من هم «رفضة التناسل»؟
أيهم حقًّا إن انقرض البشر؟ ألا تعتقد أن هذا الكوكب قد يصبح أفضل دونهم، ودون ما يسببونه من معاناة وظلم لغيرهم من البشر أو للكائنات الأخرى؟ لو كنت تشعر أن هذه ليست فكرة سيئة، فلعلك تنتمي إلى حزب «رفضة التناسل» (Antinatalists)، وهم هؤلاء الذين يعتقدون أن العالم سيكون مكانًا أفضل في عدم وجود البشر، ويؤمنون نتيجةً لذلك بضرورة إيقاف التناسل البشري.
رغم ما يبدو من سوداوية وقسوة هذا الموقف، فإن معتنقيه يعتقدون أنه من الظلم جلب روح بريئة وطاهرة إلى هذا الوجود، لأن من يولد في هذا العالم التعيس مكتوب عليه الشقاء، وسيُسهِم كذلك في جلب مزيد من الألم للآخرين جميعًا.
كانت هذه الفئة من الناس موضوعًا لمقال كتبته الصحفية «كاشميرا غاندر» ونشره موقع «الإندبندنت»، فما عقائد رفضة التناسل بالضبط؟ وما مقدار انتشارهم؟
من هم رفضة التناسل؟
رغم أن رفضة التناسل ليست جماعة ذائعة الانتشار والصيت، لكن ستجد في بعض زوايا الإنترنت عددًا من المواقع تضم المتفانين في خدمة هذه الفكرة، وتشير غاندر إلى أن الفكرة أصبحت أكثر شهرةً عندما وصف «رستن كول»، وهو شخصية في مسلسل «True Detective»، التناسل بأنه «عجرفة (...) تؤدي بصاحبها إلى جلب روح إنسان من العدم إلى هذه المزبلة».
قدَّم البيان الرسمي لحزب «رافضي التناسل» البريطاني مقترحات لكبح رغبة الناس في التناسل، أهمها الحرمان من الامتيازات الضريبية للآباء.
هناك كذلك صفحة على موقع «Reddit» لمن يتبنون أفكارًا مشابهة، يبلغ عدد متابعيها قرابة سبعة آلاف شخص، وتُناقَش هناك أفكار من قبيل «يعتقد البشر أنهم أخلاقيون، وهذا غير صحيح»، وتُطرح تساؤلات مثل: «هل كان البشر ليتكاثروا إن لم يكن الجنس ممتعًا؟» و«هل يجب علينا التبشير بوقف التناسل؟».
لكن أفكار رفضة التناسل ليست فقط عقائد مجموعة صغيرة شاذة من مرتادي «Reddit»، إذ تأسس حزب سياسي لرفضة التناسل في بريطانيا، ويستخدم عبارات وشعارات أقل سوداويةً وأكثر مرحًا، مثل دعوته على موقعه الرسمي: «لنكن آخر أجيال البشرية، ونقضي أيامنا الأخيرة مع حزب ليبرالي مبتهج».
تشير غاندر إلى شمول البيان الرسمي للحزب عدة مقترحات لكبح رغبة الناس في التناسل، أهمها الحرمان من الامتيازات الضريبية للآباء، وزيادة الضرائب على اللحوم لضمان عدم إلحاق الأذى بالحيوانات، ووضع تشريعات تسمح للطبيب بإجراء عمليات الموت الرحيم لمَن يعانون مشاكل صحية خطيرة، سواء عضوية أو عصبية مثل الأمراض العقلية، حتى إن لم تكن مميتة.
انتخبوا رفضة التناسل
تأسس حزب «رفضة التناسل» في بريطانيا يوم 21 يناير 2016، بحسب موقعه الرسمي، ولا يتوقع الحزب تحقيق أي نجاح على المستوى السياسي، إذ يدرك أعضاؤه أنهم لا يتبنون أفكارًا تعاكس ما هو سائد فحسب، بل تعارض نظرية التطور بأكملها، ويؤمن مؤسسو الحزب أن أقل النجاحات، مثل تراجع شخص واحد عن تفكيره في الإنجاب، سوف يُسهم في تحسين وضع العالم.
يؤكد مؤسسو حزب «رفضة التناسل» أنهم لا يتمنون الموت للبشر ولا يروجون للانتحار.
