الدوخة: كيف يفتح الوعي بوابة الرعب؟

مريم الشريف
نشر في 2017/01/17

لوحة الصرخة الشهيرة للفنان النرويجي إدفارت مونك (Edvard Munch) - الصورة: Wikimedia

تعرضت فتاتان لصعوبات عديدة تعوق استمرار حياتيهما، بالقدر نفسه تقريبًا. قالت الأولى ليتني أغادر الديار، فأصيبت الثانية بدهشة واتسعت حدقتا عينيها وتساءلت: لكن لماذا؟

الفتاة الثانية ليست مشكلتها في المغادرة؛ إنما أنها لا تكاد تشعر بأي شيء غير طبيعي يحدث لصديقتها، وكل ما يجري عادي ولا يستحق التفكير الزائد، ما تسبب في دوخة للأولى.

تنام وتأكل ثم تأكل وتنام، حتى سقف غرفتك بات يضيق بكثرة التحديق فيه، وأنت تشعر كأنك تتآكل ببطء من الداخل.

أحد أصعب الأحاسيس التي تداهمك هو عند الشعور بالقهر والبؤس لمَّا تكون واعيًا ومُدركًا تمامًا لما يجري حولك، فيما لا يشعر به سواك. إنه شعور بالغربة وعدم الانتماء والإهانة، وأنك عاجز وغير مستقل، بينما يجري الأمر ذاته لغيرك، لكنه لا يشعر بشيء.

مصيرك يتقرر وراء الباب

مصيرك يتقرر هناك بالضبط، وراء الباب الصامت - الصورة: Eric Magnuson

الدكتور حليم بركات، عالم الاجتماع والروائي السوري، يقول في كتابه «الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الإنسان بين الحلم والواقع»، إن «وعي الإنسان بوضعه الهامشي في المجتمع، وإحساسه بعدم الرضا، وسعيه للهرب عند أول فرصة تحرر من مشاعر القلق والغضب والخوف، والنفور من كل شيء، كل ذلك يحصل نتيجة الظلم الذي تعرض له في حياته اليومية، وربما يكون هذا أسوأ أنوع الاغتراب».

اقرأ أيضًا: لماذا نزداد قلقًا يومًا بعد يوم؟

تستلقي على الأريكة كعادتك تفكر فيما يجول في خاطرك، تتحدث مع نفسك بوَجَل، أو مع رفيقك بصوت خفيض أو بالرموز والطلاسم، تلتفت يمنة ويسرة خشية أن يخترق صوتكما الجدران. هذا الخوف يجعلك تنهي الحديث ثم تعود إلى قوقعتك أملًا في الخلاص من الواقع، لكن أين السبيل؟

تنام وتأكل ثم تأكل وتنام، حتى سقف غرفتك بات يضيق بكثرة التحديق فيه، وأنت تشعر كأنك تتآكل ببطء من الداخل، فلستَ مُخيرًا بل مُحيَّر ومُسيَّر في قرارات حياتك المصيرية، وفي حالة ضياع تام.

يومًا بعد يوم وعامًا تلو الآخر، لا شيء يتغير، لا شيء يتقدم سوى العمر، العالم من حولك يسير نحو الانحطاط، والمشاكل والمصائب لا تُحَل إنما تكبر معك وتتناسل، الأحداث هي نفسها، نعيد الكلام ذاته دون أن نشعر لكن بأسلوب آخر، العبارات والشعارات ونشرات الأخبار تتكرر، حتى دائرة حياتك اليومية الضيقة تجد صعوبة في تخطيها، تدور حول نفسك، أو كما يقول غسان كنفاني: «أنت نفسك حبسٌ».

أبو الوجودية، الفيلسوف الدنماركي «سورين كيركغارد» (Søren Kierkegaard)، يسأل نفسه وقد سمى الواقع بالمغامرة الكبرى: «ما الشيء الذي يسمى العالم؟ من الذي ضللني وتركني هنا؟ كيف بدأت أهتم بهذه المغامرة الكبرى التي يسمونها الواقع؟ الإنسان الذي يوزع وقته بين النوم والحلم، الذي يرى الحياة فارغة وبلا معنى ولا يشعر أنه سيِّد حياته، الذي لا يجد فائدة من الصراخ في وجه العالم، والذي يرى أنه سيندم مهما فعل؛ إذا تزوج فسيندم وإذا لم يتزوج فسيندم أيضًا، اضحك على مهازل العالم أو ابكِ عليها؛ فستندم في الحالتين».

بينما الكاتب والشاعر البريطاني «إبراهام كاولي» (Abraham Cowley) يرى أن الرجل العاقل الشريف حتى لو «استطاع أن يمضي سالمًا في سبيل الحياة؛ سيلاقي ما يثير فيه الأسى والحزن والخجل والغضب والحقد والسخط وغيرها من الانفعالات، ما عدا الحسد؛ لأنه لن يجد في العالم ما هو جدير بأن يُحسد، وخير له أن يعتزل الناس حتى لا تصل إلى آذانه أنباء أفعال جنسه»، لكنه يؤكد صعوبة العزلة لأنها خروج من الواقع، فيقول: «ولكن أين المفر؟ أيفر إلى الصحراء؟».

