هل أنت غاضب؟ جيد.. يمكنك تغيير العالم
من المَشاهد التي تُضحكني كثيرًا في فيلم (Anger Management) للمخرج بيتر سيجال، ذلك الذي يقول فيه جاك نيكلسون لآدم ساندلر، إن هناك نوعين من الغاضبين في هذا العالم: من ينفجر غضبه إلى الخارج ومن ينفجر غضبه إلى الداخل، الأول هو من تراه في المتجر، يصرخ في وجه الكاشير لأنه يرفض أن يأخذ منه كوبون الخصم على سلعةٍ ما، والثاني هو الكاشير نفسه الذي يظلُّ هادئًا يومًا بعد يوم، إلى أن تأتي لحظة يفتح فيها النار على كل مَن في المتجر. عندئذٍ يقول نيكلسون لساندلر: أنت من النوع الثاني، فيردُّ ساندلر قائلًا إنه لا هذا ولا ذاك، بل هو الرجل الذي يختبئ في قسم الأطعمة المجمَّدة ويطلب النجدة.
المشهد طريف بلا شكّ كالفيلم كله، وإن كانت الرسالة التي تصلني منه دائمًا كأيِّ مشاهدٍ عادي، أن لا نتيجة إيجابيَّة تأتي من الغضب على الإطلاق، أيًّا كانت صورته، خصوصًا أني عانيتُ منه فترةً طويلةً بالفعل، وأعرفُ ما يترتَّب عليه من آثار سلبيَّة تصل أحيانًا إلى حدِّ التدمير. كان هذا قبل أن أعرف أن العلم يقول شيئًا مختلفًا، وأن ثمَّة توازنًا ما، من الممكن تحقيقه، بل والاستفادة من الغضب في سبيل القيام بعملٍ بنَّاء.
نشر موقع (Quartz) الأمريكي مقالًا للكاتبة «ليلا أكاروجلو» (Leyla Acaroglu)، مؤسِّسة مختبر (UnSchool of Disruptive Design) للمعارف التجريبيَّة للمبدعين، في الثلاثاء 21 نوفمبر 2016، تهدم فيه اعتقادًا قد يظنه أغلبنا أساسيًّا، ويحكم العلاقة بين مشاعر الإنسان وتأثيرها في مقدَّرات العالم.
وتوضّح «أكاروجلو» أن كثيرين يفكرون هذه الأيام في أفضل الوسائل الممكنة لإحداث تغييرٍ في العالم، لذا فقد يتصوَّر البعض أن خير ما يمكن فِعله هو محاولة التغلُّب على الغضب والخوف وما شابههما من مشاعر، والتركيز على المبادرة بالقيام بعملٍ ما، غير أن العلم يشير إلى أن «تقبُّل الإحساس بالضِّيق من شأنه في واقع الأمر أن يساعدك على أن تكون مؤثِّرًا».
وعندما يتعلَّق الأمر بخوض حواراتٍ جادَّة عن الأسئلة المهمَّة المعقَّدة في زماننا هذا، كالفضيلة والحقوق والعدالة والأخلاق واستمراريَّة كوكبنا، فإن حالاتنا الشعوريَّة تؤثِّر في احتماليَّة قدرتنا على التصرُّف، فبدءًا من شعور الخوف ووصولًا إلى الحُب وغيرهما من مشاعر، يؤثِّر مزيج من المواد الكيميائيَّة العصبيَّة في أجسادنا وعقولنا بالتحفيز كما يؤثِّر بالتعجيز، وأحيانًا يكون تقبُّل الشعور بالضِّيق، بدلًا من تجاهُله كالمعتاد، هو الشيء الذي نحتاج إليه في سبيل إحداث تغيير في العالم.
وتلفت الكاتبة إلى أن أجسادنا تفضِّل دائمًا أن تكون في الحالة التي ترجوها من الاتِّزان الداخلي، فبينما تكون غاضبًا أو ثائرًا، يرغب مخُّك في وضع حدٍّ للحالة الانفعاليَّة التي تنتابه، أي إن الأرجح عندئذٍ أن لديك حافزًا على فعل شيءٍ ما لتغيير تلك الحالة والعودة بنفسك إلى اتِّزانها الداخلي، لكن حينما تشعر بأن كلَّ شيءٍ على ما يرام، تقلُّ احتمالات وجود ما يحفِّزك على القيام بفعلٍ ما، وهذا لأن مخَّك قرَّر بالفعل أن الأوضاع مستتبَّة، وعليه يمكنك أن تعود إلى السعي إلى المتعة وتجنُّب ما لا يروقك من أشياء.
