمع، وأن واجب الرجل المؤمن أن يأخذ بيدها ويساعدها حتى لا تُضطر إلى العمل، وكأنها شخص عاجز أو قاصر، وهو رأي يوضح مناهضته لمساواة المرأة بالرجل في العمل، واعتبار مكانها البيت لا خارجه.
لم يكتفِ الشعراوي بذلك، بل أكد صراحةً خلال أحد لقاءاته أن خروج المرأة من البيت «فتنة»، في إساءة بالغة للنساء وأخلاقهن، كما أكد أنه منذ خلق الله آدم وأنزله من جنته، كلَّفه برعاية حواء وأن يشقى بدلًا عنها، وأشار إلى أن قوامة الرجال على النساء تعني أنهم القائمون بكل الأعمال، والكفاح في الحياة مهمتهم لا مهمة النساء.
لم يعلم الشعراوي أن نسبة المرأة التي تعيل عائلتها في مصر تبلغ نحو 38%.
كان الشعراوي يرى أن الليل مكمِّل للنهار، وكذلك النساء مكملات للرجال، فالرجل للكدح والمرأة للسكن، وفي رأيه أن النساء مشقَّتهن في الحياة الحمل والولادة فقط.
وخلال إحدى دروسه، قال ساخرًا إن النساء لا يتهافتن على الأعمال الشاقة، ويردن أن يعملن من على المكاتب فقط، ولا يرغبن في العمل في قيادة القطارات مثلًا أو في المناجم، وحتى في الأعمال المكتبية تجدهن ينشغلن في «تخريط الملوخية».
هذا يعيدنا إلى التساؤل عن معنى الوسطية التي يُعتبر الشعراوي رمزًا لها، وكيف يكون التقليل من قيمة المرأة، التي كافحت وصنعت نجاحات باهرة في تخصصات نظرية وعملية في شتى مجالات العلوم عالميًّا، نموذجًا للوسطية ووجهًا للإسلام السمح؟
يبدو كلام الشعراوي مشوبًا بالكثير من عدم المعرفة حول وجود عالمات في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والأحياء والفضاء والهندسة، إلى جانب رئيسات لدول عظمى، وحتى عاملات في المناجم والمنازل كما كان يقول ساخرًا، وفي قطاعات النفط والقانون والقضاء والطب والفن والأدب.
ربما لم يعلم الشعراوي أن نسبة المرأة التي تعيل عائلتها في جنوب آسيا والدول الإفريقية تصل إلى 30%، وفي أوروبا وأمريكا من 15 إلى 20%، بينما تبلغ في مصر، بلد الشعراوي، نحو 38%.
وفي مجتمع يعج بقضايا التحرش بالنساء، رأى الشعراوي أن تبرُّج المرأة إلحاح منها في عرض نفسها على الرجل ومحاولة للفت نظره، وأنها حين تتستر باللباس الشرعي لن يتعرض لها أحد أو يؤذيها بكلمة، لكنها ما أن تلبس ما يُفَصِّل جسدها من ثياب فستُعتَبر رهن الإشارة، وهي ذات الأسباب التي يسوقها من يبررون التحرش.
العلمانية؟ «دي قلة أدب»
رد الشعراوي بتلك الجملة على سؤال حول العلمانية، إذ كان الداعية الشهير يرى أنها تسعى لفصل الدين عن الحياة، وأن كل من يدَّعي التمسك بالدين ويطلق على نفسه صفة «علماني» فهو كاذب.
ماذا سيكون رأي الشعراوي لو رأى حزب إردوغان الديني يقود تركيا العلمانية اليوم؟
وخلال حلقة من برنامج «لقاء الإيمان»، ذهب الشعراوي إلى أن الشيوعية مذهب اقتصادي بدأ بمحاربة الرأسمالية ثم تحول إلى محاربة الإسلام دونًا عن بقية الأديان، وأن الحزب الشيوعي تشكَّل في البداية من أغلبية يهودية، وهو «كليشيه» تقليدي للغاية، اتهام الشيوعية النموذجي بمعاداة الإسلام وبأنها صناعة يهودية، نظرًا لتاريخ العلاقة المتوترة والعداء الأيديولوجي بين الشيوعيين والإسلاميين في مصر.
