فوق الرؤوس.. تحت الأقدام: المفكرون العرب والتراث
عايش العالم العربي، باعتباره امتدادًا حضاريًّا واحدًا من خليج العرب إلى سواحل الأطلنطي، تذبذبات تاريخية وتغيرات جذرية وَسَمتْ مراحل وجود هذا الشعب، أو هذه الشعوب الموحدة ثقافيًّا، في مجالها الجغرافي ذاك، مواكبًا عصور الإنتاج المعرفي والحضاري، كما عاش زمن الانحطاط والتفكك والصراعات الداخلية.
غير أن ميزة الشعوب التي عرفت الحضارة هي ذاكرتها التي تحتفظ بكل إنتاجاتها، إنتاجات دائمًا ما تغدو مكونًا أساسيًّا لهويتها، بمعنى أن عَيشها يكون عَيش مفاهيمها والسياق العقلي الذي أنتجته هي نفسها، ويكون «الآخَر»، ما غير ذلك، غريبًا، دخيلًا على هذه الحضارة.
غير أن تحول الأزمنة وأبعادها: ماضٍ وحاضر ومستقبل، يحدد لنا خلال عملية الإنتاج الثقافي نوعية المنتوج، يعرِّف لنا التراث تراثًا، أي ما كان له في الماضي وجود، وما أبدعه وعاش عليه السابقون، وبنوا عليه حياتهم.
كذلك، يُمَوقع الحاضر في راهنيته وإشكالاته المعاصرة، التي نحن في تفاعل معها في كل آنٍ ولحظة، ويرسم المستقبل إبداعًا للحظة الحاضرة، وإنتاجًا لها.
داخل هذا المثلث يحيا الفرد العربي شتاتًا في موقفه منه، يطرح سؤال الحاضر في ضنك اجتماعي اقتصادي ثقافي، ويحمل على كاهله ذكرى زمان الأمجاد، أمجاده التي يردد منها افتخارًا، من حين إلى آخر، أن الغرب درسوا أرسطو من كتابات ابن رشد، وأن لاسم «كاميرا» أصل عربي هو «قمرة» ابن الهيثم، وأنهم أخذوا الفَلَك والطب والتشريح والرياضيات من عند رجالات هذه الحضارة العربية.
لكنه تفاخر لا ينفي الأزمة العميقة التي تعيشها الذات العربية، والتي لم تؤججها سنوات الانحطاط السابقة، كما فجرتها صدمة الاستعمار أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لكونها أول من أتى بالثنائية التي نعيشها الآن داخل مجتمعاتنا: الهوية الأصيلة والحداثة الأوروبية.
صدمة دفعت أولي الحكمة من مثقفي العرب إلى تحديد انشغال واحد لهم، هو انشغال النهضة، وإفراز مُساءَلة أساسية هي العلاقة مع التراث، أو بالأصح كيفية قراءته، قراءة يحدد كنهها المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في كونها «ليست مجرد بحث أو دراسات تحليلية، لأنها تقترح معنى يجعله (أي التراث) في آنٍ واحد ذا معنى لمحيطه الفكري-الاجتماعي-السياسي، وأيضا بالنسبة لنا نحن القارئين».
بهذا الشكل انكَبّ المثقفون العرب على قراءة التراث، مركبين على ذات القراءة مشاريعهم وتصوراتهم للنهضة العربية الحداثية، فكان هذا الانشغال الفكري الكبير للمفكرين العرب بتراثهم محركًا للإنتاج الفكري في العصور الراهنة، ومخلفًا لإرث معرفي ضخم وجب علينا التوقف عنده كل مرة، بغرض التعرف إليه ومعرفته.
التراث العربي في منظور الأيديولوجيا المعاصرة
تضعنا الأيديولوجيا أمام شكلين متناقضين من تمثُّلاتها في أرض الواقع، فهي من جهة أداة منهجية لرسم معالم تفكير سياسي معين لا يقوم من دونها، ومن جهة أخرى تغدو إيمانًا يقارب الإيمان الديني، يتصف بنفس قطعيته ومعياريته، وتحول به ثنائية المؤمن والكافر، التقدمي والرجعي، العربي والأعجمي، معنا أم ضدنا.
في نظر الماركسي العربي، إحياء التراث يكون بإحياء وتطوير ما ينطوي عليه من عناصر قريبة من أيديولوجية الطبقة العاملة.