في حين يقول الأديب الروسي «لونيد أندرييف» (Leonid Andreyev): «كنت أفهم نفسي وأعرفها، وكنت أتفكَّر بطبعي وخططي، وكنت، كما ظننت، سيِّدًا. أما الآن فقد رأيت أنني لست سيدًا، وإنما عبد تافه وعاجز. إنني سأفقد عقلي».

ويضيف أندريف: «تصور أنك كنت تعيش في بيت يتألف من غرف كثيرة، وكنت تشغل غرفة واحدة وتظن أنك تملك البيت كله، وفجأة تعرف أن هناك من يعيشون في غرف أخرى؛ نعم، يعيشون، تعيش كائنات غامضة، قد تكون بشرًا وقد تكون شيئًا آخر، والبيت ملكها، وأنت تريد أن تعرف من هي، إلا أن الباب مغلق وليس مسموعًا خلفه صوت واحد أو شيء، وفي الوقت نفسه أنت تعرف أن مصيرك يتقرر هناك بالضبط، وراء الباب الصامت».

ويرى الأديب الروسي أنه لا يمكن أن تتخلى عن الحقيقة بعد أن تعرفها، فكيف تصبح عديم الإحساس بعد أن تعي كل شيء، وتألف منظر الدم؟

لذلك، حتى إذا فررت إلى مكان هادئ وجميل فقد تحل نصف مشكلتك، ويبقى النصف الآخر عالقًا؛ وهو بؤس الآخرين وآلامهم؛ لأنك تشعر أنك جزء منهم، أنت جزء من هذا العالم. ويؤكد الدكتور حليم بركات ذلك، لأن «المعاناة الشخصية والمجتمعية واحدة، الانتصارات والهزائم، الآلام والأفراح واحدة لا تتجزأ؛ لأن قضية المجتمع هي قضية الإنسان، والعكس بالعكس، يصبح خلاص الأول هو خلاص الآخر، المعاناة واحدة».

«إنهم يستمتعون بوقتهم»

المحقق الصحفي الأمريكي «جيريمي سكاهيل» - الصورة: Chatham House

المحقق الصحفي الأمريكي «جيرمي سكاهيل» (Jeremy Scahill)، الذي ألَّف كتابًا يحمل اسم «حروب قذرة - ميدان المعركة: العالم»، قام بتحقيقات بناءً على جولات على الأرض مع ضحايا في اليمن والصومال وأفغانستان والعراق، ولقاءات مع مسؤولين، وشاهد بأم عينيه أكذوبة محاربة أمريكا للإرهاب، فكشف زيفها أمام الإعلام، كشف الاستهتار بالسجن والتعذيب والقتل، واللامبالاة بأرواح البشر.

جاء هذا بعد وقت طويل قضاه «سكاهيل» في البحث والتقصي، والتقى خلاله فرقة اغتيالات تُدعى (JSOC)، وعرف كيف نفذت مئات العمليات بدم بارد وابتسامة عريضة، والتقى كذلك قائد ميليشيا صومالية كان عدوًّا لأمريكا، لكنه تحول إلى جنرال مرتزق، وأصبح اسمه على قائمة رواتب الإدراة الأمريكية، التي تدفع لأمراء الحرب مقابل القتل.

الكم الهائل من الإدراك والمعرفة مع استمرار المهزلة، قد يقود أحيانًا إلى الانتحار أو الجنون.

في الفيلم، يقول قائد الميليشيا متحدثًا عن ضحاياه: «نقتلهم عند القبض عليهم، وهنا ندفن جثثهم». يعترف بثقة متناهية بالفظائع التي يرتكبونها، و لا يجد حرجًا أو يتلعثم في الكلام عندما يطلب منه «سكاهيل» أن يعيد ما قال. يعقِّب الصحفي الأمريكي: «لا مزيد من إخفاء الأسرار، إنهم يستمتعون بوقتهم». 

يسأل «چاي لينو» (Jay Leno)، أحد مقدمي البرامج الاجتماعية الكوميدية في الولايات المتحدة، «سكاهيل»: «لماذا لا تزال على قيد الحياة؟ ألا تصاب بالذعر؟». يضحك الجمهور، بينما يلتزم الصحفي الصمت.

يكمل «لينو»: «كلا، أنا جادٌّ، أنا جاد»، مشيرًا إلى أن كتابه مذهل وعمله مثير للفضول، ثم يستطرد: «هل تذكر فلانًا؟ لقد قُتل».

إذًا، الكم الهائل من الإدراك والمعرفة مع استمرار المهزلة، قد يقود أحيانًا إلى الانتحار أو الجنون.

«بسأل نفسي: الواحد عايش ليه؟»

أنيس والصحفية في مشهد من فيلم «ثرثرة فوق النيل» - الصورة: i24 news

في حوار من الفيلم المصري «ثرثرة فوق النيل» (1971)، المقتبس عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ، يرد أنيس المسطول على الصحفية مبررًا تعاطيه الحشيش بالهروب من الواقع، وهو يعلم أنه يقولها عبثًا؛ لأنه من الصعب الهروب منه بعد أن سيطر عليه الوعي، ويدور بينهما الحوار التالي:

- إنت مدمن حشيش من مدة؟

- مممم يعني.

- ليه؟

- وإنتي ليه بتشربي لمون؟

- اللمون ما بيُفقدشي الإنسان وعيه!

- ده عيبه، اللي يعيش بوعيه في الزمان ده يموت من الغيظ. 