اقرأ أيضًا: كيف غيَّر كارل ماركس وجه العالم؟
لعل حديث الشعراوي ينم عن عدم معرفة كافية بنظرية العلمانية، التي تتمحور حول عزل المؤسسة الدينية عن قيادة الدولة، ولا علاقة لهذا بعزل الدين عن الحياة نفسها، فالعلمانية المطبقة اليوم في بعض دول العالم هي الأكثر حفاظًا على حقوق الأفراد في ممارسة عباداتهم.
إن إخراج الشعراوي للعلمانيين من المِلَّة، واتهامهم بالكذب إذا ادَّعوا التمسك بالدين، يطرح تساؤلًا مهمًّا حول ما سيكون رأيه، رحمه الله، لو كان حاضرًا اليوم ورأى إردوغان يقود تركيا العلمانية مع حزبه الديني، ويقسم بالحفاظ على علمانيتها.
قد يعجبك أيضًا: علمانية أم دينية؟ خلطة إردوغان لمزج الإسلام السياسي بـ«القومية التركية»
الشعراوي والحدود
على عكس بعض المشككين في حد الردة، أيَّد الشعراوي قتل المرتد، وفسَّر ذلك بأنه تشديد على أن من يدخل الإسلام يجب أن يفعل ذلك وهو يعرف أنه لا يحق له التراجع، فلا يدخله إلا من كان متأكدًا من إيمانه وبقائه في الدين، وأكد أن هذا ليس ضد الحرية الشخصية، لأن الإسلام لا يجبرك على اعتناقه إلا وأنت مقتنع به، لكن ماذا عمَّن وُلدوا مسلمين؟
قد يهمك أيضًا: بين الإعدام الجسدي والمعنوي: عواقب الإلحاد في القوانين العربية
أسطورة الوسطية
يتضح من خلال ما سبق أن مفهوم الوسطية له وجوه متعددة، لكن كيف لمن لا يتعايش مع المذاهب والأديان، ولا يرى في المرأة مكونًا أساسيًّا مساويًا للرجل في المجتمع، ويرى في العنف أداةً مهيبةً لإخضاع الناس للدين، أن يكون وسطيًّا؟
في تفسيره لمعنى الدين الوسط، يقول الشعراوي إن اليهودية بالغت في المادية والمسيحية بالغت في الروحانية، فجاء الإسلام وسطًا بينهما جامعًا بين الاثنين، لكن لم يذكر الشعراوي أيًّا من التفسيرات التي نتداولها اليوم لمعاني الوسطية في الإسلام، والتي تشمله هو شخصيًّا كنموذج لها.
اقرأ أيضًا: تجديد الخطاب الديني؟ لا، جُدِّد قبل 200 عام بدعم غربي
يبقى السؤال هنا: هل ما استعرضناه من آراء للشعراوي دليل على تشدده؟ هل تؤكد تلك الآراء أنه لم يكن وسطيًّا كما يُطلق عليه؟
يعود هذا إلى القناعة الشخصية لكل فرد، إلا أن النتيجة التي يأخذنا إليها هذا العرض هي أن المشكلة تكمن في مفهوم الوسطية نفسه، الذي يعتبر حتى الآن مفهومًا غير واضح ولا محدد، فإذا كان التشدد والغُلُوُّ في الدين، بحسب الإمام ابن باز، هو الزيادة على ما شرَّع الله، إذًا فأنت إما أن تكون متبعًا لتعاليم هذا الدين أو غير متبع لها، أما الوقوف في الوسط فهو غير مفهوم.
شيخة البهاويد