بنفس الشكل والكيفية، تعامل المفكرون العرب الماركسيون مع التراث العربي، جاعلين هوة بين التراثين على أساس نفس المعيارية، أي نافين صفة الوحدة والتجانس عن هذا الأخير، واعتباره حقلًا صراعيًّا بين ثقافتين، هما ثقافة البلاط وثقافة الثورة.
هذا ما يقره بصريح العبارة المفكر اللبناني الشيوعي مهدي عامل في خطابه «الثقافة والثورة»، حين قال: «السلطة، بالدين، تبدو مطلقة. وهي المقدسة، في الغيب وبالغيب. وهي السلطة، فوق الرفض وفوق النقض. سيفها على الرقاب مسلّط، والرقاب خاضعة، راضية. فمن تمرّد، فعلى سلطة الدين يتمرد. إذّاك يُحَلُّ دمُه. حتى لو كان الحلّاج، أو السّهرَوَردي. أما ابن تيميه، أو الغزالي، أو من شابههما، فعلى التمرد والمتمردين، في كل عصر، يُشهران سلاح الدين، سلاح السلطة، فيكبلان العقل، يرهبان الروح، ويئدان الجسد».
ويسترسل في قوله مستنتجًا أن «هكذا كانت الثقافة تجري في صراع بين اثنتين: واحدة هي ثقافة الأسياد، بتياراتها المختلفة المتباينة، وأخرى هي ثقافة المقهورين، بأنواعها المتعددة».
من هنا يحيلنا مهدي عامل إلى تصور شمولي عن تعامل المفكر المركسي مع التراث باعتباره تراثين وثقافتين، ما يحيل إلى النية المعلنة في تنقيح التراث مما يحتويه من شوائب لا تتوافق مع «التوجه التحرري» لنظرية ماركس في نسختها العربية.
هكذا اتخذ هذا التعامل منحًى توظيفيًّا للتراث في خدمة الدافع الأيديولوجي، أي أن إحياء التراث في نظر الماركسي العربي هو إحياء وتطوير لما ينطوي عليه التراث من عناصر وجوانب قريبة من أيديولوجية الطبقة العاملة، خصوصًا النزعات المادية والديمقراطية والاشتراكية.
هكذا يخبرنا المفكر الماركسي العربي توفيق سلوم في كتابه «نحو رؤية ماركسية للتراث العربي»، ويجيب في ذات الكتاب على أنه لا يحُضّ على الدراسة التأريخية للتراث، بل يفصل بين التأريخ العلمي والأكاديمي المحض وبين التأويل الأيديولوجي له، مُقرًّا بذلك انحصار ما لم يُقره غربال الأيديولوجيا باعتباره صالحًا، في المختبرات الدراسية وفقط.
لو كانت الأيديولوجيا الماركسية اتخذت مفهوم الطبقة، الأصيل في مثل هذه النظرية، كمعيار فصل وتحديد ما يصلح إبقاؤه عن ما لم يصلح من التراث العربي، فقد نحت الأيديولوجية القومية العروبية، وهي يسارية في معظمها، منحى التيار الماركسي العربي في شق التراث نصفين.
غير أن المعيار اختلف اختلافًا جذريًّا، وتلوّن بفكر صاحبه.
صحيحٌ أن القومية العربية تُقِر في فكرتها العامة بأن النهضة العربية لن تكون إلا باتحاد العِرق العربي في دولة موحدة، وبناء واقع يقوم في نواته على إعلاء شأن العروبة وتقديسها، غير أن ذات الأيديولوجيا نفسها لا توحد الرؤى حول علاقات العروبة بمكونات الواقع، التي أهمها الدين الإسلامي، الذي ومن هذه الزاوية يعتبر عنصرًا مهمًّا، لِما لعبه من دور العلة الأولى لبناء دولة العرب القديمة.
وفي هذا الصدد يمكننا التمييز بين تيارين قوميين: تيار قومي علماني، والآخر قومي إسلامي.
يتفق أصحاب التيارين على أن التراث العربي مشوب بشوائب عجمية، واردة من الشعوب غير العربية التي ضمتها الدولة الإسلامية خلال امتدادها الأقصى الذي عرفته في قرونها الأولى، ويردون مأساوية الواقع العربي في ارتباطه مع التراث إلى تداخل سمات حضرية دخيلة معه.