أنيس، الذي يعمل بوزارة الصحة، يصف نفسه بـ«ولا حاجة، نص مجنون على نص ميت»، فهو يتمشى في شوارع القاهرة بمفرده، ودائم الحديث مع نفسه عما يجول بخاطره؛ من جنون وعبث وتناقض ما يحدث حوله.

يتابع: «هو مش اللي بتعمِل دي زي اللي بيعملوه دول؟ ولا القانون ما يتطبقشي إلا على الناس الغلابة؟ الظاهر القانون اتجنن (...) الحشيش ممنوع والخمرة مش ممنوعة، طب ليه؟ ده يسطل المخ ودي تلطش المخ. ده حرام ودي حرام. ده مضر بالصحة ودي مضرة بالصحة. الحشيش غالي والخمرة أغلى منه، اشمعنى القانون متحيز للخمرة؟ القانون بيفوِّت للخمرة علشان بندفع عليها ضرائب، طيب خليه يفوت للحشيش وندفع عليه ضرايب».

 تلاحظ الصحفية توقفه عن الكلام فتسأله: «ما بتتكلمشي ليه؟»، فيرد: «أنا مش مجنون عشان أمشي أكلم نفسي»، فهل كان يتكلم مع الأشخاص المَعنِيين في خياله؟ هذا هو الوهم الذي صنعه.

وبالعودة إلى كتاب الاغتراب المذكور آنفًا، نجد المؤلف يصنف «ثرثرة فوق النيل» ضمن روايات «اللامواجهة»؛ التي تصور الإنسان في حالة هروب من الواقع الاجتماعي، فهو ليس في حالة خضوع للواقع ولا مواجهة، يهرب من واقعه إلى عالم خاص من صنع المُخيَّلة، دون أن يجد ملجأً حقيقيًّا من المشكلات التي تلاحقه، وهي محاولة يائسة لا تزيده سوى حسرة وغربة، فهذا الوهم الذي صنعه لا يقل تعاسة عما كان عليه قبله، فالوهم نفسه أصبح سجنًا آخر.

لكن هل من الممكن أن تقرر بإرادتك وتصبح لا مباليًا بعد أن كنت واعيًا؟ بالتأكيد بعد أن تقتل روحك.

الحب وهم وهروب بفعل الفردية النرجسية، إنه محاولة عبثية للبحث عن مسكِّنات.

شخصيات الطبقة المثقفة والمتعلمة في رواية محفوظ قرروا أن يصبحوا «مساطيل» هربًا من الواقع؛ باللجوء إلى «العوامة» والغرق في الإدمان والصخب والرقص، لدرجة أنهم ارتكبوا حادث سير أفضى إلى قتل فلاحة.

ومع ذلك، لم يتملك تلك الشخصيات أي شعور بالحزن؛ فهم يعتقدون أنه «في كل يوم يموت الناس، فهذه ليست الأولى ولا الأخيرة، ونحن لم نقصد قتلها، بل إن الفلاحة ارتاحت من بؤس الحياة». هكذا برروا جريمتهم، وإلى هذه الدرجة أوصلتهم اللامبالاة. يقول أحدهم، وهو محامٍ: «أنا بطلت أقرا»، بالتأكيد لأن القراءة تزيد الإنسان وعيًا، وبالتالي تُسبب له في مزيد من الدوخة .

قد يهمك أيضًا: هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟

أما أنيس فشخصية مسالمة، لم يقتل روحه، يرفض حادث السير حتى لو لم يكن متعمدًا، لكنه يغوص كعادته في سكوته وحشيشه، فتسأله الصحفية مرة أخرى: «إنت ما بتتكلمشي ليه؟»، فيرد عليها صديقهما رجب: «أصله لو اتكلم يفوق، وهو يحب يفضل 24 ساعة مسطول». تسأل متعجبة: «ما بيفوقشي أبدًا؟»، فيرد رجب: «على خفيف؛ حوالي ساعتين بالنهار».

تتوجه الصحفية بالسؤال ثانية لأنيس: «لما تفوق بتعمل إيه؟»، فيقول: «بسأل نفسي: الواحد عايش ليه؟». تتساءل مجددًا: «وبيكون ردك إيه؟»، فيجيب: «بنسطل قبل ما أرد»، فتتعالى الضحكات.

يضحكون دائمًا بشكل جنوني ومبالغ فيه، حتى إن أنيس يصفهم بأنهم «أوغاد عصريون، يهربون في الإدمان والأوهام الكاذبة. إني أتحدى الخراب والموت والشياطين».

إحدى الشخصيات ترى أن «الإباحية علاج»، حتى إنه ليس هناك قدرة على الحب، رغم وجود حاجة إنسانية ماسة إلى الانتماء والبحث عنه؛ بل إن الحب نفسه وهم وهروب بفعل الفردية النرجسية، فلا يسعى أحد إلى إغناء حياة الآخر، إنما يتحصن كُلٌّ داخل عالمه الخاص ويرى الآخر لغزًا مخيفًا، إنها محاولة عبثية للبحث عن مسكِّنات، حسب تعبير الدكتور بركات.

وفي هذا الجانب، يتساءل الأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم في رواية «السفينة»: «هل لنا أن نتقارب حتى نقول إن الذي بيننا الآن الهوى؟ خرافة! أنْجُمٌ نحن، يسبح كُلٌ في فلكه، وما يرى البعض منا من بعضنا ليس إلا ألقًا يومض دومًا من بعيد، تقارب دون لقاء».

