كورونا في الكويت: حكايات من الحجر الصحي
أُصيبت بإنفلونزا عادية، ودخلت إلى مقر عملها في المجمع النفطي، ولأن بعض زملاء العمل عرفوا بعودة عائلتها من إيران، دب الهلع في الجميع. سقطت الفتاة مغشيًا عليها من الخوف وتعب المرض، وإذ بالموظفين يجرون إلى الخارج، ويأمر أحد الإداريين بإخلاء المبنى وتعقيمه وتحويل الموظفة للفحص الطبي خوفًا من حملها لفيروس كورونا. تبين لاحقًا أنها كانت فعلًا مجرد إنفلونزا، وما هذا الهلع الذي أصاب الجميع إلا جزء من حالة عامة يعيشها الكويتيون.
إذا كان هذا حال كثير من الأصحاء الذين يعيشون في منازلهم بهدوء ويتجولون في الشوارع بأريحية، فما حال من هم داخل الحجر الصحي؟
الحجر في فندق الكوت: «مجرد نزلة برد»
«كنا مرعوبين في البداية، الحماية العسكرية كانت كبيرة، حاملين أسلحة نراها لأول مرة، شعر بعضنا وكأنه قد اقترف جريمة ما، لكن الأغلب هدأ بعد ذلك».
هذا ما قالته «أم علي» لـ«منشور» عن اللحظات الأولى لوصولها إلى الكويت. السيدة الموضوعة تحت الحجر الصحي في فندق الكوت حاليًا كانت تحدثني بأريحية كاملة، تطمئنني بأن كل شيء في الداخل على ما يرام، حتى أنها تفقد الإحساس أحيانًا بأنها داخل حجر صحي.
فمع وصول القادمين من إيران إلى الكويت، بدأت وزارة الصحة إيداعهم الحجر الصحي حتى تبين أعراض فيروس كورونا من عدمه عليهم، لذا تحدثنا إلى الدكتور عبد الله السند المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة حول اختيار الفنادق والمتنزهات للحجر الصحي عوضًا عن الملاجئ مثلًا. يقول: «نحتاج لوضع كل عائلة بشكل منفصل عن الأخرى حتى لا تنتشر العدوى، وهذا ما توفره الفنادق والمتنزهات التي اختيرت، بالإضافة إلى العدد الكبير من المحجور عليهم».
أم علي قادمة من إيران، إذ كانت في زيارة إلى مدينة قُم، أجلتها ومن معها السفارة الكويتية هناك واضطروا للسفر من قُم إلى طهران للعودة إلى الكويت. «كان يومًا متعبًا»، هكذا تقول.
تقضي أم علي وقتها في الحجر في متابعة الأخبار والتواصل مع ذويها، وتقول: «لسنا مصابين، هذه مجرد إجراءات احترازية، سنخرج قريبًا»، لكن المفاجأة أنها أخبرتني بإصابة أخيها، فبعد فحص عينات أنفية من الجميع، جاء الأطباء بعد ثلاثة أيام لإخراج من كانت نتيجة عيناتهم إيجابية، ورحلوا بهم إلى المستشفى.
مثير للاهتمام حديثها عن أخيها وكأنه أمر بسيط، ثم عودتها بعدها للحديث عن جودة التعامل في الحجر الصحي ووجود خدمات كافية هناك. استوقفتها، فإصابة أخيها بالفيروس ليس أمرًا عاديًا، لكنه عادي بالنسبة لها، تقول: «إنهم مخطئون بالتأكيد، لديه إنفلونزا موسمية منذ فترة لا أكثر، سيكتشفون ذلك بعد أيام».
لا أدري إن كان هذا أحد ميكانيزيمات الدفاع النفسي التي تستخدمها أم علي لإزالة أي شكل من الخوف عن نفسها، لكني تحدثت إلى أخيها المصاب «أبو محمد».
