أسطورة اللعنة المقدسة: لماذا يفشل الحلم الكردي كل مرة؟
ربما يكون الأكراد أحد أكبر الأقليات في العالم التي لا تملك دولة تعبر عنها وتدافع عن حقوقها. ورغم كثرة المحاولات والثورات الكردية لتأسيس دولة أو إقامة كيان مستقل، يبوء معظم هذه المحاولات بالفشل، أحيانًا كثيرة بسبب خلافاتهم الداخلية، وأحيانًا أخرى بسبب الموقف الدولي ضدهم.
حال الشقاق والتشرذم الذي تعانيه القومية الكردية على مدار تاريخها فتحت الباب لانتشار الأساطير والروايات غير المنطقية بين عوام الكرد ومثقفيهم، ووثقتها الأبجديات والمراجع الكردية.
أغرب ما قيل في الشقاق الكردي تلك القصة التي ذكرها شرف الدين البدليسي، صاحب كتاب «شرفنامة»، وهو أول كتاب يبحث في التاريخ الكردي، وصدر في القرن السادس عشر.
يتحدث المؤلف عن حكاية تُروى عن دعوة الرسول محمد على الكرد، ففي بداية الرسالة الإسلامية أرسل «أغورخان» ملك تركستان وفدًا إلى محمد برئاسة شخص يدعى «بغدور»، أحد أمراء الكرد، وكان كريه المنظر فظًّا غليظًا شديد المراس، فلما وقع نظر الرسول عليه فزع ونفر منه نفورًا شديدًا. وعندما سأل عن أصله وجنسه قيل إنه من الطائفة الكردية، وعندئذ دعا النبي قائلًا: «لا وفق الله تعالى هذه الطائفة إلى الوفاق والاتحاد».
هذه الرواية بالطبع ورغم غير مُثبتة تاريخيًّا وقد تكون غير دقيقة، لكن أن يوردها كاتب كردي في القرن السادس عشر له دراية بعدم وفاق الكرد وتوحدهم، فقد تكون دليلًا على وعي الأكراد منذ زمن بعيد بتشتتهم واختلافهم، الوعي الذي ربما أنتج حكاية مثل هذه.
بحسب صاحب «شِرفنامة»، فإن الميل إلى الفُرقة والعزلة سمة رئيسية من سمات الأكراد، الذين يميلون للفرقة وسفك الدماء وعدم رعاية الأمن والنظام، ويثورون لأتفه الأسباب. وينقل البدليسي عن الكاتب التركي مولانا سعد الدين وصفه للأكراد بأن «كل واحد منهم رافع رايات الاستبداد والانفراد، مفضلًا الحياة المستقلة في الجبال والأودية».
الكُرد: فن صناعة الخلاف
رغم الاتهامات التي تلاحق الأكراد في أحيان كثيرة بعلاقاتهم وعمالتهم للدول الغربية، حتى وصل الأمر إلى وصفهم بإسرائيل الثانية التي تسعى واشنطن إلى زرعها وسط الدول العربية، كما حدث خلال فترة الاستفتاء في كردستان العراق، فإن تاريخ الموقف الغربي مع المعاناة الكردية ربما يدحض كل هذه الاتهامات.
تبدو سياسة «فرِّق تسُد» الاستراتيجية الرسمية التي اعتمدها العالم في تعامله مع الأكراد، ففي ظل عدم وجود دولة كردية أصبحوا ورقة تتقاذفها المواءمات السياسية، حتى صارت معظم الفصائل والأحزاب الكردية تخضع بشكل أو بآخر لدولة إقليمية ما، ما أضعف القضية الكردية وجعلها تتهاوى أمام مصالح الدول الكبرى.
في كتابه «كردستان مستعمرة دولية»، يرى عالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشكجي أن أكبر مصيبة يمكن أن تحل في تاريخ أمة هي أن تصبح هدفًا لسياسة «فرِّق تسُد»، لأن هذه السياسة تدمر كيان الأمة وتقطع أوصالها. وهذا ما حدث بالنسبة إلى الأمة الكردية في الربع الأول من القرن العشرين، وما زال يحدث حتى الآن.