أما الشاعر العراقي أديب كمال الدين فيشير في أبياته «محاولة العزلة» إلى أنه صنع رأسًا من طين ليلقي مآسيه عليه،  وهذا الرأس الطيني في الأصل هو رأسه المثقل بالهموم، لكنها محاولة عبثية للهرب عن طريق الخيال.

يضيف كمال الدين: «بعد كوارث لا تحصى، وصلت إلى نفسي واستقررت فيها، وفرحت كما تفرح جثة بلحدها الجديد. هكذا فأنا أجلس في نفسي لأحرس نفسي، ولكي لا أنسى ما صُنِعَ بي؛ وضعت رمحًا على بابي، خضَّبته بدمي، وصنعت من الطين رأسًا كرأسي، وضعته على الرمح، وبكيت.. بكيت حتى سالت روحي، فرددتها إليه، إلى الرأس. كل صباح أركع أمامه في خشوع، لأقول له: صباح الخير أيها الرأس المثقل بالأسى والحروف، فيرد عليَّ في هدوء عظيم: صباح الخير يا صاحب العزلة السعيدة».

«أنا رجل الله الوحيد»

جرافيتي من فيلم (Taxi Driver) في إنجلترا - الصورة: eroklsm

هناك فيلم آخر قد يكون مختلفًا قليلًا عما نتحدث فيه، لكنه يدور كذلك في إطار العزلة والوحدة؛ هو (Taxi Driver). في الفيلم، يبدو الشاب «ترافيس» سائق التاكسي، الذي يقوم بدوره الممثل الأمريكي روبيرت دي نيرو (Robert De Niro)، مثالًا للرجل المضطرب. «بعضه خيال وبعضه حقيقي، إنه تجسيد حي للتناقض»، كما تصفه الفتاة التي كان يرغب أن تكون رفيقته وتركته سريعًا، أما هو فيقول عن نفسه: «أنا رجل الله الوحيد».

يجد بطل الفيلم صعوبة في الاندماج مع المجتمع، يجوب شوارع نيويورك ليلًا ويشاهد جانبها الآخر، ويتمنى أن يهطل المطر ويجرف معه الحثالة من الطرقات.

الفيلم يركز على البصر، ففي البداية نشاهد عينين حمراوين لـ«ترافيس»، تلخصان لنا كل شيء.

إن «ترافيس» كائن ليلي يعاني الأرق؛ لذلك يقرر أن يعمل سائقًا، بل يُجهد نفسه بالعمل ساعات أطول رغم اكتفائه المادي؛ فقد كان جنديًّا في حرب فيتنام، وحصل على وسام الشرف، لكنه يحاول الهروب من القلق والفوضى، في نيويورك إحدى أكبر المدن الأمريكية صخبًا، ويأمل أن بإمكانه تنقية مدينته من الفساد الذي انتشر فيها.

«تمضي الأيام برتابة دون أي شيء يُذكر. يوم وراؤه يوم آخر، سلسلة طويلة مستمرة. لقد لازمتني الوحدة طَوَال حياتي، في كل مكان، في الحانات والسيارات والأرصفة والمحلات، لا مفر منها. أنا رجل الله الوحيد»، هكذا يفكر.

يجد «ترافيس» صعوبة في الاندماج مع المجتمع والتواصل مع الآخرين، يتردد بين الحين والآخر على السينما لمشاهدة الإباحيات، ويجوب شوارع نيويورك ليلًا، يشاهد جانبها الآخر؛ القذارة والانحطاط ورائحة العُهر والحشيس التي تفوح، وأصحابها الحثالة أو الحيوانات كما يسميهم، ويتمنى أن «يهطل المطر يومًا ما، ويجرف معه الحثالة من الطرقات».

في التاكسي، يركب معه صدفة أحد المرشحين للانتخابات الرئاسية، فيسأله المرشح عن أكثر شيء يزعجه في هذه المدينة ويحتاج إلى تغييره، فيرد «ترافيس» بأنه لا يعرف، فهو غير مهتم بالسياسة.

يُصرُّ المرشح أن يعرف، فيقول «ترافيس»: «إن أصبحت أنت الرئيس فعليك أن تُطهِّر المدينة، فرائحة القذارة والأوساخ تفوح. هل تفهم ما أقصد؟ إنها تصيبني بالصداع. المدينة بحاجة إلى رئيس جيد يخلصها من الفوضى التي تعانيها. تبدو هذه المدينة كما لو أنها لن تُطهَّر أبدًا». كان المرشح يستمع إليه بإنصات ودهشة، ليؤكد له أنه فهم ما يقصده، «لكن الأمر ليس سهلًا».

وعلى رصيف الشارع يحاور الشاب المنهك «ترافيس» رفيقه «ويز» الذي يكبره سنًّا؛ علَّه يجد من يفهمه.

ترافيس: أعاني الإحباط، أريد الرحيل، أريد أن أقوم بعمل ما.

ويز: هل تقصد مشاكل العمل كسائق تاكسي؟

ترافيس: نعم، لا ، لا أعرف، فقط أريد الرحيل. لدي بعض الأفكار السيئة في رأسي.