من هنا نفهم أن التراث الصالح، بالنسبة إلى دعاة هذا التوجه الفكري، هو التراث الخالي من أواليات الخنوع والخضوع التي أُورِثت من الحضارات المجاورة لنطاق العربي. غير أن الاختلاف الجذري بينهما يعود إلى جوابهما على سؤال: أي التراث العربي أصيل لنأخذ به؟
وما دام مطلب الأصالة مركزيًّا في الأيديولوجيا القومية، أخذ القوميون العلمانيون تأصيل التراث إلى العروبة اللادينية، بمعنى البداوة العربية الماقبل إسلامية، كما يخبرنا المفكر القومي العلماني السوري زكي الأرسوزي بأن «أي عهد من تاريخنا انبلج فيه المثل الأعلى عن طبيعة أمتنا كقرارة لها وأمنية كما انبلج في الجاهلية؟ ونحن بالعودة إلى جاهليتنا نلتقي مع أصول الثقافة الحديثة، مع نظام قيمها ومع أمانيها، فضلًا عن التقائنا جميعًا في ينبوع حياتنا القومية».
يؤكد الأرسوزي توجهه مقرًّا بأن في إحياء تراثنا الجاهلي بعثًا لعبقرية أمتنا وإذكاءً لمكارم الأخلاق. في حين يرتكز تأصيل التراث حسب التيار القومي الإسلامي على إنتاجات المكون العربي المسلم داخل الحضارة العربية الإسلامية.
بهذه الكيفية تعامل القوميون مع التراث بمعيارية عِرقية، وبدعوى تشطيره بين تراث مستنير أصيل نافع، وآخر دخيل ضار يجب التخلص منه، أو حبسه داخل الأبحاث الأكاديمية المعرفية المحضة.
إبستيمولوجيا التراث عند محمد عابد الجابري
يبتدأ المفكر المغربي الكبير محمد عابد الجابري تقديم كتابه «نحن والتراث» بتساؤلات مباشرة، يحدد عبرها هوية مشروعه الفكري، ويميز نظرته العلمية النقدية إلى التراث.
يفصل الجابري بين قراءتين لهذا الموروث الثقافي العربي:
- القراءة السلفية، أي قراءة يحاور الماضي فيها المستقبل، ويغيب الحاضر تحت السلطة الماضوية التي تمتد إلى المستقبل وتجعله نسخة عنها. بدأت قراءة كهذه في زمن جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي، قائلةً باعتماد ما أتاه السلف الصالح وسيلةً لنهضة والتطور. غير أن تحولها كأيديولوجيا حوّل التراث من وسيلة إلى غاية، فتحولت النهضة إلى إعادة إنتاج الماضي. ومن الناحية المعرفية، فهما تراثي للتراث، وقطعًا مع منهج العلم المتطور بتطور الواقع، وبالتالي قاطعًا ومنفصلًا عن الواقع في حد ذاته.
- القراءة الاستشراقية، المعتمَدة من التيار الليبرالي العربي، ففي هذه القراءة يحدث الحوار بين الحاضر والماضي، متضمنًا التسليم بالمستقبل نسخةً عن المستقبل الغربي. بالتالي، فالحاضر المحاوِر خلالها ليس حاضرنا، بل حاضر الغرب البعيد عن طباعنا وهويتنا. وفي هذه القراءة يَسقُط القارئ في استعمال منهج البحث الاستشراقي، في حين أنه لا يمكن فصله عن أيديولوجيته، أي أيديولوجيا تحتقر الثقافات غير الأوروبية، وتنظر إلى الشرق بعين الأصل الواحد لا بعين التعددية، ولا تعترف بالتراث العربي كإنتاج لذاته. هكذا ينطلق قارئ هذه القراءة إلى اعتبار التراث العربي تركيبًا لما أحاط به من حضارات، فيحكم عليه أن يظل تركيبًا لما يأتيه من الغرب.
يفصل الجابري في الثقافة العربية بين البيان، أي تحليل علوم اللغة، والعرفان، أي التصور الصوفي والأفكار القديمة الإشراقية، والبرهان، أي الارتباط الاستدلالي بالمنطق الأرسطي.
يضعنا الجابري في تصور جزئي لقراءته انطلاقًا من أضدادها، قراءة يرى فيها هذا الأخير أنها «معاصَرة التراث لذاته ومعاصرته لنا». بمعنى آخر: قراءة التراث في سياقه الزماني والمكاني، وكذا اعتماد معارفه لبناء نهضتنا الآنية. هكذا تبرز لنا بجلاء مقولة الجابري بأن علاقتنا مع التراث وجب أن تكون اتصالًا وانفصالًا، اتصالًا معرفيًّا وانفصالًا إبداعيًّا بما يحكم واقعنا من تطورات.
