شاعر في السلطة: التاريخ الفريد للمعتمد بن عباد
درجت العادة أن يوثق رجال السياسة سير حياتهم وسنوات حكمهم والمحطات المهمة فيها. جرى ذلك في الماضي بالاستعانة بالأدباء والمؤرخين، ويجري اليوم بالاستعانة بصحفيين وكتَّاب. لكن ما ميَّز سيرة حياة المعتمد بن عباد، الذي حكم طائفة إشبيلية لثلاثين عامًا بين 1061 و1091 من الميلاد، أنها سُجِّلت بلسانه. لم يؤلف ملك إشبيلية كتابًا كحال معاصره ملك غرناطة المخلوع، عبد الله بن بلقين، في «التبيان»، بل بقصائده التي نظمها في مراحل حياته المختلفة، قبل الملك وخلاله وبعده.
توفر للمعتمد (اسمه الأصلي محمد) ما لم يتوفر إلا لقلة غيره. إذ جمع المُلك إلى قرض الشعر، وخلَّد بذلك قصته التي لم تخل من عناصر ملحمية أثَّرت صنعة الشعر في بعض مساراتها تأثيرًا مباشرًا، من عز الملك إلى ذل الأسر، ومن الصحبة والمودة الصافية إلى الغدر والخيانة، ومن الحب المتأجج في الشباب والمستمر حتى الممات.
بين المعتضد وابن زيدون
في العام 1040، ولد محمد بن عباد في مدينة باجة، وعاش طفولته في قصور إشبيلية التي حكمها والده المعتضد بن عباد، أحد أقوى ملوك الطوائف، والذي تحفل كتب التاريخ بروايات عن عنفه وسفكه للدماء، حتى قتل ابنه الأكبر إسماعيل بعد أن حاول الانقلاب عليه.
وعلى الرغم من دمويته أوْلى المعتضد اهتمامًا كبيرًا بالشعر والشعراء. لم يصرف وقتًا طويلًا في قرض الشعر رغم إجادته لنظمه، إلا أنه خصص يوم الإثنين من كل أسبوع، لاستقبال الشعراء دون غيرهم، وفي مقدمتهم أبو الوليد بن زيدون، أشهر شعراء عصره ووزيره الأول. في هذه الأجواء شب محمد، فنمت موهبته الشعرية وأجاد تأليف الشعر ونظم القوافي.
امتلأت رسائل محمد إلى والده بالشعر، تارةً يطلب منه وتارة يشكر له عطاياه. لكن أشهر ما كتبه كانت القصائد التي يستعطفه فيها بعد أن بعثه المعتضد لفتح مالقة وفشل. خشي الشاب غضبة أبيه، فالتجأ إلى رندة، ومن هناك أخذ يبعث إليه بقصائد يسأل فيها الصفح والعفو، ويعده بأن ما جرى كان زلة لن تتكرر. يقول في مطلع واحدة منها:
سكِّن فؤادك لا تذهب بك الفِكَرُ ... ماذا يعيد عليك البث والحذرُ
ويستعطفه في موضع آخر:
فالنفس حازعةٌ والعين دامعةٌ .. والصوت منخفض والطرف منكسرُ
وحُلت لونًا وما بالجسم من سقم … وشبت رأسًا ولم يبلغنيَ الكبرُ
يقول في قصيدة أخرى:
أقلني تجد عبدًا شكورًا وصارمًا ... يحزُّ من الأعداء لَيتًا وأخدعا
علَتني من السُّخط الأَليم سحابةٌ … فأَغْر بها ريح الرضا كي تقشَّعا
كذلك قامت علاقته مع ابن زيدون، الذي سيصير وزيره بعد تملُّكه، على تبادل الشعر، في مديح تارة وتسلية تارة أخرى. بعد أن أمر المعتضد بأن يكون مجلس الوزير دونًا عن مجلس ابنه، كتب الأخير لابن زيدون:
أيها المنحط عني مجلسًا ... وله في النفس أعلى مجلسِ
بفؤادي لك حب يقتضي … أن ترى تُحمل فوق الأرؤسِ
ليرد عليه ابن زيدون واصفًا إياه بأنه ملك، مالك بالبر رق الأنفس. في السنوات اللاحقة، يقوده الشعر وتبسُّطه مع العامة، على العكس من أبيه، للتعرف إلى شخصيتين كان لهما التأثير الأكبر في حياته: الشاعر أبو بكر بن عمار، واعتماد جارية الرميك بن الحجاج.
