أهذا أنت: كيف نحقق أصالتنا الشخصية؟
غالبًا ما تُعرَّف الأصالة الشخصية بأن يكون المرء صادقًا مع ذاته والآخرين، إضافة إلى تمتع كلماته وسلوكه بمصداقية، وامتناعه عن التظاهر بما ليس فيه. يلجأ بعضهم في كثير من السياقات، لمقارنة الأصالة بالزيف، لتوضيح المقصود بها. لكن في غياب معايير واضحة للحكم على الأصالة، ومع التطور الحداثي، وظهور الطبيعة العابرة للحدود بشكل عام، أصبح الأمر أكثر تعقيدًا.
أن تكون نفسك
تعتمد أصالة الشخص على السياق المحيط اجتماعيًّا ودينيًّا وثقافيًّا، وهي عملية لا تنطوي فقط على معرفة الذات، ولكن الاعتراف بالتأثير المتبادل بين الأفراد.
يرتبط تعدد الألغاز التي تتعلق بمفهوم الأصالة، بعدد من القضايا الميتافيزيقية والمعرفية والأخلاقية. فمن ناحية، أن يكون المرء نفسه أمر لا مفر منه، بل ويبدو ذلك بديهيًّا. لكن من ناحية أخرى، نميل أحيانًا إلى القول إن بعض أفكار وقراراتنا وأفعالنا لا تكون خاصة بنا حقًّا، وبالتالي لا تُعبِّر بشكل حقيقي عن هوياتنا. هنا، لا تكون القضية ذات طبيعة ميتافيزيقية فحسب، بل تصبح كذلك مرتبطة بعلم النفس الأخلاقي والهوية.
يرتبط السعي إلى الأصالة جزئيًّا بتحقيق قدر من الاستقلالية والحرية، أو الرغبة في أن يكون الفرد المسؤول الأول عن مسار حياته. فالسعي نحو الأصالة الشخصية يوفر طريقة للتكيف مع العالم الخارجي، بل ويمكن اعتباره رد فعل على الزيف السائد في الثقافة والدين والسياسة والحياة اليومية.
ترتبط الرغبة في الأصالة كذلك باكتشاف «الحقيقة»، والسعي نحو شعور الإشباع في الحياة، وجعلها أكثر معنى وفَهمًا. بشكل عام، يمكن أن تكون حالة الزيف مصدرًا للتنافر العميق، ما يدفع بعضهم إلى محاولة أن يصبحوا أكثر أصالة، ليحققوا التناغم والانسجام بين حياتهم الداخلية والخارجية.
أن يصبح الشخص أصيلًا مهمة فردية، تختلف باختلاف رؤيته لكيفية كونه إنسانًا في المقام الأول. وبالتالي، فإن ما هو أصيل يُحدَّد بناء على هذه الرؤية. إضافة إلى ذلك، فالأصالة الشخصية تعتمد بدرجة كبيرة على السياق المحيط اجتماعيًّا وسياسيًّا ودينيًّا وثقافيًّا، وهي عملية مستمرة، وليس حدثًا ينطوي فقط على معرفة الذات، ولكن أيضًا الاعتراف بالآخرين والتأثير المتبادل بين الأفراد.
فلسفة الأصالة
وفقًا لجان جاك روسو، ترجع الأصالة لفطرة الإنسان في حين أن ظهور حالة الزيف، يرجع إلى التأثيرات الخارجية، ما يؤدي حتمًا إلى تدمير الذات في النهاية.
لطالما كان مفهوم الأصالة مسعى عدد من الكتَّاب والفلاسفة على مر التاريخ، ابتداءً من اليونانيين القدماء، ومرورًا بفلاسفة عصر التنوير، وصولًا إلى الوجوديين والمُنظِّرين الاجتماعيين المعاصرين.
إذ نجد أن «جان جاك روسو» يؤكد في كثير من الأحيان، مثلما في روايته «جولي، أو إلواز الجديدة»، أن العائق الاجتماعي هو الذي يقف أمام تحقيق الأصالة (أو تحقيق الذات). بمعنى أن الأصالة الشخصية تتضاءل بسبب الحاجة إلى تقدير الآخرين، في مجتمعات تتسم بالتسلسل الهرمي وعدم المساواة والتفسخ.
