مرايتي يا مرايتي: كيف تعرف عنك شركات الإنترنت أكثر ممَّا تعرفه عن نفسك؟
في أحد فروع سلسلة متاجر «تارغِت» بمدينة مينيابوليس الأمريكية، ظهر رجل غاضب يمسك مجموعة من الكوبونات أرسلها المتجر إلى ابنته المراهقة للدعاية لبعض المنتجات، كلها عن ملابس الرضَّع والأمهات واحتياجات الأسرة. قال الأب لمدير المتجر بحدة: «هل تشجعون ابنتي المراهِقة على ممارسة الرذيلة؟»، ورغم أن المدير اعتذر له عن هذا الخطأ، فإن ما لم يكن الأب يعرفه أن ابنته التي لا تزال طالبةً في المرحلة الثانوية كانت حاملًا بالفعل.
لم يلجأ قسم التسويق في متجر «تارغِت» إلى مشعوذ يمتلك بلورة مسحورة ليكشف حمل الفتاة الذي أخفته عن أقرب الناس إليها، لكن كل ما فعله القسم أن حلل عددًا ضخمًا من البيانات، كشف تغير التوجه الشرائي للفتاة مؤخرًا بعد أن بدأت الشهر الرابع من حملها، وهو ما يعتبر مثالًا بسيطًا لفوائد تقنيات تحليل ما يُعرف بـ«البيانات الضخمة»، أورده تقرير نشره موقع «سايكولوجي توداي» الأمريكي.
تتحول المرأة خلال إحدى مراحل حملها فجأةً من شراء الغسول المعطر إلى عديم الرائحة، لأنها تنفر عادةً في ذلك التوقيت من أي روائح قوية، ومن هنا تتبع محللو البيانات الشرائية للفتاة هذا التحول المفاجئ فى اختياراتها، وبدؤوا يرسلون إليها كوبونات دعائية للترويج لمستلزمات الولادة، وهو نفس ما يتكرر مع ملايين العملاء حول العالم.
ما هو تحليل البيانات الضخمة؟
تقدم البيانات الضخمة خدمات جليلة للعلماء ومديري الأعمال والمعلنين والأطباء والحكومات.
يطلق مصطلح تحليل البيانات الضخمة على مجموعة معقدة من عمليات المعالجة لكمية هائلة للغاية من البيانات التي لا يمكن معالجتها باستخدام أداة أو تقنية واحدة، إذ تشمل مراحل التجميع والتخزين والبحث والنقل وتحليل الصور والمعلومات.
تمتاز تلك العملية بأنها تنتج معلومات عن طريق تحليل مجموعة كبيرة من البيانات، تكشف معلومات مهمة حول التوجهات الشرائية للناس وتوقع انتشار الأمراض ومكافحة الجريمة، وغير ذلك من الاستخدامات.
قد يعجبك أيضًا: إدوارد سنودن: خصوصية الإنترنت التي حولت جاسوس أمريكا إلى لاجئ في روسيا
تنمو قواعد البيانات لدى العلماء بشكل متسارع، لأنه أصبح من الممكن جمعها بالعديد من الطرق السهلة والمتاحة، بدايةً من أجهزة الاستشعار المحمولة، وأجهزة الاستشعار عن بُعد الجوية، وبرامج السجلات، والكاميرات والميكروفونات بمختلف أشكالها وتخصصاتها، ممَّا يقدم خدمات جليلة للعلماء ومديري الأعمال والمعلنين والأطباء، بل والحكومات كذلك.
البيانات الضخمة تعرف متى تنخفض الأسعار
يُجري متجر «وول مارت» أكثر من مليون معالجة تجارية لبيانات حجمها 2560 تيرابايت كل ساعة.
تقدم تقنيات تحليل البيانات الضخمة رؤيةً عن مستقبل الحالة الاقتصادية، التي تُعدُّ أحد أكبر المجالات التي تهم قطاعات كبيرة من البشر في أي مكان في العالم، ومن أوضح الأمثلة على تلك الميزة ما أثبته الباحثون عام 2013، عندما تتبعوا حجم البحث عن كلمة «Debt» (دَيْن).
تنبَّأ الباحثون، عن طريق ربط نتائج البحث بعدد ضخم من مجموعات البيانات الأخرى، بانخفاض وشيك في أسعار أسهم البورصة، ونجحوا في إعداد رسم بياني يربط بدقة بين عدد مشاهدات صفحة «Debt» على موقع الموسوعة الحرة «ويكيبيديا» وانخفاض وارتفاع مؤشر «داو جونز»، وهو مؤشر لأكبر 30 شركة صناعية أمريكية في بورصة نيويورك.
تُجري كبرى المتاجر العالمية مثل «أمازون» و«وول مارت» عمليات معالجة البيانات الضخمة يوميًّا، وتستفيد ببيانات نحو 3.5 مليار مستخدم للإنترنت لتكوِّن قواعد بيانات عملاقة، ويكفي معرفة أن متجر «وول مارت» يُجري أكثر من مليون معالجة تجارية للبيانات كل ساعة، يستند فيها إلى قواعد بيانات يقدر حجمها بـ2560 تيرابايت، أي ما يعادل 167 ضعف حجم البيانات الموجودة في جميع كتب مكتبة الكونغرس الأمريكي.