أبو محمد رجل تجاوز السبعين، يعاني من مرض القلب، يسكن الآن في غرفة عزل بمستشفى جابر الأحمد الذي خصص لعزل المصابين بفيروس كورونا، كان الحديث معه مقتضبًا جدًا، اكتفى بطمأنتي بأن الأمور تجري على ما يرام، وأن هناك رعاية صحية جيدة يتلقاها. بدا لي أنه لا يود التعرف إلى مشاعره ناهيك بالحديث عنها. تقول لي أم علي: «فور علمه بإصابته تحدث إلى ابن أخيه على الهاتف وبكى، إنه حساس لا أكثر، لا شيء مرعب، إنها مجرد نزلة برد».
بعد يومين من محادثتي مع أم علي، اتصلت بها للاطمئنان عليها، أبلغتني أن النتائج قد أظهرت إصابة أختها بالفيروس، استخدمت لفظ «أخذوها»، متحدثة بنبرة مصدومة وكأنها للتو تكتشف حقيقة ما يحصل.
الحجر في الخيران: «الفيروس شي عجيب وطبعه ما حصل»
جعفر دشتي، مخرج كويتي سافر مع والدته وأخته لإيران، وعاد على الحجر الصحي في متنزه الخيران الذي خصصته الدولة بعد امتلاء فندق الكوت.
«خذوه فغلوه»، هكذا عبّر جعفر عن التعامل مع من في الحجر الصحي، إذ لم يُشرح لهم ما الذي يحدث أو يجب أن يحدث أو سيحدث، كل ما يعرفونه يأتي من الأخبار خارج الحجر.
يقول لـ «منشور» إن المكان جيد، واختيار المتنزه سليم في رأيه لرفع الضغط النفسي، فوالدته الكبيرة بالسن لم تشعر بأي قلق بسبب تعامل أبنائها معها على أنهم في نزهة، إلا أن الجميع يختلط بالجميع، لا يمكن الجزم من المصاب ومن ليس كذلك قبل أن تصدر نتائج الفحص، وهذا الاختلاط قد يؤدي إلى انتشار العدوى على حد قوله.
غالبية المصابين والمحجور عليهم قادمين من إيران، غالبيتهم من الطائفة الشيعية التي سافرت لزيارة المراقد المقدسة لدى الطائفة في المدن الإيرانية، لذلك هناك تفاصيل يحكيها جعفر ربما لم تخطر على بال المنسقين لسوء الحظ، يقول: «نتخلص من كثير من الدجاج واللحوم التي يقدمونها لنا، في معتقدنا لا نتناول أطعمة من بعض الشركات التي لا تلتزم بطرق الذبح الإسلامي، وقد أبلغنا المشرفين بذلك للتعامل مع الموضوع».
يقلق دشتي، لكونه مخرجًا ومُحكمًا في مهرجانات فنية دولية، من أنه لن يتمكن من السفر لأداء عمله، والكثير من الأعمال والفرص ستفوته، لكنه يتفهم أن الحجر في مصلحته أولًا ومصلحة الآخرين ممن يختلطون به.
خلال الحديث معه، شعرت بشكل حقيقي أنه يتفهم ما يجري بشكل جيد على عكس بعض من هلعوا وغضبوا ورفضوا الحجر الصحي.
ورغم الملاحظات السلبية التي يراها، فإنه يتفهم أيضًا قلة الخبرة وأنها المرة الأولى التي يواجه فيها العاملون بالقطاع الصحي والأمني هذا النوع من الأزمات. أخبرني أن طريقة توزيع الأماكن كانت عشوائية بعض الشيء حسب قائمة الأسماء الموجودة لدى العاملين: «حصل كثير من المشاكل في تنسيق الغرف والشاليهات، فبعد توزيع الأسماء اكتشفت بعض الفتيات أنهن سيقطن مع رجال غرباء عنهن، وهو ما جرى تغييره لاحقًا، وآخرون رفضوا السكن مع من لا يعرفون خوفًا من أن يكونوا حاملين للفيروس. أخطاء كثيرة في التنسيق أتعبت كبار السن، لكن هذا مفهوم جدًا، خصوصًا أن المنسقين موظفون في وزارة الصحة وليسوا عاملي فنادق».