وفقًا لروسو، فإن الأصالة ترجع إلى فطرة الإنسان (ما يُطلَق عليها الذات الطبيعية)، في حين أن غيابها، أو ظهور حالة الزيف، يرجع إلى التأثيرات الخارجية، ما يؤدي حتمًا إلى تدمير الذات في النهاية.
من الناحية الأخرى، يعتقد الفيلسوف الوجودي «مارتن هايدغر» أن الأصالة اختيار لطبيعة وجود الفرد وهويته. إذ يربط بين الأصالة والوعي بالفناء، ويرى أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا مفر منها. وبالتالي يمكن أن ينتج عن وعينا به حياة حقيقية. ويشير مشروعه المتعلق بتحقيق هوية الفرد، على الرغم من تأثره بالعوامل الخارجية، إلى وجود علاقة معقدة بين الأصالة والزيف. إذ ينبغي النظر إليها على أنها ليست مفاهيم حصرية، بل تكميلية ومترابطة. ويعتقد هايدغر أن الأصالة والزيف من الأشكال الأساسية للوجود في العالم، ولا يمكن فصلهما.
بينما يعتقد الفيلسوف «جان بول سارتر»، المنتمي كذلك إلى المدرسة الوجودية، أنه لا يوجد جوهر ثابت للذات، لكن لدينا إرادة حرة تتيح لنا تحديد حياتنا بناء على الخيارات المتاحة. ووفقًا لسارتر، فإن «الوجود يسبق الماهية». بمعنى آخر: الإنسان يأتي أولًا إلى الوجود، ثم يعرف نفسه باستمرار، بدلًا من أن يأتي إلى الوجود بطبيعته أو بجوهره الثابت.
لذلك يرى سارتر أن الأصالة تتطلب تحمُّل المسؤولية الكاملة عن حياتنا وخياراتنا وأفعالنا. وعليه، فإن القلق الناجم عن إدراكنا لحريتنا التي لا مفر منها، جزء لا يتجزأ من الحياة الحقيقية. ومع ذلك، ينبغي التأكيد على أن حرية الفرد مقيدة بالسياقات المحيطة به، كالطبيعة والمجتمع، إضافة إلى أن هناك قيودًا خاصة بالحرية ذاتها، وهو ما يطلق عليه سارتر «Facticity» (الوقائعيَّة).
على نفس الخط يدَّعي «ألبير كامو» أن وعينا بالعيش في عالم لا يهتم بنا، ولا يقدم لنا خلاصًا، يجبر الفرد على إدراك أن الطريق الوحيد للحرية هو تحقيق الذات الأصيلة. لكي تكون أصيلًا يجب أن تُدرك عقل العالم اللاأخلاقي والمفتقد للموضوعية، وأن يكون مسعاك هو خلق معنى للحياة من خلال التمرد على هذا العبث/الكون. وتنشأ مثل هذه الأصالة الشخصية من تجاهل لأي عزاء خارجي (غير موجود)، وهذا يعني ضمنيًّا أن الفرد موجود في منفى دائم، مغترب عن حياته الخاصة والمجتمع والكون. على الرغم من ذلك، ليس للعالم أي ميل محدد، سواء للخير أو للشر، فهو ما هو عليه. لا يمكن ربط أي أحكام قيمية به، حتى لو لم تكن الحياة منطقية من منظور إنساني.
تختلف هذه الآراء الفلسفية حول الأصالة الشخصية، لكنها تجتمع على أنها عملية ديناميكية لا نهاية لها في مجتمع وعالم متغيرين دائمًا، بدلًا من كونها حالة ثابتة، وأن الأصالة والزيف ليستا حالتين حصريتين، بل مفهومان معتمدان على بعضهما.
قد يهمك أيضًا: انتبه، فربما تفقد ذاتك لو لم تفعل
عقبات في طريق الأصالة
تتضمن الأصالة الشخصية المبادئ والمُثُل التي يعاد تقييمها باستمرار من خلال التأمل والتفاعل، فمن الذي له الحق في الحكم على أصالة شخص آخر؟
بناء على ما سبق، فإن مفهوم الأصالة بناء بشري يستلزم وجود العقل لإدراكه. لكن هل هي حالة ممكنة التحقيق، أو حتى بالضرورة مرغوبة؟ إن ابتعدنا عن الحدية في التفكير، أي الجزم بالإيجاب أو النفي، يمكننا أن نرى عددًا من المعوقات لمفهوم الأصالة كحالة مطلقة، بل يمكننا أيضًا أن نرى عددًا من المفارقات المتعلقة بفهمنا له.