البيانات الضخمة تخبرك بمن سيحكم العالم
التوجهات السياسية وشعبية المرشحين هي أحد أحدث تطبيقات تحليل البيانات الضخمة، إذ كشفت هذه التقنيات الأخطاء التي شابت استطلاعات الرأي قبل إعلان المرشح الفائز في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة.
ففي الوقت الذي صُدم فيه المتابعون من فوز مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب رغم تقدم مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون في الاستطلاعات، لم يمثل الأمر صدمةً بالنسبة للمتخصصين في مجال تحليل البيانات الضخمة، إذ كان فوز ترامب متوقعًا بالنسبة لهم بفضل تحليلهم نتائج البحث عن كلا المرشحين، وهي النتائج التي لم تخطئ في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأربعة الأخيرة أعوام 2004 و2008 و2012 و2016.
اقرأ أيضًا: سايكوميتريكس: علم النفس الرقمي الذي مكَّن ترامب من قيادة أمريكا
خدعة البيانات الزائفة
ألَّف خريج كلية الحقوق بجامعة هارفارد الأمريكية والمستشار الإداري، «تايلر فيجن»، كتابًا بعنوان «العلاقات الزائفة»، يشير فيه إلى أنه في كثير من الأحيان لا يعبِّر ارتباط مجموعتين من البيانات المختلفة عن وجود علاقة حقيقية بينهما، وساقَ عدة أمثلة على نظريته، منها وجود ارتباط بين:
- معدل استهلاك السمن النباتي ومعدل الطلاق في ولاية مين الأمريكية.
- معدل استهلاك الفرد للجبن وعدد من يموتون خلال نومهم.
- معدل الزواج في ولاية كنتاكي وعدد من يموتون غرقًا بعد السقوط من قوارب الصيد.
- مبيعات السيارات اليابانية ومعدل الانتحار باستخدام السيارات في الولايات المتحدة.
أثبتت دراسة حديثة وجود علاقة بين مبيعات السيارات اليابانية في أمريكا ومعدل الانتحار باستخدام السيارات.
في الوقت نفسه، يمتلئ تاريخ العلم بأمثلة على وجود روابط غريبة بين مجموعتين من البيانات، لم تُكتشف العلاقة بينهما في حينها ثم أثبتت التجارب والأبحاث صحتها فيما بعد، من بين هذه الأمثلة النقطة الرابعة المتعلقة بعدم وجود علاقة بين مبيعات السيارات اليابانية والانتحار بالسيارات في أمريكا.
يرى فيجن عدم منطقية العلاقة بين ارتفاع مبيعات السيارات اليابانية ونسبة الانتحار بالسيارات، رغم وجود رابط منطقي هو أن ارتفاع مبيعات السيارات اليابانية في السوق الأمريكية سيتبعه بالضرورة انكماش وخسائر لصناعة السيارات الأمريكية، ممَّا يعني تقليل فرص عمل الأمريكيين.
أثبتت دراسة حديثة نشرتها الدورية العلمية «American Journal of Preventive Medicine» أن سوء الأحوال الاقتصادية تصاحبه زيادة في معدلات الانتحار، إذ وقعت أكثر من 40 ألف حالة انتحار في أنحاء العالم خلال الفترة بين عامي 2006 و2007 بسبب البطالة، أضيف إليها أربعة آلاف حالة بسبب الركود الاقتصادي عام 2008.
بلورة غوغل السحرية
نستنتج من مثال العلاقة بين مبيعات السيارات اليابانية ومعدلات الانتحار في الولايات المتحدة أنه من الخطأ إغفال ما تقدمه لنا تقنيات تحليل البيانات الضخمة، حتى وإن كانت تبدو للوهلة الأولى غير منطقية، إذ إن مثل هذه العلاقات يمكنها إخبارنا بالكثير عن شكل مستقبلنا.
مثلًا، أظهر أحد التحليلات أن ثمة علاقة قوية بين إجمالي الناتج المحلي الأمريكي خلال الـ12 سنة الماضية والبحث في غوغل عن عبارات التهنئة بعيد الميلاد، فكلما زاد البحث عن كلمات التهنئة زاد إجمالي الناتج المحلي. وعلى الرغم من أننا قد نرى هذا الرابط عجيبًا، إلا أنه يمكنه إخبارنا بالكثير عن مستقبل الوضع الاقتصادي في أي بلد.
قد يهمك أيضًا: تعرَّف إلى دماغ «غوغل» والعقول التي تقف خلفه
في الوقت الذي يقلق فيه معظم الناس بشأن وضعهم المادي في السنوات القادمة ومستقبل أولادهم، يمكن لخبراء غوغل أن يستمتعوا بحياة أقل توترًا، لامتلاكهم تلك البلورة المسحورة المسماة «تحليل البيانات الضخمة»، التي تجعلهم يتفوقون على الخبراء الاقتصاديين في معرفة وإدراك توجهات الاقتصاد العالمي.
أيمن محمود