من هذا المنطلق انخرط الجباري في إعادة قراءة التراث الخلدوني والرشدي والكلامي، قراءة علمية إبستيمولوجية، وعلى هذا المنوال بالذات أقام صرحه المعرفي المعنون «نقد العقل العربي» في مجلداته الأربع: «بِنية العقل العربي» و«تكوين العقل العربي» و«العقل السياسي العربي» و«العقل الأخلاقي العربي».
يبدأ الجابري في كتابه، في مجلديه الأولين، ببناء مفهوم العقل العربي كآلية نظرية خلاقة للثقافة العربية، ويقاربه مقاربة تاريخية وبنيوية، أي كمحتوى معرفي تطور عبر التاريخ، وأدوات إنتاج ذلك المحتوى. وبهذا يقر لنا الجابري أن العقل العربي عرف بدايته ببداية عصر التدوين، وتطور بفعل احتكاكه بمختلف الحضارات المجاورة له.
أما من ناحية تكوينه، فيفصل لنا الجابري بين ثلاثة قطاعات مختلفة للثقافة العربية:
- البيان: هو تحليل الخطاب والنص وعلوم اللغة
- العرفان: هو التصور الصوفي الذي تسرب إلى العقل العربي من ما أحاط به من أفكار قديمة هرمسية وإشراقية، يعدها الجابري أساس ما أسماه «العقل المستقيل في الثقافة العربية»
- البرهان: هو الارتباط الاستدلالي بـالمنطق الأرسطي
يحدد الجابري «أخلاق الإسلام» بأنها الأخلاق التي حث عليها القرآن، التي تهدف إلى العمل الصالح، وتعتبر الدنيا دار عبور وإعداد للانتقال إلى الآخرة.
في مجلده الثالث، يميز عابد الجابري بين التصور السياسي الأوروبي الذي يقسم الواقع إلى بنيتين: سُفلية مادية يحكمها الإنتاج الاقتصادي، وفوقية مجردة يحكمها مفهوم الدولة. ويعتبر تصورًا كهذا غير ناجز عند التعاطي مع الواقع السياسي الشرقي، فالبنى متداخلة لدرجة اتخاذها كلية واحدة.
هكذا ينطلق الجابري محددًا لنا ثلاثة مفاتيح لفهم العقل السياسي العربي، هي:
- القبيلة كمحدد الانتماء والتحالفات السياسية والحكم والتوافقات، وهي محكومة بمبدأ «أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»
- الغنيمة، وهي القوام الاقتصادي للدولة عند العرب، والذي كان اقتصاد حرب، يتمحور حول مداخيل الخراج والغنائم
- العقيدة، أي مجمل الرموز المخيالية القادرة على حشد الأفراد وتأطيرهم لصالح سير سياسي معين
يختم الجابري دراسته للعقل العربي باستعراض تاريخ الموروث القِيمي العربي، ويطرح سؤال الأخلاق عند العرب وماهية الأخلاق العربية، ويحدد لنا مجمل القيم التي كونت ذلك الموروث خلال تاريخ وجوده، ويعددها في:
- أخلاق السلطان: دخلت على العرب من منطلق الموروث الكيسروي (نسبةً إلى كسرى الفرس أي ملكهم) أو الفارسي. أخلاق كهذه تحث على طاعة السلطان، وجعلها ركنًا من أركان الإيمان العام، ووردت على الأقوام العربية خلال الحكم الأموي، الذي سعى إلى إرساء المُلك الجبري على رقاب العباد، وكان من أشهر دعاتها ابن المقفع وعبد الحميد الكاتب.
- أخلاق السعادة: في اختلافهم عن الفرس، تبنى اليونان تصورًا للكون عِوضًا عن تصور لإمبراطورية، هكذا كانت أخلاقهم تدور في فَلَك الإنسانية، إعلاءً لشأنها واهتمامًا مركزيًّا بها. ووردت أخلاق كهذه على العرب، في مقابل الأخلاق الأولى، وكان أشهر من دعوا إليها الكِنْدِي والرازي.
- أخلاق الفناء: التي دعا إليها المتصوفة، وجاءت مناهضةً بدورها لما يمليه السلطان الأموي، متسلحةً بالخرافة وعزاء الخلاص في انتظار الكرامات أو الإمامة. أخلاق كهذه، داعية إلى الخنوع والتسليم والاستكانة والتواكل، حثت العرب على العجز وترقب المعجزة.
- أخلاق المروءة: هي الأخلاق العربية الأصيلة، المتمحورة حول آداب اللسان والنفس وقِيم الشجاعة والنخوة والمروءة، ويقف عندها الجابري ليؤكد أنها القيم المركزية في الثقافة العربية.