مع ابن عمَّار
تعرَّف المعتمد إلى ابن عمار يوم ولَّاه أبوه مدينة شلب المشهورة بكثرة شعرائها. في المدينة التي تقع اليوم جنوب البرتغال، التقى سليل الملوك بالرجل الفقير الرقيق المَنبت، لم تقف الفروقات الطبقية الهائلة بينهما عائقًا أمام صداقتهما التي أسسها الشعر، ومتَّنتها العشرة، فتوطَّدت أواصرها، وصفت المودة بينهما، وقضيا في المدينة أيامًا جميلة رافقت ذكرياتها المعتمد طويلًا.
بعد وفاة والده، ارتقى المعتمد سدة المُلك، وجعل من ابن عمار وزيره الأول ومدبر دولته. وحين أرسله واليًا على شلب، كتب إليه قصيدة يقول في مطلعها:
ألا حيِّ أوطاني بشلب أبا بكر … وسلهن هل عهد الوصال كما أدري
وسلِّم على قصر الشراجيب من فتى … له أبدًا شوقٌ إلى ذلك القصرِ
في السنوات التالية، يلعب ابن عمَّار دورًا كبيرًا في توسُّع مملكة المعتمد، ودفع خطر ملك قشتالة «ألفونسو» عنه. سيضم الوزير قرطبة إلى مُلك بني عباد، ويُبعد ألفونسو عن أسوار إشبيلية التي كانت على وشك السقوط. لم تخل حنكة ابن عمار من الخبث والمكر، وازداد زهوه بنفسه لاشتهاره بين الناس بـ«رجل الجزيرة». بعد أن انتزع مرسية من صاحبها ابن الطاهر، ولَّاه المعتمد عليها. وهناك بدأت بوادر الفُرقة تظهر بين الرجلين. إذ اتخذ الملك رسوم الملك دون خلع طاعة سيده صراحة، فلم يكن أمام الأخير سوى أن يكتب له:
تغيَّر لي في مَن تغيَّر حارِثُ … ورُبَّ خليلٍ غيرَته الحوادثُ
أَحارثُ، إِن شوركت فيك فطالما … نعمنا وما بيني وبينك ثالثُ
جاء رد ابن عمار مراوغًا. فقد تجاهل فعله، وحمَّل المسؤولية للوشاة الساعين بينهما:
أظن الذي بيني وبينك أذهبت … حلاوته عني الرجال الخبائثُ
تنكرت لا أني لفضلك ناكر ... لديَّ ولا أني لعهدك ناكثُ
لم ينكر صاحب مرسية فضل المعتمد عليه، لكنه أمره بتنظيف بلاطه من الوشاة، وزها بنفسه على سيده ذاكرًا أفضاله عليه:
أعد نظرًا لا توهن الرأي إنه … قديمًا كبا هافٍ وأدرك رائثُ
ستذكرني إن بان حبلي وأصبحت … تئن بكفيك الحبال الرثائثُ
وتطلبني إن غاب للرأي حاضر … وقد غاب مني للخواطر باعثُ
كسر هذا الرد المودة بين الرجلين، وتسببت قصيدة ابن عمار التي يهدد فيها ملك بلنسية، ويفخر فيها بنسبه رغم خمول وضاعته، إلى إعلان الحرب بينه وبين المعتمد. كتب ابن عمار لابن عبد العزيز قائلًا:
كيف التفلُّت بالخديعة من يديْ … رجل الحقيقة من بني عمارِ
فلما بلغ قوله هذا المعتمد، أنشأ على ذلك البيت قصيدة يسخر فيها من تفاخر ابن عمار ويعرِّض بنسبه:
الأكثرين مسوَّدًا ومملَّكًا … ومتوَّجًا في سالف الأعصارِ
والمؤثرين على العيال بزادهم … والضاربين لهامة الجبَّار
الناهِضين من المهود إلى العلى … والمنهِضين الغار بعد الغار
إن كثَّروا كانوا الحصى أو فاخروا … فمن الأَكاسر من بني الأَحرار
لم يحتمل ابن عمار كلام المعتمد، فشنَّع عليه وعرَّض بزوجته اعتماد التي كانت جارية قائلًا:
أراك تورِّي بحب النساء … وقدمًا عهدتك تهوى الرجالا