الحجر المنزلي: «لسنا الوحيدين لكننا الأفضل»
«لأسباب سياسية متعلقة بتحالف إيران والصين، تنشر إيران المذهب الشيعي لدى حليفتها عبر مشايخ صينيين تعلموا في حوزاتها. وعند انتشار المرض هناك، انتقل شيوخ المذهب الشيعي في الصين إلى إيران هربًا من المرض، لكنهم كانوا مصابين به كما يبدو، ومن هنا وصل الفيروس لإيران، لذا فالحكومة الإيرانية تتحمل الأمر كاملًا»، هكذا يحلل حبيب حسين، القادم من مدينة مشهد الإيرانية مع أول دفعة أُجليت من هناك.
«الحياة كانت طبيعية جدًا هناك، الشوارع كما هي، لا تشاهد أحدًا يرتدي الكمامات، والإعلام ينقل أخبار الانتخابات الإيرانية، نذهب للمطاعم ونتنزه ونختلط بالكل، لم نعرف أن شيئًا يحصل، وفجأة أُبلغنا بأن علينا العودة وأن الوضع خطر»، هكذا يقول حبيب مضيفًا: «أهملت إيران صحة المجتمع والسياح، لكني أظن أنه كان على شركات الاتصالات واجب مجتمعي لم تؤده، كان يجب أن تبعث لنا برسائل تحذيرية للابتعاد عن التجمعات وكيفية الوقاية من المرض بالتعاون مع وزارة الصحة الكويتية، إلا أن شيئًا من هذا لم يحصل».
وصل حبيب وزوجته وبقية المسافرين إلى الكويت كأول دفعة، واصطحبتهم حراسة من الداخلية من المطار إلى مستشفى جابر الأحمد حيث تجرى الفحوصات، وهناك وجدوا كثيرا من القلق والانزعاج والارتباك من الطاقم الطبي كما يصفه مع أول دفعة تصل، إذ كانوا متعبين من انتظار وصول المسافرين منذ اليوم السابق والتجهيز لقدومهم، بالإضافة إلى كثير من المشادات مع الواصلين.
«معظم الطاقم الطبي كان من غير الكويتيين، مما ساعد بعضنا على التمادي معهم وأضعف قدرة الطاقم على السيطرة. وقبل أن تظهر نتائج الفحص، أبلغونا بالعودة إلى منازلنا مع وعد بالتواصل معنا في اليوم التالي، وأرى في هذا سقطة خطيرة، إذ أن النتائج لم تكن قد ظهرت بعد ولا يُعرف المصاب منا من غير المصاب. سنعود إلى أهالينا ونختلط بهم، كان هذا خطأ».
عاد المسافرون إلى منازلهم ومنهم حبيب، الذي أخبرني بأنه لم يُسلم على أبنائه خشية أن يكون مصابًا: «لا نعرف كيفية الوقاية لكننا نجتهد، ولست واثقًا من إن كان وجودي في المنزل آمنًا، لقد وصلت منذ 10 أيام فقط ولا زالت الأعراض لم تظهر، لكني أتطهر بالديتول، وطلبت من العاملة المنزلية أن ترتدي القفازات طوال الوقت حتى لا تصل لها العدوى إن وجدت».
يتعامل حبيب حسين مع الحجر المنزلي بمسؤولية، يحاول جاهدًا عدم الاختلاط بأحد، وخلال زيارته للمستشفى بخصوص عملية جراحية يجريها، أبلغهم بوصوله من إيران ليأخذوا الاحتياطات اللازمة، وبعض أقاربه يتجنبون زيارة منزله خشية الإصابة بالعدوى، ويتفهم هو ذلك بشكل جيد.
«الكويتيون يأخذون الأمر باستخفاف ولديهم صعوبة في الانصياع للأوامر، علينا أن نتحلى بالمسؤولية، فقريبي الذي وصل بعدي من إيران أيضًا ووضع في الحجر المنزلي كان يخرج للتنزه وتناول الطعام في الخارج، وهو أمر لا يتسم بالحذر».