ويز: أنا أعمل سائقًا منذ 17 عامًا. إذا كان لديك عمل فعليك أن تشعر أن هذا قدرك وترضى به. هناك أناس فقراء وآخرون أغنياء، هذا يصبح محاميًا وآخر يغدو طبيبًا، أناس يموتون وآخرون بصحة جيدة، إنه قدرنا. إني أحسدك على شبابك، انطلق، صادق، امرح، افعل أي شيء. إننا لا نملك خيارًا آخر على أي حال، أعني أننا جميعًا في مشقة بدرجات متفاوتة.

ترافيس: لا أعرف، لكن هذا أكثر كلام سمعته يصعب الرد عليه.

ويز: أنا لا أعرف عمَّ تتحدث ولا مِمَّ تشكو.

ترافيس: ربما أنا أيضًا لا أعرف.

ويز: لا تشغل بالك كثيرًا يا رجل.

لكن كيف لا يشغل باله مع أن ذلك هو السبب في دوخته؟ هناك طاقة داخله، لذلك فإنه حتى لو لم ينقذ روحه وبقيت المدينة بقذارتها؛ يحاول إنقاذ شخص آخر، فيخاطر بحياته لانتشال فتاة مراهقة من العمل في بيوت الدعارة.

«أقسم أن شدة الإدراك مرض خطير»

فيودور دوستويفسكي - الصورة: Wikipedia

الأديب الروسي «فيودور دوستويفسكي» (Fyodor Dostoyevsky) هو أحد من عانوا طويلًا من واقعهم، ومرَّ بالعديد من الأحداث المزلزلة.

توفيت والدته في الخامسة عشرة من عمره، وقُتِل والده وهو في الثامنة عشرة على يد خُدَّامه في المزرعة، كما تقول الشائعات، واعتُقل مع رفاقه في التاسعة والعشرين إثر انضمامه إلى جماعة اشتراكية، وأمضى ثمانية أشهر في الحجز الانفرادي، ثم حُكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص، إلا أن القيصر نيكولاي الأول (Nicholas I) تراجع عن حكمه قبيل تنفيذه بدقائق، واستبدل به الأشغال الشاقة في صقيع سيبيريا لأربع سنوات، ثم الخدمة العكسرية الإلزامية في الجيش الروسي.

فيودور دوستويفسكي عاش حياة أليمة، فهل انعزل ككاتب عن واقعه؟ لا، لكنه يرى أن الوعي الإدراكي خطير جدًّا على الإنسان العادي.

قضى «دوستويفسكي» عشر سنوات عجاف من عمره بين سجن ونفي وأشغال شاقة، تركت أثرًا عميقًا في حياته. ولم تنتهِ المأساة، فعقب خمسة أعوام من السماح له بالعودة إلى مسقط رأسه في مدينة بطرسبرغ، توفيت زوجته «ماريا» متأثرة بمرض السل، وبعد ثلاثة أشهر توفي أخوه «ميخائيل».

كان الأديب الروسي قد أسس مع أخيه مجلة «الزمن»، لكنها سرعان ما مُنعت واعتُبرت «هدامة»، كما أصيب بالصرع وراحت حالته تسوء، إلا أنه كان يواصل إبداعه ونشر رواياته التي تُعد اليوم عالمية، حتى توفي بنزيف رئوي.

هذه لمحة سريعة من حياته الأليمة، فهل انعزل «دوستويفسكي» الكاتب عن واقعه؟ لا، يقول: «إن الإنسان على سطح الأرض لا يحق له أن يُعرِض عما يجري عليها ويتجاهله؛ فثمة أسباب أخلاقية تمنعه عن ذلك».

سأقتبس هنا بتصرف ما جاء في كتاب «دوستويفكسي - دراسات في أدبه وفكره» في هذا الجانب، حيث تثبت رواياته وقصصه أنه منذ بداية نشاطه الأدبي وحتى نهاية حياته كان اهتمامه منصبًّا على القضايا الرئيسية للحياة الاجتماعية في عصره؛ كان يدافع عن واقعيته القاسية الصارمة، واعتبر نفسه مولعًا بـ«الأمور اليومية الجارية»، وكرَّس موهبته الأدبية لملاحظتها، فهو يرى أنه من خلال الواقع نفهم الماضي ونحدد طرق المستقبل للبشرية.

وصل «دوستويفسكي»، كغيره من عظماء عصره، إلى قمم الفن الواقعي. كان الموضوع الرئيس لرسائله في بدايه شبابه (1838-1844) هو الشعور الدائم بالتناقض الصارخ في الوسط المحيط به، فقد سئم وضعه الذليل «دون قرش في جيبه» عندما كان في الكلية العسكرية، وكان من الناحية النفسية غريبًا ووحيدًا، ورغم شعوره الأليم برفض الواقع، كان يبدو في رسائله حالمًا من نوع خاص، إلا أن التشاؤم يطغى أحيانًا عليه.

تمتع في شبابه بمزاج رومانسي، غير أن أحلامه لم تدفعه إلى الانغلاق على نفسه بأنانية والانفصال عن العالم المحيط، خلافًا لكثير من رومانسيي عصره، الهاربين كليًّا إلى عالم الحلم من أجل نسيان حياتهم وواقعهم.

وخلافًا لأخيه الأكبر أيضًا، لم يكن «دوستويفسكي» الشاب ليشعر برغبة في الانغلاق على نفسه في برج عاجي من مُثُل الخير والجمال، بل كان يهتم بالدرجة نفسها بأدبائه المفضلين؛ مثل «شكسبير» والكُتَّاب الرومانسيين الكلاسيكيين، وبروح الإنسان والعالم المحيط والماضي والحاضر، بينما كان أخوه في ذلك الحين حالمًا مفرطًا.