يقول نديم علي مؤسس الحزب، متحدثًا إلى غاندر، إن «فلسفة رفض التناسل قائمة على إدراك تبعات الولادة في العالم الحالي، فأنت معرض للشقاء في حياتك كما أنك معرض للمتعة، لكن الفارق أن المتعة مؤقتة ولا تدوم، عكس الشقاء والمعاناة»، وبالتالي يُصبح «درء المفاسد مقدَّمًا على جلب المصالح».
اقرأ أيضًا: العاقبة والعقاب: عندما ننتقم من أطفالنا دون أن ندري
يرى أستاذ الفلسفة «ديفيد بيناتار»، وهو من مؤيدي الفكرة، أن «غياب البشر عن الأرض لن يكون أمرًا سيئًا على الإطلاق»، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أنه لا يقصد اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة، وبعضها سيئ السمعة بالتأكيد، لتحجيم عدد البشر.
ارتباط أفكار رفضة التناسل بمسائل مثل الألم والمعاناة يجعل فلسفتهم أكثر تعقيدًا في رأي بيناتار، فهم لا يتمنون الموت للبشر كما قد تظن، ولا يروجون للانتحار أو يعتبرونه إيجابيًّا، وهم ليسوا عدميين، وأشهر التعميمات بشأنهم، أنهم يعتقدون بضرورة أن يقتل كل البشر أنفسهم، تعميم مغلوط تمامًا.
يرى بيناتار ورفاقه من رافضي التناسل أن الوضع الحالي للبشر وتكيفهم معه ليس إيجابيًّا، بل على العكس، سيؤدي إلى انهيار البشرية وتداعيها بدرجة مرعبة، ويقول تعليقًا على ذلك إن «معظم الناس لم يستوعبوا مدى سوء العالم الذي يعيشون فيه، رغم كل الحقائق التي تشير إلى كارثية الوضع».
هل تصوت لرافضي الإنجاب في الانتخابات؟
لنحاول أن نتخيل إنشاء حزب كهذا في أي بلد عربي وسنجد كثيرًا من العوائق في مواجهة الفكرة، أهمها الفقر ونقص المعرفة والدين، إذ يؤدي أول عاملين بمعظم الناس إلى اللهاث من أجل لقمة العيش، ويصبح هذا اللهاث شاغلًا عن اهتمامهم بطرح مثل هذه الفلسفية.
مَن يقضي معظم وقته باحثًا عن القوت، والعاطل عن العمل بسبب محدودية معارفه ومهاراته، لن تخطر بباله مسائل من قبيل الانفجار السكاني وصراع البشر على الموارد الطبيعية، وأثر زيادة أعداد الناس في مقدرات الكوكب، وأثرهم في تدمير الطبيعة بسبب حاجتهم الدائمة إلى المسكن والمأكل والمشرب، فهذا النوع من القضايا الكبرى لا يشغل المنطقة العربية عادة، وتظل غارقة في مختلف أنواع الصراعات ومختلف مسببات الفقر والجهل.
أما الدين فيزخر بالأدبيات التي تبدو مناقضة للفكرة، مثل قول الرسول محمد: «تناكحوا تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة»، وكذلك الفكرة القائلة إن الأرزاق بيد الله، وكل مولود يأتي ورزقه معه، ممَّا يجعل الرفض التام للتناسل غير مقبول بالنسبة إلى معظم الناس، لكن حتى المحاولات البسيطة لتقنين التكاثر تُواجَه بالمقاومة الدينية، رغم أن المسلمين قد يهملون آيات أخرى من القرآن، مثل: «ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر»، التي تشير إلى التناسل كمصدر إلهاء عن مقاصد دينية، أو إنسانية، أسمى.
قد يهمك أيضًا: ماذا لو قابلت الله؟
تميل الشعوب إذًا إلى عاداتها القديمة في المباهاة بكثرة البنين، التي كانت مصدرًا للقوة والعزوة في مجتمع القبيلة. وبسبب النصوص الدينية الموافقة للأهواء الموروثة، صارت الدعوة إلى تقنين عملية الإنجاب تواجَه بالمقاومة والرفض من الجموع، وهو أمر مفهوم في مجتمع شديد التدين، فدعوة الشيخ إلى التناسل وعدم استخدام موانع الحمل لِما فيها من مقاومةٍ لإرادة الله، تكون دائمًا أقوى أثرًا من دعوة العالم والطبيب التي تحذر من زيادة السكان وضرره على الأسرة الواحدة قبل ضرره المحتمل على المجتمع والبيئة.
فاطمة بنت ناصر