الدنيا أخذ وعطا: أن تكون «بايسكشوال» في مجتمع عربي
هذا الموضوع ضمن ملف «الهوية الجنسية»، لقراءة موضوعات أخرى في الملف اضغط هنا.
تنويه: بعض الأسماء الواردة في الموضوع ليست حقيقية، بل تم تغييرها بناءً على طلب أصحابها للحفاظ على خصوصياتهم.
«لستُ بايسكشوال، بل كوير».
يقولها سمير، الشاب المصري ذو الخمسة وعشرين عامًا، مقاطعًا إياي حتى قبل أن أُنهي سؤالي الأول في حضرته. و«الكوير» (Queer)، أو حُرُّ الجنس، هو مفهوم عام يشمل كل ما سوى الأشخاص «مغايري الجنس» (Heterosexual)، أو «الموافقين جنسهم» (Cisgender)، المولودين بهوية جنسية تماثل ما عليه أجسادهم.
كل رجل وُلد بأعضاء ذكرية وله ميول تنسجم مع أعضائه فهو «موافق جنسه»، سواءً كان ينجذب للذكور أو الإناث، وكذلك كل امرأة مولودة بأعضاء أنثى ولها ميول توافق جسدها، وهو ما يخالف المتحولين جنسيًّا (Transgender)؛ أولئك الذين يولدون بأعضاء ذكرية لكنهم يعرفون أنهم نساء، أو العكس، وبعضهم يخضع لعلاج وجراحة لتغيير شكله وأعضائه إلى ما يرى أنه جنسه الطبيعي. أما «مغاير الجنس» (Heterosexual) فهو الرجل المولود ذكرًا وينجذب جنسيًّا وعاطفيًّا إلى النساء حصرًا، والمرأة التي وُلدت أنثى وتنجذب إلى الرجال فقط.
تتعدد الهويَّات التي يشملها الكوير من الأقليات الجنسية؛ إذ يضم المثليين (Gay/Lesbian)، والمتحولين (Transgender)، والمزدوجين (Bisexual)، وثنائيي الجنس (Intersex)، وجامعيي الجنس (Pansexual)، واللاجنسيين (Asexual)، والكِنْكِيين (Kink).
الكوير مصطلح إنجليزي كان يُشار به في الماضي إلى الشخص أو الشيء الغريب غير المألوف، ثم صار يوجَّه كإهانة إلى كل المختلفين عن النمط الجنسي المسيطر (المغايرين)، تمامًا كما استعمل العرب لفظ «شاذ» قديمًا وحاليًا، لكن الكوير الغربيين اعتمدوه معبرًا عنهم، رغم ما فيه من احتقار؛ فانقلب من كلمة مسيئة إلى أخرى مستخدَمة بصورة طبيعية، حتى أضحى أداة فخر لكل من ينتمون إلى مجتمع الأقليات الجنسية (+LGBTQ).
شيماء
تقول شيماء، الفتاة الكويتية التي تبلغ ستة وعشرين ربيعًا، إنها تعتبر نفسها محظوظة؛ إذ لم يخن ثقتها أيٌّ ممن اختارتهم من أصدقائها لتخبرهم بأنها مزدوجة الميول الجنسية «بايسكشوال» (Bisexual).
يميل المزدوجون إلى كلا الجنسين، إذ يشتهون الرجال والنساء جنسيًّا وعاطفيًّا، لكن بعضهم قد يميل إلى جنس أكثر من الآخر بصور متفاوتة، سواء في الجنس أو العاطفة؛ وهو ما يجعل الاحتمالات لانهائية.
بدأت شيماء حديثها مع «منشور» بتأكيد أن أبويها لا يعرفان، لن يفهما، لن يتقبلا، لن يسمحا، سيعتقدان أنه مرض، شذوذ، انحراف عن الفِطرة، شأنهما شأن معظم العرب.
«لا إخوة لي، ويحبني والداي حبًّا جَمًّا، لا أريد أن أصدمهما».
لا تعرف شيماء بالتحديد متى اختبرت ميولًا ناحية النساء كما الرجال، لكنها بدت واثقة وهي تخبرني أنها حين بلغت خمسة عشر عامًا كانت قد تأكدت من ذلك، ورغم هذا، لم تدرك حينها هل تنجذب إلى الفتيات صبابةً، عشقًا، أم أن ما يحركها غريزة جنسية فحسب.
«كنت أشاهد الأفلام الإباحية بكثرة، وأنجذب إلى تلك التي تدور بين مغايرين أو مثليين سواءً بسواء».