أما عن الوعي الإدراكي فيراه خطيرًا جدًّا على الإنسان العادي، فما بالك بالمثقف الذي وصل إلى أعلى درجات الوعي؟ يقول في روايته «رسائل من أعمال الأرض»: «أقسم أيها السادة أن شدة الإدراك مرض خطير. إن حياة الإنسان المألوفة لا تتطلب منه أكثر من إدراك الإنسان العادي، أي نصف أو ربع الإدراك الذي يتمتع به الإنسان المثقف في هذا القرن التاسع عشر الكئيب».

تحتل شخصية البطل المفكر، الذي يعمل وعيه دون توقف لتفسير تناقضات الحياة، مكانَ الصدارة في كتابات «دوستويفسكي» بعد الأشغال الشاقة.

قد يعجبك أيضًا: كيف تطور الوعي البشري عبر التاريخ؟

يقول الصحفي العراقي كلكامش نبيل في قراءته لتلك الرواية: «حنق الشخصية على المجتمع في القرن التاسع عشر يعمِّق فينا الإحساس بأن الإنسان المدرك لن يرضى أبدًا على عصره، لأن كل العصور سيئة كما يبدو، وما شوقنا إلى ما مضى أو حلمنا بمستقبل أفضل إلا تعبير عن حنقنا الشديد على الحاضر، ولكأن هذا الأمر أزلي كما يبدو ولن يتغير أبدًا (...) ويدين القتل والوحشية، ولكنه لا يرى أملًا في أن يختفي كل ذلك».

الكاتب الروسي كونستانتين ليونتيف (Konstantin Leontiev) لديه فلسفة تشاؤمية؛ وهي أنه لا داعي لأن نتمنى الخير للعالم طالما أنه مقضي عليه بالهلاك. يرد عليه «دوستويفكسي» قائلًا إن «هذه الفكرة تحوي شيئًا بعيدًا عن المنطق والتقوى، وعلاوة على ذلك فهي فكرة مناسبة جدًّا للاستهلاك المنزلي الدارج: بما أن كل شيء مقضي عليه بالهلاك، فعلام الطموح نحو الأفضل، علام حب فعل الخير؟ إذًا عِش لنفسك، عِش منذ الآن فصاعدًا لنفسك، فكر بإرضاء بطنك فقط».

إن شخصية البطل المفكر الذي يعمل وعيه دون توقف لتفسير تناقضات ومغزى الحياة المحيطة تحتل مكان الصدارة في القصص والروايات التي كتبها «دوستويفسكي» بعد انتهائه من الأشغال الشاقة.

وبرز الأديب الروسي الكبير في رواياته بصورة واعية؛ كاتبًا وفنانًا ومفكرًا ومُبشرًا وعالمًا اجتماعيًّا ونفسانيًّا، ومع ذلك يقول: «يدعونني عالمًا نفسانيًّا، هذا غير صحيح. أنا واقعي بالمعنى السامي لهذه الكلمة، أي إنني أصور كل أعمال النفس الإنسانية».

عزلة القراءة واللامبالاة.. دوخة متجددة

الهروب من بؤس الواقع إلى عزلة الكتب ليس حلًّا - الصورة: Svein Halvor Halvorsen

هل تحاول أن تبحث عن السكون وتهرب من العجز من خلال الكتب؟ تقرأ وتقرأ ثم تقرأ؟ حسنًا، القراءة جيدة، لكن الأسوأ من هذا العجز هروبك من بؤس الواقع إلى عزلة الكتب؛ لتكتشف أنها تزيدك فهمًا للواقع وتترجم بالحروف ما بداخلك، وهذه دوخة أخرى.

الكتب تقودك إلى المزيد من الوعي، وليس الهروب أو تجمُّد العقل أو شلل التفكير. الكتب تفكيك الواقع، وإن كنت ما زلت مُصرًّا على أنها أفضل وسيلة للهروب من الواقع البائس، فسيبقى ذلك من صنع خيالك فقط، مجرد وهم، أما عقلك فيزاد انفتاحًا ويصبح أكثر واقعية.

هل العُزلة واللامبالاة هي الحل؟ مستحيل، أنت غير صادق في كل مرة تدَّعي أنك غير مبالٍ وغير آبهٍ بما يجري حولك.

الكاتب والأكاديمي الكويتي الدكتور فهد راشد المطيري يعرِّف القراءة بمعناها العميق بأنها «حالة تحوُّل من مرحلة من مراحل الوعي البدائي إلى مرحلة أرقى، وهي حاجة ضرورية لفهم الواقع من حولنا، ودونها نبقى جهلاء الواقع»، ويرى أن «القراءة تُسهم في خلق حالة من الوعي، تسمح لنا بإدراك عملية الإصلاح».

أما «دوستويفسكي» فيؤكد أنه «يُقال دائمًا إن الواقع ممل رتيب، ومن أجل الترفيه عن النفس يلجؤون إلى الفن والخيال، ويقرؤون الروايات، أما أنا فأرى العكس هو الصحيح، فما الذي يمكن أن يكون أكثر خيالية وغرابة من الواقع ذاته؟».فقد كان يحلل وقائع الحياة اليومية في المجتمع لكشف تناقضاتها الداخلية وغرابتها، والواقع مصدره الأساسي للإبداع.