- أخلاق الإسلام: أي الأخلاق التي حث عليها القرآن، والتي تهدف إلى إعمار الأرض والعمل الصالح والتحلي بمكارم الأخلاق، وتعتبر الدنيا دار عبور وإعداد للانتقال إلى الآخرة، مرورًا بالحساب الرباني لما اقترفته ذات اليد، ومدى أحقيتها بالثواب والعقاب.
هكذا يختم الجابري دراسته للتراث، دراسة نقدية يبحث فيها استنباط المعرفة الموضوعية منه، أي الانفصال معه، وكذا تأويله في مرآة الواقع العربي الراهن وتحديد الذات العربية المخولة للنهوض، أي الاتصال به.
القطيعة لبناء الحداثة عند عبد الله العروي
يُعَد المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي حالةً فذة في التعامل مع إشكالية التراث العربي والنهضة العربية المأمولة، أو بالأحرى في جوابه على السؤال الثقافي المؤرق لعموم المثقفين العرب، حول ما يجب إعماله لتخطي هذه الحالة الرثة التي تميز واقعنا. في هذا الصدد، يعلنها العروي استحالةً لنهضة من خلال أي وصل بما سبق، وقطيعة نهائية مع التراث هي حل لأزمتنا.
الشيخ يؤمن بأن الدين هو الحل، والسياسي يرى الأنظمة سبب انحطاط المجتمع، ورجل التقنية يؤمن أن الإنتاج الصناعي سبيل الإصلاح.
من منطلق كهذا، ينغمس العروي في مسيرة كشف أولى لصدر الثقافة العربية بغرض تشخيص عِلّة انتكاستها، ومن هنا يخط كتابه المعنون «مفهوم العقل، مقالة في المفارقات»، ويُبرز من خلاله عجز العقل العربي، في اختلافه عن العقل كمفهوم عن الغرب، عن إنتاج فاعلية حداثية، وذلك مرده إلى أن العقل في الثقافة العربية عاجز، مبتور الأطراف، ممنوع من العمل والفحص والتأمل خارج إطار «العقل الأعلى» اللاهوتي المطلق.
ويُعَد انطلاق بحث العروي في المفهوم مستفزًا بتواتر الادعاء القائل بأن «التراث تراث عقل»، فأي عقل يقصده المهللون بهذه الأقوال؟
هكذا يخبرنا العروي في كتابه أن العقل حُصر بمفهومه التراثي في «النص». نجم عن ذلك أن «المعقول» في الثقافة العربية الإسلامية أصبح يتشكل من الخبر والحكمة والسنة، أو التقليد أو سر الإمام. وتلتقي هذه الأسماء جميعها في أنها تسعى إلى العقل المطلق، في مفارقته مع العقل الحداثي المتأمل الخلاق المبدع من خلال قلقه ذاك. فضرورة العمل والإعمال العقلي تأخذ أساس المشروع الحداثي للعروي، وذلك لا يمكن تحقيقه إلا من خلال رمي العقل التراثي إلى هامش، يكون فيه في أحسن حاله ذا تعبير فلكلوري محض.
غير أن العروي لا يقف عند العقل التراثي كإشكال وحيد للثقافة العربية، بل يكشف عن اختلالات جذرية حددت فشل أي مشروع ثقافي نهضوي للعرب. ففي ثقافتنا العربية، يحدد صاحب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» أن النزوع الإصلاحي العربي انقسم إلى ثلاث عقليات متباينة، كل واحدة لها نظرتها الخاصة لطريقة الإصلاح، هي:
- الشيخ، الذي يؤمن بأن الدين القويم، النقي من الشوائب والخرافة، هو الترياق الشافي لجسد الأمة المسمم، وسبيلها الوحيد إلى الصلاح
- السياسي المعاصر، الذي يشخِّص انحطاط المجتمع في جبرية الأنظمة، ويدعو أن نستبدل بها أخرى ليبرالية، معتمدة على ما خطّه فلاسفة الأنوار الأوروبيون
- رجل التقنية، الذي يعزي هوان الأمة إلى عجزها عن الإنتاج الصناعي، مسلِّمًا مسبقًا بأن العمل، دون رؤية نظرية مرهقة، هو سبب نجاح الغرب وتقدمه
تمثلات ثلاثة للثقافة العربية المعاصرة فشلت في إنتاج مشروع نهضة، في وقت ترزح فيه منهجيتها تحت وقع الخلل، خلل يُرجعه العروي إلى أن مشروع الشيخ يعاكس التاريخ في ربطه الحاضر المستقبل بماضٍ هو إنتاج ظرفه، وفي أن مشروع الليبيرالي ورجل التقنية ذو نظرة سطحية لم تفهم عمق الأسس التي تبلورت فيها الحداثة الغربية، ولا وضعية وظرفية موضوع الإصلاح في طرحها ذاك.