كانت فترة في حياتها أمواجها شديدة التلاطُم. لم تفهم ما هي بالضبط؛ أرجلٌ أم امرأة؟ إلى أي جنس تنتمي؟ أعضاؤها أنثوية لكنها تشتهي الجنسين، فكيف؟ كانت غريبة في مجتمع شديد التحفُّظ، أحست بالانعزال، تعاظمت وحدتها وتضخَّم شعورها بالذنب، أضحت تبكي كثيرًا، فكرت أن هذا قد يكون عقابًا من الله، فصارت تتوب في اليوم عشرات المرات وتستغفر.
«فطنتُ إلى أنه لا مفرَّ إلا أن أجرب بنفسي وأحكِّم عقلي، وهكذا فعلت».
كانت قد قرأت كثيرًا على الإنترنت، ففهمت طبيعة ما تشعر به وعرفت أبعاده، لكن التجربة تختلف، وفي الجامعة كانت تجربتها الأولى في ممارسة الجنس مع امرأة. وجدت نفسها دون أن تدري منجذبة إلى إحدى زميلاتها، وبناءً على قرارها صارحتها، والفتاة كانت مثلية ووافقت.
عندما كان سنُّه ثلاثة عشر عامًا، بدأ شكلُ أجسام الرجال يلفت نظر سمير، جنبًا إلى جنب مع أجسام النساء.
«لم تكن علاقة عاطفية بالمعنى المألوف؛ بل إشباعًا لرغباتنا الجنسية فقط. يطلق الغربيون عليها صداقة بمنافع (Friendship With Benefits)، بلا قيود أو شروط، لم تكن إحدانا تعشق الأخرى».
وقتها، ومع مزيد من التجارب، تأكدت شيماء من أنها تنجذب إلى النساء جنسيًّا فقط، وليس عاطفيًّا أيضًا كما تنشدُّ للرجال. صارت تدخل علاقات جنسية مع الفتيات لكن بحذر، علاقات أساسها الثقة المتبادلة، لا بد أن تكون طرفها صديقة مقربة تعرفها طويلًا، وليس «فتاة من الشارع»، بحسب ما تقول.
قد يعجبك أيضًا: المثلية المسكوت عنها في الخليج
سمير
عندما كان سنُّه ثلاثة عشر عامًا، بدأ شكلُ أجسام الرجال يلفت نظر سمير، جنبًا إلى جنب مع أجسام النساء. أحبَّ تكوين وتقسيم العضلات كما أحبَّ الأثداء والأرداف. في المرحلة نفسها تقريبًا أخذ يهتم بشكله، صار يحب أن يكون دومًا جميلًا أنيقًا، ويحب أن يكون المقربون منه كذلك، بحسب تأكيده لـ«منشور».
في بداية المرحلة الثانوية كان يشاهد فيلمًا إباحيًّا لا نساء فيه؛ فقط رجلان، حين دخلت والدته الغرفة فجأة. صُدمت الأم، لكنها تصرفت بطريقة أخَّاذة، لم تعنِّفه، حاولت احتواءه، قالت إن ما يحدث «مرحلة يمر بها البشر أجمعين»، وإن اثنتين من صديقاتها اشتكتا لها من ميل ابنتيهما للجنس ذاته.
«كانت لطيفة للغاية، وأنا أنكرت تعمُّدي مشاهدة هذا النوع من الإباحيات بالذات، ومرَّ الموقف بسلام».
أقام مع أسرته في دولة أوروبية خلال دراسته، لذلك كان الجنس متوفرًا بصورة طبيعية، ولم يشغل حيزًا كبيرًا من تفكيره. كانت السنة الأخيرة في المرحلة الثانوية، ونظمت المدرسة حفل تخرج للتلاميذ، حضره ضمن مجموعة من أصدقائه يلازمونه ويلازمهم منذ كان عمره عشرة أعوام. كانوا ثمانية أصحاب لا يفترقون؛ أربعة بنات وأربع أولاد، والحفلة استمرت حتى خارج المدرسة، وانتهت في منزل أحدهم، ليجد نفسه أخيرًا بين أحضان أقرب أصدقائه إليه.
«انتهى الحفل بثمانيتنا كل اثنين معًا، لكن التقسيم لم يكن ولدًا وبنتًا للغرفة الواحدة؛ بل كنت مع صديقي وكانت فتاتان في غرفة وحدهما».
كان يتحسس خطواته ويستند إلى جدران ملساء لسبيل لم يمشِ فيه قبلًا، كان بحاجة إلى مزيد من المعرفة.
قبل أن يحدث ما حدث، كانت علاقته بأعضاء المجموعة كلهم جيدة جدًّا. كانوا أصدقاء مقربين في مرحلة استكشاف الحياة وأنفسهم، أولاد وبنات في عمر المراهقة، ينخرط كل واحد منهم في علاقة عاطفية، أو أنه يحاول أن يفعل، وربما يساعده الآخرون كذلك.