على سبيل المثال، نجد أن فكرة الطبيعة المنفلتة لحالة الأصالة في حد ذاتها، أو لأنه من المستحيل الحفاظ عليها إلى أجل غير مسمى، عائق أمام تحقيقها. فهي في ذلك تشبه الهوية، لا يمكن تحديدها أو قياسها بشكل كافٍ. إذ إن عددًا من خصائص الفرد تكون في حالة تغيُّر مستمر، دون نقاط مرجعية ثابتة.
فيمكن أن تتعايش في شخص واحد هويات متعددة، بحسب الأدوار التي يؤديها في المجتمع، بما في ذلك الهويات الشخصية والمهنية والثقافية والعرقية والوطنية والسياسية والدينية، إضافة إلى تعقيد ديناميكية تغيرات الهوية وصعوبة توقعها، كتغيرات المجتمع والاقتصاد والسياسة. وهي العوامل التي تجعل أي محاولة حاسمة لاكتشاف الهوية الشخصية تحديًا صعبًا، وبخاصة أن أي محاولة لتحليلها غالبًا ما تكون مبسطة بشكل مختزل، إذ يتم نتغاضى فيها عن الترابط المعقَّد لعناصرها المختلفة.
لذلك، فإن تحقيق قدر من الأصالة الشخصية مشروع قد يدوم مدى الحياة، وقد يتعذر إنجازه. تتضمن الأصالة الشخصية المبادئ والمُثُل التي يعاد تقييمها باستمرار من خلال التأمل الذاتي والتفاعل الاجتماعي، فمن الذي له الحق في الحكم على أصالة شخص آخر؟ بل يبقى السؤال الأساسي: كيف يمكننا التمييز بين الأصالة الحقيقية ومجرد إدعائها؟
قد يعجبك أيضًا: كيف نكبر وتكبر هُوياتنا معنا؟
مفارقات الأصالة
ليس باستطاعة المرء أن يكتشف قدرًا من الأصالة الشخصية، إلا عن طريق غمر نفسه في العالم الخارجي. إذ تتحقق الأصالة من خلال التواصل بشكل مباشر مع العالم. إضافة إلى ذلك، بما أن حياة البشر تعمل بشكل دائم مع حالات عدم اليقين، فلا يمكن اكتشاف الأصالة إلا من خلال الوجود في مثل تلك الحالة. وبالتالي، فإن هناك تناقضًا آخر مفاده أنه لا يمكن تحقيق الأصالة إلا من خلال الانغماس في عدم اليقين الذي بطبيعته يعوق اكتشاف حقيقة الذات، ما يحبط بدوره مسعى تحقيق المعرفة الحقيقية.
إن أي اكتشاف موضوعي للذات ممكن فقط في عدم وجود تصورات مسبقة وتحيزات. وهو بالطبع أمر مستحيل، فجميعنا لدينا تصورات مسبقة وتحيزات. لذلك يصعب على أي تأمل ذاتي، مهما يكن طويلًا ومفصلًا، أن يكشف عن هوية الشخص الحقيقية بالكامل.
إضافة إلى اعتماد التواصل الحقيقي على قدرة الأفراد على التعرُّف إلى ما هو حقيقي بالنسبة إليهم، إذ يعتمد الأمر أيضًا بدرجة كبيرة على مدى ملاءمة اللغة للتعبير عن أفكارهم. وبالتالي، فإن قيود اللغة والتفسير والتعبير تعوق علاقاتهم الحقيقية مع بعضهم. ففي أثناء عمليات التواصل، لا يكون من الواضح دائمًا إذا كانت أصالة تلك التفاعلات ناتجة عن الظروف، أو اللغة، أو الموضوع، أو المشاركين وتصوراتهم وتفسيراتهم.
إذا كانت الحياة فنًّا، فيمكن للمرء أن يقترب من الكمال دون الوصول إليه، كما هو الحال في أي شكل من أشكال الفن. أما بالنسبة إلى الأصالة الشخصية، فبعضنا لا يأبه بها، وبعضهم يكتشفها في أفعال معينة، بينما يسعى آخرون إلى الاقتراب منها، ولكن القليل منهم يصل.
مي أشرف