يقلق حبيب من الوضع العام في الكويت، ويشاركه ذلك حسين المطوع القادم من إيطاليا، والذي وصل من مدينة ميلانو إلى الكويت حيث استُقبل بفحص الحرارة في المطار وطُلب منه العودة إلى المنزل، وأعطاه بعض العاملين بطاقة عليها أرقام هواتف للاتصال في حالة ظهور أي أعراض.
يوضح المطوع: «اتصلت بالأرقام ولم أتلق أي رد، بالإضافة إلى أن طاقم مستوصف المنطقة ليس مختصًا ولا عارفًا بما يفترض به أن يفعل».
أُرسل حسين إلى الحجر المنزلي وكذلك بقية القادمين من إيطاليا، لأن الكويت لم تعلن إيطاليا بلدًا موبوءًا، وهذا ما يعترض عليه حسين باعتبار ميلانو مدينة مليئة بالمهرجانات في هذا الوقت من العام والمصابين في تزايد.
راعى المطوع عدم الالتقاء بأطفاله وأقاربه، ورغم أنه يقطن في بيت العائلة فإن وجود شقة خاصة به هناك أمن له العزلة المطلوبة: «أطفالي يسكنون في الطابق السفلي مع عائلتي، ولا يفهمون لماذا لا يمكنهم رؤيتي، لكني أتواصل معهم عبر الفيديو طوال الوقت لطمأنتهم، ويرسلون لي بعض الحاجيات عبر المصعد مع حرص والدتي على تعقيمه».
إجراءات واستعدادات
اتخذت وزارة الصحة بعض الإجراءات والاستعدادات منذ الإعلان عن المرض في 31 ديسمبر 2019، ووفقا ليوسف بهبهاني طبيب الأمراض الباطنية والكلى في مستشفى مبارك، فإنها تنقسم الى ثلاثة جوانب: أولها الإرشادات الموجهة للعامة، وهذا الجانب نجحت فيه الوزارة بامتياز بحسب رأيه، بل يراها تفوقت على جميع الدول المحيطة، وتميزت بالشفافية وسرعة نقل المعلومة للمجتمع وطمأنته.
يضيف بهبهاني لـ«منشور» أن الجانب الآخر هو الإرشادات الموجهة للطاقم الطبي: «أعتقد أنه كان من الممكن عمل المزيد في هذا الجانب والنجاح فيه بشكل أكبر، رغم أن الوزارة أصدرت بروتوكولات ونفذت بعض التدريبات الوهمية لكيفية التعامل مع هذه الحالات وأوصت بتجهيز بعض المرافق، لكن هناك خللًا مزمنًا في نقل الرسائل والتعليمات من القيادات العليا إلى منفذي هذه التعليمات على الأرض. هناك الكثير من النقاط المضيئة في هذا الجانب من استعدادات الوزارة، لكن كان يمكن فعل المزيد، والدليل على ذلك أنه لو كان التدريب كاملًا لما احتجنا لاجتماعات طارئة واستنفار في كل مؤسسة صحية صبيحة الإعلان عن ظهور أول حالة في الكويت».
الجانب الأخير هو التدابير الصحية على مستوى الدولة: «وتشمل قرارات إيقاف الطيران وإغلاق المنافذ والعزل والحجر الصحي. وهذه خطوات استباقية ومشددة جدًا، ومنها القرار الجريء بايقاف الطيران من وإلى إيران، والذي فاجأ الجميع وفاجأني شخصيًا، وثبتت فائدته في أقل من 48 ساعة. وبالطبع هناك بعض الملاحظات على هذه الإجراءات، لكنها بشكل عام كانت مستبقة للأحداث، وحازمة وفعالة جدًا».
لا يحبذ بهبهاني ذكر هذه الملاحظات، إذ يرى أن الوقت غير مناسب للنقد الآن، بل للمساعدة واحتواء الهلع، وأن التشكيك في إجراءات وزارة الصحة في هذا الوقت قد يؤدي إلى زعزعة الثقة فيها، وهو في غير صالح الجميع.
حتى وإن وُجدت ملاحظات وانتقادات، يشترك الجميع في تمني مرور هذه الفترة دون خسائر ولا حكايات موجعة، لتبقى ذكرى تاريخية لا أكثر.
شيخة البهاويد