«لم نكن سكرانين، فعلناها باختيارنا، كنا في كامل قوانا العقلية».
يأتي تأكيد سمير لينفي سلوكه ذاك الطريق تحت تأثير الكحول أو المخدرات. كان واعيًا بما فيه الكفاية ليقرر أنه يفعل ما يفعل، لكن بعدما انتهت الليلة بكل ما فيها اختار أن يبتعد قليلًا عن صديقه. كان يعرف خلال سنواته السابقة أن هذا سيقع لا محالة، لكن لم يعرف متى. احتاج للتفكير فيه بشكل أوضح، لم يُرِد أن ينزلق إلى طريق لا يعرفه، كان يتحسس خطواته ويستند إلى جدران ملساء لسبيل لم يمشِ فيه قبلًا. كان بحاجة إلى مزيد من المعرفة.
«كنت مرتبطًا بفتاة وقتها، وهذا سبب لي حرجًا كبيرًا مع نفسي. لم أفهم إن كان ما فعلته خيانة لها أم لا».
بدت الأمور مختلطة إلى حدٍّ كبير. شاب حَدَثٌ مرتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة ويحبها، وفي الوقت ذاته يحب صديقه ذاك وليس مستاءً من ممارسة الجنس معه. تجنَّب صاحبه طويلًا، وانشغل كلاهما بحاله وأخذهما الزمن في مساراته، حتى التقيا بعدها بسنوات في مصر.
«تعاملنا بصورة طبيعية؛ كصديقين مقرَّبين افترقا لفترة ثم تقابلا صدفة، وتعانقنا وتحدثنا طويلًا، لكن لم نذكر ما فعلناه وقتها».
قد يهمك أيضًا: عندما كانت المثلية واجبًا اجتماعيًّا
قبل ذلك، ومع تداخل كل الأشياء في عقله عقب ممارسة الجنس مع صديقه، اتجه إلى الإنترنت يبحث عما يدور في هرمونات جسده، وفي الوقت ذاته سأل بعض معارفه ممن يعلم أنهم مثليي الجنس.
إحدى صديقاته مثلية (Lesbian)، أكدت له فطريَّة انجذاب بعض الرجال والنساء إلى ذات الجنس، لكنه لم يملك قدرًا كافيًا من الشجاعة كي يبوح لها بما يعتمل في صدره. صديق آخر كان قريبًا إليه، جذب معه أطراف الكلام خلال إحدى جلساتهما، فاعترف له الآخر بأنه مثلي (Gay)، وهنا انهار السد.
«عرفت للمرة الأولى في حياتي أنني لست وحدي. كان شعور أني مختلف، أمارس شيئًا لا يفعله سواي، خانقًا للغاية، يضغط على صدري ويحبس نفسي ويكاد يميتني».
لا فارق بالنسبة لسمير بين الجنسين؛ عاطفيًّا وجنسيًّا. من وجهة نظره لا يرى رجلًا وامرأة؛ بل إنسانًا، تجذبه صفاته وشخصيته أولًا، لا أعضاؤه الجنسية. في حياته، التي استمرت لربع قرن، عاشر فتيانًا وفتيات، لكنه حين سألته لم يقدر على تحديد نسبة هؤلاء إلى أولئك.
استمرا معًا لعام ونصف، خاضا فيها علاقة عاطفية متكاملة الأركان، لم يكن قوامها الجنس، لكنه كان موجودًا.
«خرجت مؤخرًا من علاقة عاطفية جمعتني بفتاة، وقبلها كنت مرتبطًا بشاب، لكن نوع الجنس لا يشغلني بتلك الطريقة».
يحكي سمير أنه كان طَوَال عمره الأصغر ضمن الأوساط التي ينخرط فيها، الأمر الذي اضطره إلى سماع تعليقات سخيفة من زملائه في العمل. يصير الدفاع عن نفسه حين يقول له أحدهم «استرجل» أمرًا صعبًا. ورغم أن طريقته في التعامل ليست أنثوية، لكن يبدو أن شيئًا فيها كان يعطي انطباعًا بأنه يشتهي الرجال.
«أحد زملائي في الجامعة حاول التحرش بي، لم أتقبل ما فعل إطلاقًا، ومسحت بكرامته الأرض أمام الجميع».
تجربته الأولى في أوروبا ربما لم تكن مقنعة تمامًا بالنسبة إليه. كان قد تجاوز العشرين عامًا، وليس في جعبته رصيد سوى ما حدث في الثانوية. أحسَّ وقتها بانجذاب إلى أحد أصحابه الأقربين في مصر، كانوا أصدقاء منذ فترة لا بأس بها، ويبدو أن صديقه بادله الشعور نفسه.