في نفس الوقت، يقيِّم هذا المفكر الفذ مشروع الحداثة الذي يتوخاه لمجتمعنا العربي على مرتكزات:
- الثورة الثقافية التاريخانية، التي تُقِر بدور الفعالية الفردية في الإفصاح عن المعرفة التاريخية وصنعها، وكذا فعاليتها في خلخلة الواقع، وزعزعة ما يقوم عليه سلطان الوضعية المنتكسة للثقافة العربية
- الوعي التاريخي، وفهم صيرورة التاريخ في تطورها وحركيتها الدائمة
- المادية في فهم الواقع وتأويله بشكل ملموس، كخيار لتحرير العقل من قيد المطلق وربطه بالواقع
- الحرص على كونية المشروع، أي تمحوره حول الإنسان، باعتباره ذا مسيرة تاريخية موحدة، رغم اختلافاته الثقافية
هكذا يكشف لنا العروي مشروعه، ورؤيته التي اشتغل على بنائه طوال حياته كمفكر إلى الآن، وبأكثر من إصدار أسس لصرح واحد هو صرح الحداثة العربية، هو الذي أقر بأن «ما كتبتُ إلى الآن يمثل فصولًا من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة».
مذبحة التراث العربي
يبدو لنا المفكر السوري الحلبي جورج طرابيشي، انطلاقًا من عناوين إصداراته المستفزة وما تضمنته صفحاتها من انتقاد لاذع لأصحاب «دراسة التراث» من مجموع مثقفي العرب، على أنه مارد يحمل مدفعه الرشاش في وجه الكل، ويسدد طلقاته يُمنة ويُسرة على طول المدى الفكري المهتم بذات القضية.
لا أقول إن ضرباته كانت عشوائية، أو تحاملًا شخصيًّا كما وصف الباحث العراقي يحيى محمد في كتابه «نقد العقل العربي في الميزان»، بل كانت ضربات «منطقية» في حلقة السجال الفكري، إذ كان طرابيشي وفيًّا لأخلاقيات هذا الحق إلى آخر نقطة حبر خَطّها في حياته، وكذا ضروريًّا لتجسيد صدمة الرأي المضاد، المدمرة لأي تقديس شخصي كان يشيد حول رجالات الفكر العربي المعاصر، والتي تصون عقلانية الحقل الثقافي العربي وديمقراطيته.
القراءة السلفية للتراث تبتر أحد أطرافها الحيوية، كالفلسفة الإسلامية مثلًا، باعتبارها رجسًا يونانيًّا دخيلًا، وأن الفلاسفة العرب كانوا عملاء للإغريق.
لو حَقّ لنا أن نختار عنوانًا آخر لكتاب «مذبحة التراث في الفكر العربي المعاصر»، لسميناه «مقالة في نقد تشطير التراث العربي»، إذ هاجم المفكر السوري نزعة البتر التي اتخذها عديد من التيارات الفكرية العربية المعاصرة طريقةً للتعامل مع التراث العربي.
ينتقد طرابيشي، في صفحاته الأولى، التوظيفية التي قاربت بها الأيديولوجيا العربية، ماركسيةً أو قومية، التراثَ العربي، وقسّمته إلى تراث صالح حسب ما يخدم مشروعها السياسي، وما لا يصلح ليُرمى إلى الهامش، هامش يصفه بـ«الغيتو الأكاديمي».
ويرد مدافعًا دفاعًا استباقيًّا، تحسبًا لأي تعليقات مضمنة بملصقات الرجعية والسلفية قد توجه إليه، قائلة إن القراءة السلفية للتراث بدورها تشطيرية، وإن أنصار النزعة الماضوية هم أبعد الناس عن أن يكونوا أنصارًا للتراث، كل التراث، فنزعة كهاته كانت في كل مرة تنادي بإسقاط الصفة التراثية على مكونات أساسية في الثقافة الإسلامية، وبتر أحد أطرافها الحيوية، كالفلسفة الإسلامية مثلًا، باعتبارها رِجسًا يونانيًّا دخيلًا، وأن الفلاسفة العرب كانوا عملاء للإغريق، كما ورد في كتاب أنور الجندي «الثقافة العربية المعاصرة في معارك التغريب والشعوبية».