تخيرتها من بنات الهجان … رميكية ما تساوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار … لئيم النجارين عمًّا وخالا
سأهتك عرضك شيئًا فشيئًا … وأكشف سترك حالًا فحالا
لم يلبث ابن عمار طويلًا في حكم مرسية، إذ احتال عليه قائد جنده ابن رشيق، وطرده منها. بعد أن تشرَّد في ممالك الأندلس بعضًا من الوقت، ظفر به المعتمد، وحبسه قبل أن يقتله بيده. وعلى الرغم من ذلك، أمر بغسله ودفنه في واحدة من جنبات قصره المبارك.
مع اعتماد
أحب محمد بن عباد زوجته، واشتق لقب مُلكه «المعتمد على الله» من اسمها.
أما اعتماد التي هجاها ابن عمار، فكانت قبل لقائها المعتمد تعمل جارية في بيت تاجرٍ من إشبيلية، تغسل ثياب زوجته، وتجهِّز له دوابه. مصادفة كان المعتمد في واحدة من نزهاته مع ابن عمار في مرج الفضة المطل على مجرى نهر الوادي الكبير في إشبيلية، حين هبَّ النسيم على صفحة الماء، فارتجل المعتمد يقول: «صنع الريح من الماء زرد»، وطلب من صديقه أن يجيز الشطر الثاني.
احتبس الشعر على ابن عمار رغم شهرته بالارتجال. إذ ذاك اقتربت اعتماد، وأكملت البيت قائلةً: «أي درعٍ لقتالٍ لو جمد». بيت الشعر هذا، وجمالها وهيام المعتمد بها، جعلوا منها ملكة على إشبيلية. وبدل أن يشتريها من صاحبها ليضمَّها إلى جملة جواريه، أعتقها المعتمد لتُحمل في موكب احتفالي مهيب إلى قصره، حيث عقد قرانه عليها.
أحب محمد بن عباد زوجته، واشتق لقب مُلكه «المعتمد على الله» من اسمها، رغم ميله الدائم لجواريه التي تمتلئ أشعاره بذكرهن، كقوله في جاريته «جوهرة» بعد عتابٍ بينهما:
سرورنا بعدكم ناقص … والعيش لا صافٍ ولا خالص
والسعد إن طالعنَا نجمَهُ … وغبت، فهو الآفل الناكص
سموك بالجوهر مظلومة … مثلك لا يدركه غائص
إلا أنه ظل على حبه لاعتماد طوال حياته، وكثرت أشعاره فيها، فتفرَّد بين الشعراء في غزله بزوجته. يقول فيها:
أغائبة الشخص عن ناظري … وحاضرةً في صميم الفؤاد
عليك السلامُ بقدر الشجون … ودمع الشؤون وقدر السهاد
تملكت منِّي صعب المرام … وصادفت ودي سهـل القياد
مرادي لقياك في كل حينٍ … فياليت أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد ما بيننا … ولا تستحيلي لطول البعاد
دسست اسمك الحلو في طيِّه … وألّفت فيه حروف «اعتماد»
يقول في موضع آخر:
لقلبي لبعدك عنٍّي عليل ... فشوقي صحيح وجسمي عليل
وودّي على حسب ما تعلمين … تزولُ الجبال وما إِن يزول
فلا تستحيلي لبعد الديار … فإنِّي مع البعد لا أَستحيل
كلما ابتعد المعتمد عنها كتب لها الرسائل، وكلما أحس بجفوة منها نظم لها القصائد، وهو إلى ذلك صنع معها صنائع قد تفوق نظمه شاعرية. يقول الرواة إنها رغبت يومًا برؤية تساقط الثلج، ولما كان ذلك نادر الحدوث في المملكة أمر المعتمد بزرع التلال المحيطة بقرطبة بشجر اللوز الذي تتساقط أوراقه البيضاء عندما يزهر كحبَّات الثلج. لكن يظل أشهر صنائعه معها في اليوم الذي عُرِف بـ«يوم الطين».