«كنت أحبه، وشعرت بأني أريد أن أتقرب إليه أكثر، أعني بدنيًّا».
استمرا معًا لعام ونصف، خاضا فيها علاقة عاطفية متكاملة الأركان، لم يكن قوامها الجنس، لكنه كان موجودًا. صار كل منهما سكنًا للآخر حتى فَتَر الحب وغاض، وشغلتهما الدنيا فافترقا، لكنهما لا يزالان يحتفظان بأواصر تبقيهما على مسافة لا بأس بها من بعضهما.
يعرف معظم القريبين من سمير أنه كوير، أخوه الأكبر (32 عامًا) يعلم أيضًا، ويتقبل الأمر ببساطة، لكن أبويهما لا يعرفان. ليس الأمر أنه يخاف ألا يتقبلا؛ بل يؤكد أن هويته الجنسية ليست شيئًا من المفترض أن يشغل باله بها إلى هذه الدرجة، بمعنى أنه لا يتحدث إلى أبيه وأمه في الجنس بشكل عام، فأي داعٍ سيحشر هذا في الكلام؟
«لكن أحكي لحبيبتي أو حبيبي إذا ارتبطنا؛ لأن هذا سيكون من صميم علاقتنا معًا».
العرب متناقضون، وحتى في نظرتهم للمثليين من الرجال يصنِّفونهم فاعلين ومفعولًا بهم، ويرفعون الأوَّلين درجةً على الآخِرين.
يكره التأطير، لا يحب أن يوضَع ضمن فئة معينة، لا يحب أن يعرِّف نفسه بطريقة اخترعها غيره ووضعه فيها رغمًا عنه. يحكي سمير أنه تعرَّف على شاب كانت حركات جسده وتصرفاته أنثوية للغاية، لم يشك للحظة أنه مثلي، كانت كل الدلائل البصرية تشير إلى ذلك، لكن المظهر خدَّاع.
«اكتشفت أنه مغاير الجنس، رجل متزوج وله أطفال، يحب زوجته بشدة، والأدهى أنه يشمئز من ملامسة الرجال، فيصافحهم فقط عند السلام ولا يقبِّل».
لا يشعر سمير بفروق تُذكر بين ممارسة الجنس مع رجل أو امرأة، يؤكد أنه يستمتع بالقدر ذاته مع الجنسين، لا تصنع تغيرات الجسد اختلافًا في اللذة، يشتهي كليهما، يرغب في أجساد النساء أحيانًا، والرجال في أوقات أخرى، لكن ما يصنع الفارق هو الشخص ذاته لا جسده.
«أنا محظوظ؛ حبِّي للجنسين يجعل أمامي تنوعًا في الاختيار، لا أجدني محصورًا في الرجال أو النساء فقط».
منذ عاد إلى مصر فوجئ بأن الجنس، رغم تحريمه خارج إطار الزواج، يشغل مساحة ضخمة من تفكير الناس. اكتشف أن العرب بوجه عام يعقدون الأمور، وهذا يجعلهم يتعاملون مع المختلفين عنهم بطريقة سيئة.
الرجال على وجه الخصوص متناقضون، وحتى في نظرتهم للمثليين من الرجال يصنِّفونهم فاعلين ومفعولًا بهم، ويرفعون الأوَّلين درجةً على الآخِرين، في حين أنهم لا يرون مشكلة في المثليات من النساء، بل يفضل بعضهم مشاهدة الأفلام الإباحية التي لا يظهر فيها رجال.
«أعضاء ذكورية أقل، أعضاء أنثوية أكثر، هكذا تعمل عقولهم. أعتقد أن عليهم تقليل التفكير في الجنس كثيرًا».
في الخارج وصلوا إلى درجة من التسامح، ليست كبيرة لكنها أفضل بكثير مما لدينا، بحسب سمير. مثلًا؛ أحد زملائه في العمل عرف أنه كوير مصادفة عن طريق أحد أصدقائه، فحاول أن يبتزَّه ليحصل منه على مال. لم يقلق كثيرًا، اعتمد على أن أغلب العاملين معهما أوروبيين وأمريكان، فكتب منشورًا على المجموعة المخصصة للعمل على موقع «فيسبوك»، أقرَّ فيه بهويته واتهم الآخر بالابتزاز، فضحه.
«تعاطف معي كل الزملاء؛ لأن طريقة التفكير لديهم مختلفة. لو كانوا عربًا لانقلب معظمهم ضدي».
يحيى