إذًا، هل العُزلة واللامبالاة هي الحل؟ مستحيل، أنت غير صادق في كل مرة تدَّعي أنك غير مبالٍ وغير آبهٍ بما يجري حولك، فما دامت روحك حية فأنت تزداد اهتمامًا بما يجري من حولك، وضميرك يتألم في كل مرة يُهان فيها إنسان. ربما تعتقد أنك مع مرور الزمن بتَّ تألف منظر القسوة والآلام، لكن أبسط مظاهرها يعصر قلبك، فتحزن لعجزك، حتى ضحكتك تأتي بسبب سخرية أليمة لا تنفصل عن الواقع: «السن بيضحك والقلب حزنان».

يصعب عليك اختيار اللامبالاة، كما يقول السياسي والكاتب البوسني علي عزت بيغوفيتش (Alija Izetbegović): «بين الحزن واللامبالاة، سأختار الحزن»، هذا لأنك تشعر بما قاله تشي جيفارا (Che Guevara): «إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وُجد الظلم فذاك هو موطني. لا يمكننا أن نبقى غير مبالين أمام ما يحدث في أي جزء من هذا العالم».

حليم بركات يرى أنه من الصعب الجمع بين إحساسين متناقضين. يقول إن «رضوخ الإنسان لما يرفضه ضمنيًّا وضعٌ يشكل ما يعرف في علم النفس الاجتماعي بالتنافر الإدراكي، الذي يشير إلى أن الإنسان نادرًا ما يتمكن من الجمع في ذهنه بين فكرتين أو إحساسين متناقضين عن نفسه، من دون أن ينشأ لديه دافع لحل هذا التناقض؛ بإقامة توازن من نوع ما، وكثيرًا ما يكون هذا التصرف الخضوعي عملية تسويغية لا واعية لصعوبة معايشة مثل هذا التنافر. بهذا لا يشكل الرضوخ تجاوزًا للاغتراب؛ بل تثبيتًا للواقع».

جبرا إبراهيم في روايته «صراخ في ليل طويل» يقول: «ولما رحت أشق طريقي بين الجمهور الدافق، أحسست بعزلتي التامة عن الإنسانية»، وهذا ما يتهمه به صديقه حين يقول: «لقد وضعت نفسك في عزلة عن التيار الواقع، وليست عزلة الناسك المنتشي بصلاته؛ إنما عزلة الخليع يقارع ضميرًا يحثه على الندم (...) لأنك ستجد ذهنك يتحول بعد زمن إلى شيء أشبه بقلعة منعزلة نائية، لا يهتم أحد بمهاجمتها إلى أن تتداعى وتتهدم من تلقاء نفسها».

يؤكد جون تي.كاتشوبو (John T. Cacioppo) من جامعة شيكاغو، الذي يدرس كيفية تأثير الوحدة والعُزلة الاجتماعية على صحة الناس، أن الاعتراف بأنك وحيد يشبه كتابة كلمة «فاشل» على جبهتك.

يتساءل مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه «النظرات» عن هذه الحيرة التي يصاب بها العقل البشري: «هل نطقه شؤم عليه وعلى سعادته؟ هل يتمنى الخرَس والبَله، فيكون سعيدًا قبل أن يصبح ناطقًا مُدركًا؟»، مؤكدًا أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة من الوعي بأنه فعلًا مقيد؛ «لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص».

لذلك تشعر أحيانًا أنه من رحمة الله عليك أن عقلك لا يزال في محله حتى هذه اللحظة، أو على الأقل تُثاب في كل مرة تشعر بألم أو رعب أو تِيه، وتشعر في أحيان أخرى أن دوخة الوعي والإدراك التي تُساورك تجعلك تتمنى لو أنك لم تكبر، لو أنك أصم أبكم أعمى، لو أنك لم تعِ شيئًا قط.

لا داعي لذكر السبب الرئيسي لهذه الدوخة، والجميع يعلم دواءها، لكن كيف نتناوله؟ بحسب الدكتور بركات، فإن الخيارات المطروحة قليلة ومحدودة، والحصار مزدوج، وقد نتج من كل هذه التجارب والمحاولات مزيد من الإحساس المرير بالعجز، وأدرك العقل والإحساس والحدس أن الهرب لا يفيد.

لكأن الجهاد في هذا الزمان أن تُبقي روحك حية، ألا تكون نصف ميت، أن تبقى بوعيك، ألا تبرر الجريمة والانحلال بحجة بؤس الحياة.

يقول بركات: «يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا من أى سؤال آخر فى الحياة العربية المعاصرة خلال ما يزيد على قرن من الزمن: ما العمل؟ إن مثل هذا الإحساس العميق بالاغتراب عن الذات والمجتمع، معاناة في صلب البحث العربي للخروج من الحالة السائدة. إنها معضلة كبرى واجهت المجتمع العربي خلال ما يزيد على قرن من الزمن دون أن يتمكن من إيجاد مخرج، وكلما عثر على ما قد يشكل حلًّا مقبولًا، كشفت التجارب أنه متاهة أخرى (...) فيصبح مستباحًا ومعرضًا للانهيار، وربما بسرعة أقصى فأقصى، نحو هوة لا قاع فيها، فجوة عميقة فسيحة تفصل بين الواقع والحلم، وتضاف إلى الفجوة فجوات عدة بين الجزء والكل».