رأت اعتماد بائعات لبن يخبطن في الطين، فرغبت في النزول إليهن. ولمّا كان فعل ذلك مستهجنًا على الملكة. أمر المعتمد بالكافور والورد والسكر والزنجبيل ومختلف أنواع الطيوب، وأمر بخلطها بالماء في ساحة القصر حتى صارت عجينة، فنزلت اعتماد ووصيفاتها يخبطن في الطين، ويلعبن به. ولما اختلف الزوجان في يوم من الأيام، قالت له: «والله ما رأيت معك يومًا حسنًا»، فقال لها: «ولا يوم الطين؟». فخجلت، ولم تجادل.
حياة الملك
كان المعتمد في الثلاثين من عمره حين خلف أباه في العام 1069. وعلى العكس من المعتضد كان رقيق القلب، لم يقتل منتقديه من الفقهاء، وأعاد لكثيرٍ ممن بطش بهم والده أراضيهم وأملاكهم. امتلأت قصور المعتمد بالشعراء ومجالس الأنس واللهو.
وقيل إن حبه للشعراء بلغ أنه لم يستوزر كاتبًا أو وزيرًا ما لم يكن شاعرًا، فاجتمع إليه أهم شعراء الأندلس في عصره، كابن زيدون وابن اللبانة وابن حمديس وأبو بكر بن عبد الصمد. فكانت إشبيلية بذلك أعلى طوائف الأندلس شأنًا في السياسة والأدب. وهو إلى ذلك منصرف إلى مجالس اللهو والأنس، وذلك ما يظهر في أشعاره:
الصبح قد مزق ثوب الدُجى … فمزق الهمَّ بكفي مها
خذ باسمها من ريقها قهوةً … في لون خدَّيها تجلي الأسى
ومنه قوله في جاريته وداد:
اشرب الكأس في وداد ودادك … وتأنَّس بذكرها في انفرادك
قمرٌ غاب عن جفونك مرآه ... وسُكناه في سواد فؤادك
إذا كان ذلك مألوفًا في حياة الملوك، فإن موادعته وغيره من ملوك الطوائف، لملك قشتالة ألفونسو، وتأديتهم الجزية له، مع ما عُرف عنه من هيامه بزوجته حتى قيل إنها غلبت عليه، أجج نقمة فقهاء الأندلس عليه. وجاء سقوط طليطلة، مملكة بني ذي النون، في يد ألفونسو عام 1085، ليصحو من سكرته.
إذ صار خطر ملك قشتالة بيِّنًا، وازداد ضغط الفقهاء والعامة على ملوكهم، ولم يعد أمامه سوى الاستنجاد بيوسف بن تاشفين لردِّ أذاه. وعلى الرغم من خوفه من تغلُّب المرابطين عليه وسلبه ملكه، ورغم تحذيرات ابنه الرشيد له، فإنه عزم على قراره، قائلًا عبارته الشهيرة: «رعي الجِمال خير من رعي الخنازير».