ينتقل جورج طرابيشي، في المساحة الكبيرة المتبقية من كتابه، إلى وليمته النقدية المفضلة: كتابات المفكر المغربي محمد عابد الجابري، وهي كتابات قضى طرابيشي ربع قرن في الإجهاز عليها بكل ما أوتي من أدوات نقدية، وفي إصدارات عدة تطرق إلى كل جزء منها مبينًا خلله وحياده عن الصواب.
يقول طرابيشي في معرض مقاله «ست محطات في حياتي»، الذي نشره على الجريدة الإلكترونية العمانية «أثير»: «أعترف للجابري، الذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي، ومن قبله المسيحي، ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إني أقر له، وأعترف أمامكم أنه أفادني إفادةً كبيرة، وأنه أرغمني على إعادة بناء ثقافتي التراثية. فأنا له أدين بالكثير رغم كل النقد الذي وجهتهُ إليه».
وهكذا عمل طرابيشي على تدوين ملاحظاته النقدية اللاذعة والعميقة في آنٍ، عما أخطأ فيه الجابري خلال نقده للعقل العربي.
يحدد الجابري ثلاثة أقسام للثقافة العربية: البيان والعرفان والبرهان، لكنه يغير مفاتيحه حين يتكلم عن السياسة، فيتحول إلى: العقيدة والغنيمة والقبيلة.
يبتدئ طرابيشي نقده للجابري بالقول إن نظرته العلمية الإبستمولوجية لا تختلف عن النسق التشطيري الذي نحاه معاصروه، فالجابري خلال بحثه يحدد العقل في لغة النثر العقلي، أي في الإنتاجات الفلسفية الإسلامية، خالقًا القطيعة الموضوعية بينها وبين أشكال أخرى من الإنتاجات التي تُعَد محورية في الثقافة العربية، كالشعر مثلًا والنثر الأدبي والعلمي العربي المحض، في حين تقر الإبستمولوجيا وشموليتها الدراسية وكلية إحاطتها بموضوعاتها، ولا تحشد مبضعها لبتر مكونات كانت ستعطي تصورًا معرفيًّا آخر للقضية لو أُخذت بعين الاعتبار.
يحيلنا طرابيشي، باسترساله في تحليل خطاب الجابري، إلى خيانته غير المبررة الإبستيمولوجيا، حين انطلق إلى تقديم أحكام قيمة لا موضوعية في تصنيفه «المعقول واللامعقول» في التراث العربي، في حين أن النقد العلمي يستوجب الموضوعية التامة في التعامل مع قضاياه.
بل ويستمر الجابري، في التناقض مع مزاعمه العلمية، محددًا في نفس الكتاب أن الثقافة العربية تقوم على ثلاث أقسام: البيان والعرفان والبرهان، لكنه يغير مفاتيحه في نفس الكتاب عندما يتكلم عن السياسة، فيتحول إلى أدوات العقيدة والغنيمة والقبيلة.
تناقضٌ كهذا يعلق عليه طرابيشي كالتالي: «لو كان البيان أو العرفان أو البرهان نظامًا معرفيًّا ثابتًا للعقل العربي، لكان العقل السياسي العربي خضع للتجديد نفسه». هكذا يضع الجابري قراءه، ومعهم طرابيشي، في حيرة مما بين أيديهم، يقلبون أعينهم بالسؤال: هل لسنا أمام تحليل إبستمولوجي قادر على الوصول إلى الثوابت البنيوية؟ أم لسنا أمام بنية ثابتة لعقل عربي كلي تتكرر في جميع العقول الجزئية التي يتمظهر بها؟ والمؤسف أنه لا مفر من أحد الخيارين.
لا يقف طرابيشي عند هذا الحد من المؤاخذات على صاحب «نقد العقل العربي»، بل يذهب إلى تتبعه خطوةً بخطوة، حتى على المستوى الشكلي لنصوصه، دائمًا ما كان يراجع الإحالات الواردة فيها، والتي عرفت في أكثر من موقع أخطاء فادحة، مثل نسبة استشهادات إلى غير قائليها، والتغيير في صيغ الاستشهادات بما لم تأتِ به صيغها الأولى.