الوقت «لا يهتم بك ولا برأيك.. لا ينتبه إلى توسلاتك»

العالم يسير به الوقت كرجل أصم - الصورة: stefanos papachristou

هذا المقال ليس دعوة للإحباط واليأس أو لقبول الواقع؛ إنما لرفض الهروب الوهمي والانهزام الروحي رغم كل المؤشرات التي تقول إنه في غاية الصعوبة.

لكأن الجهاد في هذا الزمان أن تُبقي روحك حية، ألا تكون نصف ميت، أن تبقى بوعيك، ألا تبرر الجريمة والانحلال بحجة بؤس الحياة، فالشر والوحشية يبقيان كذلك، المهم ألا يتطابق الخير والشر لديك فتصبح أعمى، أن تعرف الطريق الصحيح حتى إن لم تسلكه، ألا تقف في صفوف المؤيدين للانتحار. تعاطف مع المنتحر الذي يُنهي حياته لمشقتها وجنونها، لكن ارفض الفكرة، لا تؤيِّدها أو تعلنها؛ فـ«الموت والرعب والتحدي نحن».

ثم إلى أي مدى تملَّكنا اليأس؟ إلى حد أن نتمنى نهاية العالم وقيام الساعة؟ في الحقيقة، كما يقول المدون المصري أبو بكر سليمان، إن «الكل ينتظر الساعة ويرتقب نهاية العالم، ولا يعلمون أن العالم كما هو يسير به الوقت كرجل أصم، لا ينتبه إلى توسلاتك ولا إلى نجاحاتك، لا يبطئ الخطى من أجلك ولا يسرع من أجل عدوك، هو فقط يمضي بالوتيرة نفسها، ولا ذنب له أنك صرت تدرك أكثر أو تصغي أكثر إلى حركات العقارب».

ويضيف: «هو لا يهتم بك ولا برأيك بالعالم، لا يهمه إن كانت أغنيتك (اضحك للدنيا) أو (العنها)، هو يمضي عليك كما مضى على جدك، فهوِّن عليك، لطالما كان العالم مزدحمًا بأضرحة المعاتيه وأقبية الصالحين، لطالما كان فيه الخل الخائن والوفي، لطالما كان فيه من يشرب الدم ومن يتعفف عن غيبة أخيه، لا فرق إن كنت تطل على العالم من أعلى الهرم الأكبر، أو كنت رهين بئر معطلة».

ربما نحن في زمن رديء، وبتنا نردد كثيرًا «هذا الوقت سوف يمضي»، إلا أن سليمان يقول: «أنا لا ألومك على بكائك الآن، أنا فقط ألومك على ذكرك أن العالم صار أسوأ. ومنذ متى يا صديقي كان العالم أفضل؟».

الحياة كما هي، لكن هناك من يزداد نُبلًا كلما ازدادت عليه الحياة رداءة وبصقت في وجهه، وليس انكسارًا وغباءً وضعفًا أو حتى توحشًا. هناك من يوازن بين العزلة وبقاء روحه حية؛ لأن العزلة التامة تهلك الروح.

إنها محاولة لإبقاء الروح معطاءة وميالة للحب، للمزيد من الأماني لمن يحب، محاولة لإرسال السلام والصلوات له عبر السماء، فهي الأسرع لتلاقي الأرواح. الحب حياة، إذا تلاشى يصبح القلب أجوف بليد الإحساس، فالحب والوداد يُولدِّان الإحساس تجاه الآخر، ويصنعان من الأجساد جسدًا واحدًا يتجاوز كل المسافات والحدود.

جميل أن نشارك المشاعر، لكن الأجمل أن سعادة من تحب تنتقل تلقائيًا إليك. القلب إذا لم يُستعمل لغرضه الأساسي يتعطَّل، والنبي محمد يقول: «إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»، أما من يهرب من الجحيم، فعدم القدرة على الحب هو الجحيم ذاته، كما يرى «دوستويفسكي».

المشاعر ضرورة لإثبات وجودك. يقول فؤاد الفرحان، وهو مدون سعودي مهتم بريادة الأعمال، إن «الهروب من الواقع المُر والضغوط لا يكون بالانعزال؛ ولكن بتجربة مجالات جديدة يفرِّغ فيها المرء طاقته ومشاعره لإنجاز شيء يجعله يستشعر آدميته».

يكفي أنك حاولت وما زلت تحاول، لأنك إذا قتلت روحك فإنك ستصبح في عداد الأموات، فلا تقضِ عليها فهي آخر آمالك، بل تشبث بها. حاول ألا تتوقف عن الحلم، ألا يموت الجمال في قلبك وعينيك، ألا تصافح يأسك وتدوس على أحلامك، فهناك من تحطمت فيه أشياء كثيرة بداخله ولا يرى سوى الخراب، حتى بات الحلم ترفًا بالنسبة إليه.

إذا رفضنا المرفوض وأنكرنا بالقلب، أثبتنا أن هناك قلبًا ما زال ينبض، وعقلًا ما زال يميز الشر من الخير. على القلب أن يكون متحركًا لا ساكنًا، أَوَليس ذلك أضعف الإيمان؟ إلا أن هناك من يترجمه على الأرض، وهناك من يكتمه.

كلما أردت فهم الواقع أكثر، احتجت لزيادة جرعة الوعي وتَحمُّل الدوخة يا صديقي.

مريم الشريف