لم يمر سوى عام واحد على سقوط طليطلة حتى جاز المرابطون البحر إلى الأندلس، ووقعت معركة «الزلاقة» بين المسلمين والقشتاليين، والتي انتهت بفوزٍ ساحق للمسلمين. لكن، بمجرد رجوع المغاربة، عاد أمراء الأندلس إلى ما كانوا فيه من شقاق وفتن. إذ ذاك عمد فقهاء الأندلس إلى إصدار فتوى ليوسف بن تاشفين بوجوب خلع أمرائهم. عندئذٍ عمد الرجل الذي كان قد طمع في البلاد، إلى إرسال قادته في عام 1091 مرة أخرى إلى الأندلس، بهدف التغلب عليها والإطاحة بملوكها.
دافع المعتمد عن ملكه أشد المدافعة. لكن مدنه تساقطت الواحدة تلو الأخرى فخسر طريف وقرطبة وقرمونة وألمرية ورندة، وقُتل أربعة من أولاده. وعندما حاصر جيش المرابطين إشبيلية اندلعت الثورة فيها، ونجح المحاصِرون في التسلل من ثغرة بسور المدينة، فخرج إليهم المعتمد مقاتلًا، ونجح في ردِّهم. يقول عن ذلك اليوم:
قالوا الخضوع سياسةٌ … فليبد منك لهم خضوع
وألذُّ مِن طعم الخضـوعِ … على فمي السم النقيع
إِن يسلب القوم العدا … ملكي وتسلمني الجموع
القلب بين ضلوعه … لم تُسلم القلب الضلوع
بقي المعتمد رافضاً للاستسلام مفضّلاً الموت عليه، وظلّ حتّى الرمق الأخير مؤمناً بتنبؤات منجّمه أبا بكر الخولاني ببقاء ملكه، إلّا أنّ معطيات المعركة كانت تشير بعكس ذلك، واضطر في آخر الأمر لتسليم المدينة، وخاطب منجّمه بقصيدة مطلعها:
أرمدْت أم بنجومك الرّمد؟ قد عاد ضدّاً كلّ ما تعد
انتهت أيام الرخاء، وحلّت أيام الكرب والبلاء على المعتمد. اجتمع أهل إشبيلية الذين ثاروا عليه بالأمس لرؤيته بعيونٍ تملؤها الدموع وهو يخرج مغلولاً بالأصفاد إلى حيث أمر يوسف بن تاشفين في المغرب، لتبدأ محنة المعتمد.
في المنفى
كان أول نزول المعتمد في المغرب في موضع خرج أهله للاستسقاء. وهو وإن خسر ملكه، فإنه لم يخسر قريحته الشعرية، فأنشد:
خرجوا ليستسقوا فقلت لهم ... دمعي ينوب لكم عن الأنواءِ
قالوا صدقت، ففي دموعك مقنعٌ … لو لم تكن ممزوجةً بدماءِ
سيسيطر هذا اليأس والحزن من الآن فصاعدا على شعر المعتمد، وسيغيب الغزل والخمر والحدائق الغنَّاء إلى الأبد عن شعره، ومع ذلك لن يغيب عنه الشعراء. أنزل المعتمد في بداية منفاه في طنجة، فوفد عليه علي الحصري الضرير، صاحب قصيدة «يا ليل الصب»، وقدَّم له كتابه «المستحسن من الأشعار»، فأرسل له المعتمد ثلاثين مثقالًا من الذهب كانت آخر صلاته الملوكية. ولما علم شعراء المدينة بذلك سارعوا إلى قصده، فتعجَّب صاحب الملك السليب من فعلهم قائلًا:
شعراء طنجة كلهم والمغرب … ذهبوا من الأغراب أبعد مذهبِ
سألوا العسير من الأَسير وإنه … بسؤالهم لأحقُّ منهم، فاعجبِ
لولا الحياء وعزّةٌ لخميةٌ .... طيّ الحشا لحكاهم في المطلب