بيد أن نقطة المعارضة الأساسية التي شحذت قلم طرابيشي ضد الجابري كانت دون منازع قضية «العقل المستقيل». يعلل الجابري وصفه ذاك إلى استقالة العقل العربي من وظيفة إنتاج المعقول، واستكانته إلى اللامعقول، هذا اللامعقول يحدده الجابري في التصور العرفاني الذي نشأ داخل الثقافة العربية الإسلامية، متسربًا إليها من معتقدات خارجة عن نطاقها الحضاري، كالعقائد الهرمسية والباطنية التي كانت سائدة في بلاد فارس واليونان.
ويُقر بأن «العقل المستقيل» هو أول من انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من عناصر الموروث القديم عبر الخيمياء والتنجيم (تكوين العقل العربي). هذا العرفان، أو التصور العرفاني، الذي يعبّر بشكلين: الأساطير الشعية والأساطير الصوفية.
رد جورج طرابيشي على هذه النقطة بالذات بأن زلّات الجابري فيها جَمّة، أولها أنه اختزل المذاهب الشيعية العديدة في قلة لها قرابة التصورات العقدية مع الهرمسية، بل وأكثر من ذلك تعامله مع العقيدة الشيعية كآخَر للثقافة الإسلامية، لا جزءًا من كلها.
ثانيها أن «الهرمسية» و«اللامعقولية» كانت تُهَمًا جاهزة في يد الجابري، يرشق بها من ليست لهم أحقية بها، كالتراث الفلسفي لإخوان الصفاء على سبيل المثال، فدراسة «رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء» هي الأصل في نقد جورج للجابري، هو الذي وجد في كتاباتهم ما يناقض قول صاحب «نقد العقل العربي» فيهم.
يعلق على ذلك القول بأنه «لو نهضت (صيغة «العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير») وحدها دليلًا كافيًا على التهرمس، لكان ينبغي توجيه «التهمة» لا إلى إخوان الصفاء وحدهم، بل كذلك إلى عدة من فلاسفة الإسلام، بمن فيهم من يعتبرهم ناقد العقل العربي نفسه «برهانيين»، من أمثال الكِنْدي وابن باجة، بل لكان ينبغي تعميم هذه التهمة لتطول بيانيين من أمثال الجاحظ، أو حتى متكلمين أشعريين من أمثال البغدادي».
ثالثها أن الجابري أرجع استقالة العقل إلى مسببات خارجية، بيد أن الخلل حسب طرابيشي داخلي، ومن هنا سينطلق في بناء تصور لتلك المسببات بأنها تحول من إسلام القرآن، إسلام الفعالية الإلهية والمفعولية الرسولية، إلى إسلام السنة، الذي حول التراث النبوي إلى مقام التشريع، وجعله وسيطًا بين المسلم والقرآن.
يشير كذلك إلى أن السنة لم تدون داخل نطاقها الحضاري، أي الجزيرة العربية، ولم تجمعها العرب، بل أتت عن طريق حركة حثيثة للأعاجم من الأقطار التي طالتها فتوحات الدولة الإسلامية، إذ خَطّ ذلك في كتابه «العقل المستقيل» قائلًا إن «الإسلام الذي حُمِل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدمتهم الفرس، كان إسلامَ قرآنٍ لا يد لهم فيه، وما أُنْزل أصلًا برسمهم».
«وبالمقابل، إن الإسلام الذي أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلامَ سُنّة كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه، وهو الإنتاج الذي استطاعوا أن يؤسسوا أنفسهم من خلال إتقان صناعته (...) في طبقة متفقِّهة عاتية النفوذ حَبَتْ نفسها، عن طريق التطوير المتضافر للمدونة الحديثية وللمدونة الفقهية، وبالتالي للمؤسسة الإفتائية، بسلطة تشريعية لم يقرّ بها القرآن للرسول نفسه. وعلى هذا النحو، تكون قد نصّبت نفسها وسيطة بين الله وبين المؤمنين في كل ما جلّ ودقّ من شؤون حياتهم الدينية والدنيوية معًا».
هكذا يبين جورج طرابيشي عن موقفٍ شغوفٍ بثقافته العربية وإشكالاتها المعاصرة، ومنكَبٍّ على دراستها، والتي يرجع لكتاباته الفضل في دفعه الثقافة العربية دفعًا، وهو المسيحي المنشأ. غير أن دراسته كانت متجاوزة لكل العقبات الذاتية، التي كانت لتَحُول دونه وتحقيق أهدافه تلك، لو كان شخصًا غير جورج طرابيشي. أما نقده للجابري، فقد كان وفيًّا للموضوعية التامة التي يستوجبها منه النقد، وأما صواب نقده فذلك رهين بناقد قد يأتي لينقد «نقد نقد العقل العربي».
سفيان البالي