وتساعد أفعالنا من عدمها على تقرير الاتجاه الذي يمضي فيه العالم، فإذا سارعنا بقبول موقف نتعايش معه لتفادي الشعور بعدم الراحة الذي يسببه الإحباط أو الغضب، فإننا بذلك نضع أنفسنا في حالة خطيرة من اللافعل، وعندما تترك عقلك يقول إن كلَّ شيءٍ سيكون بخير، وتصرفه عن التفكير فيما تعانيه، وتغوص في حالةٍ من الاسترخاء، لن يحدث أيُّ تغييرٍ في العالم أبدًا.
وثمَّة حالتان فسيولوجيتان تحكمان هذا النمط، بحسب كاتبة المقال، الأولى ردَّة الفعل إزاء الضغط، «أن تقاوم أو تهرب أو تتجمَّد في مكانك»، والتي يولِّدها إدراك خطرٍ محدقٍ ما، ويحدث هذا عندما تستجيب اللوزة العصبيَّة،وهي جزء شديد الأهميَّة من مركز الاستجابة العاطفيَّة في أجسامنا، للعامل المحفِّز، وتقرِّر ما تفعله بناءً على ذكرى ما تستدعيها من الحُصَيْن، الذي يعمل لعرضٍ لشرائح مسجَّلة عليها تجاربنا وخبراتنا الحياتيَّة، ويُعرف أيضًا باسم قرن آمون. هكذا، حين تدرك اللوزة العصبيَّة تعرُّضها للتهديد، فإنها تصاب بالهلع، وتحفِّز الجهاز العصبي السمبتاوي (الودِّي) على التصرُّف، فتُفرز فائضًا من المواد الكيميائية من شأنه أن يجعلك تهرب أو تتجمَّد في مكانك خوفًا، أو تصمد وتقاوم.
أمَّا الحالة الأخرى المعاكسة، والتي يجهلها كثيرون، فتُعرف باستجابة «استرخِ واهضم»، ويُشار إليها أيضًا بـ«تغذَّ وتكاثَر»، والتي يحكمها الجهاز العصبي اللاودِّي، فذلك الشعور المريح بالرضا الذي يراودك بعد تناوُل وجبة شهيَّة أو ممارسة الجنس هو استجابة «استرخِ واهضم»، وقد بدأت عملها، إذ تكافئك بإفراز هرمونات السعادة على قيامك بأنشطة ذات دافعٍ بيولوجي الغرض منها التغذية والتكاثر.
وبحسب الكاتبة، يمكن للضيق أن يكون حالة شعوريَّة مفيدة بمجرَّد أن تدرك أنه حافز للقيام بفعلٍ ما، أمَّا الراحة من ناحيةٍ أخرى فكثيرًا ما تكون عائقًا، فالإحساس بالاستثارة أو الضِّيق أو حتى العدوانيَّة يمكنه أن يدفعك إلى الحركة، ويعمل علاجا لحالة الانفصال الفاتر عن العالم التي تتسلَّل إلينا وتتمكَّن منا، كلما ظللنا شاعرين بالراحة فترة أطول. لا شكّ أن الشعور المستمر بالاضطراب ليس مفيدًا لنا، لكن النشاط العصبي المتزايد المرتبط بحالةٍ من الاستثارة، من شأنه أن يُفضي إلى المزيد من الأنشطة الموجَّهة نحو القيام بأفعال مفيدة.
وتؤكد «ليلا أكاروجلو» أن علينا تعلُّم كيف نعيد توجيه هذه الطاقة المستثمَرة لحساب الضِّيق، لكي تصبح وسيلةً للنشاط بدلًا من أن يشلَّنا الخمود، فـإذا أردت أن تصنع التغيير وتراه من حولك، فعليك أن تتقبَّل حالات الضِّيق والضغط بدلًا من تجاهُلها أو إجبار نفسك على عدم الإحساس بها. إن استثارة مخِّك استثمار مكلِّف للطاقة، فاستغلَّ هذا الاستثمار بحكمة بينما تعمل محرِّكات المخ بكل طاقتها.
صحيح أن تغيير طريقتك في الإدراك مرهق عصبيًا بالأساس، لكن مع اتخاذك الوقت الكافي واستثمار طاقتك، سيمكنك أن تحفّز نظام المكافأة لديك، ليسعى إلى السعادة الكامنة في الأشياء المعقدة، والشعور بالرضا تجاه الأمور غير المعلومة، فإذا أردت أن ترى تغييرًا في العالم، يجدر بك أن تغيِّر نفسك أولًا، ما يعني أن تتقبَّل المشاعر غير المريحة التي تحاول أمخاخنا تحاشيها باستمرار.
هشام فهمي