استسلم المعتمد لليأس. لكنه لم يخسر فخره بنفسه ونسبه، وهو ما سيعينه مع ذكريات مجده على الصبر. بعد طنجة نقل إلى مكناس، حيث مكث عدة أشهر، قبل أن يُنقل أخيرًا إلى أغمات التي عاش فيها مصفدًا بالأغلال سنواته الأخيرة مع زوجته اعتماد وبناته في عوزٍ وفقر، في بيتٍ حقير تحت حراسة المرابطين. يصف المعتمد في أحد الأعياد ما صار إليه حاله ويتحسر على الماضي بالقول:
في ما مضى كُنت بِالأَعياد مسرورا … فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأَطمار جائعةً … يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافيةٌ … كأَنّها لم تطأ مسكًا وكافورا
على الرغم من انقلاب الدنيا عليه وسقوطه عن سدَّة الملك، بقي شعراء بلاطه يفدون عليه، فزاره ابن اللبانة غير مرَّة، وكذلك فعل ابن حمديس. وبعد أربعة أعوام في المنفى، توفي المعتمد وصُلِّي عليه صلاة الغريب، قبل أن يُدفن إلى جانب زوجته اعتماد التي وافتها المنية قبل ذلك بوقت قصير.
الملك الشاعر
احتوت شخصية المعتمد الشيء وضده، وظل الشعر يؤنسه حتى في قبره، حيث توافد الشعراء على مرقده عبر العصور.
تلازمت حياة المعتمد مع شعره، إذ كان جلُّه مرتبطًا بأحداثٍ عاشها أو بخواطر مرَّت على ذهنه، فجاء واضحًا خاليًا من الغموض متناغمًا في وحدة مقطوعاته الشعرية. زاد من ذلك أن شعره كان تعبيرًا عن عاطفة حقيقية ومشاعر صادقة، إذ لم ينظم القوافي للتكسب يومًا.
حوت سيرة المعتمد، بما هي عليه من تقلُّبات وتناقضات، ملامح من سيرة معاصرة أكثر منها سيرة ملحمية. قاتل المعتمد ضد الرومي في «الزلاقة» أشد القتال، ومن ثمَّ تحالف معه بعد أن خاف المرابطين. ذهب في عشقه لزوجته حتى النهاية، وتعرَّض للخيانة من صديقه الذي رفعه إلى أعلى المراتب. حيَّرت شخصية المعتمد المؤرخين، فلم يجعلوه بطلًا من أبطال الإسلام، ولم يضعوه في مرتبة الخونة. لاموا عشقه لزوجته، وتغنوا به في الوقت نفسه. وقفوا مع ابن تاشفين في خلعه، ثم أنكروا عليه قسوته معه.
احتوت شخصية المعتمد الشيء وضده، كأي إنسانٍ، لكن محنته الأخيرة رجَّحت كفة التعاطف معه، وظل الشعر يؤنسه حتى في ظلمة قبره. توافد الشعراء على مرقده عبر العصور، وحدث أن قدم الشاعر ابن عبد الصمد إلى أغمات يوم عيد الفطر، فطاف حول قبره طواف الحجيج حول مكة، ثم خر على تربه ولثمه، منشدًا قصيدة يقول في مطلعها:
ملك الملوك أسامع فأنادي … أم قد عدتك عن السماع عوادِ
لما خلت منك القصور ولم تكن … فيها كما قد كنت في الأعياد
في القرن الرابع عشر، زار لسان الدين الخطيب أغمات، وأنشد على قبر المعتمد قائلًا:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات … رأيت ذلك من أولى المهمات
لِم لا أزورك يا أندى الملوك يدا … ويا سراج الليالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه … إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هضب يميزه … فتنتحيه حفيات التحيات
كُرِّمت حيًّا وميتًا واشتهرت عُلا ... فأنت سلطان أحياء وأموات
رضا حريري