يرى بيشكجي أن «الأكراد أمة دون دولة، والهدف الرئيسي للاستعمار الدولي أن يحُول دون تأسيس دولة كردية، الأمر الذي يسهل الاستغلال المستدام للموارد الطبيعية وآبار النفط والمياه والمعادن الأخرى من ثروات كردستان»، وهو ما بدا واضحًا بوقوف أغلب الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ضد استفتاء انفصال كردستان العراق عن بغداد.
منذ 2003، ظل وضع الأكراد يسير بشكل جيد حتى بدأ الحديث عن استقلال كردستان بشكل كامل عن العراق وإعلان دولة كردية.
يذخر التاريخ الكردي بكثير من وقائع صراع بين القيادات الكردية التي تصل إلى مرحلة الحرب الأهلية، كما حدث في التسعينيات، في ما يعرفه التاريخ الكردي بـ«حرب الإخوة»، حين شهد الإقليم حربًا دموية بين حزبي «الاتحاد الوطني الكردستاني» بقيادة جلال طالباني الذي تربطه علاقات وثيقة بطهران، و«الديمقراطي الكردستاني» بقيادة مسعود بارزاني الذي تربطه علاقات جيدة بتركيا.
وقتها تقدمت قوات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني التي تحظى بعلاقات جيدة مع إيران نحو أربيل، وانتزعت السيطرة على عاصمة الإقليم من حزب بارزاني، فما كان من الأخير إلا أن ذهب إلى بغداد طالبًا العون من صدام حسين، الذي تدخل بقوات الجيش العراقي لينتزع السيطرة على العاصمة من طالباني، ويسلمها إلى بارزاني.
وئام مؤقت
منذ إطاحة الغزو الأمريكي بصدام حسين عام 2003، تعاون الحزبان إلى حد كبير في إدارة المنطقة الكردية. فسيطرت قوات «الاتحاد الوطني» على السليمانية، وتحكمت قوات «الديمقراطي» في أربيل ودهوك. وبينما تولى البرزاني رئاسة الإقليم، تولى جلال طالباني، القيادي في حزب الاتحاد الوطني، رئاسة العراق وقتها، وهو منصب شرفي خُصِّص للأكراد في عراق ما بعد صدام.
تعزز الوجود الكردي في الساحة العراقية، وحصل إقليم كردستان على ما يشبه الحكم الذاتي، فقد كان له رئيس وحكومة وبرلمان مستقل بشكل كامل عن الحكومة المركزية في بغداد، وكان هناك ممثلون للكرد في برلمان بغداد والحكومة العراقية، ما جعل من الأكراد مكونًا رئيسيًّا لعراق ما بعد صدام.
منذ 2003، ظل وضع الأكراد يسير بشكل جيد حتى بدأ الحديث عن استقلال إقليم كردستان بشكل كامل عن العراق وإعلان دولة كردية شمالي البلاد، الأمر الذي لم يكن عليه إجماع كردي من الأساس، فضلًا عن وجود رفض عربي وإقليمي ودولي للفكرة، التي لم يحسن ساسة الكرد اختيار وقتها المناسب في ظل استمرار الحرب على داعش في العراق.
جاءت الإجراءت التي صاحبت الاستفتاء الكردي لتعمق حجم المعاناة الكردية، فقد تحول حلم الاستقلال إلى كابوس، وانقلبت الوعود بدولة كردية إلى تنازلات طالت سيادة الحكم الذاتي، وسيطرت بغداد على منافذ الإقليم، وفُرِض الحصار الكامل على كردستان.
نكسة كركوك
في صبيحة 17 أكتوبر 2017 فوجئ شعب كردستان العراق بدخول ميليشيات الحشد الشعبي والقوات العراقية مدينة كركوك، وسيطرتها على مطار المدينة ومعسكراتها ومنشآتها النفطية، دون أدنى مقاومة من البشمركة الكردية (جيش الدفاع الكردستاني)، ما دفع الحزب الديمقراطي إلى اتهام غريمه الاتحاد بالتواطؤ وتسليم كركوك.
لم تكن الإجراءات المضادة لاستقلال الإقليم الكردي لتَحدث إلا بوجود خلافات كردية-كردية، وصلت إلى حد تبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة والفساد بين قيادات حزبي الاتحاد والديمقراطي.
بعد سيطرة القوات العراقية على كركوك أصدرت القيادة العامة لقوات البشمركة بيانًا حذَّرت فيه الحكومة العراقية من أنها «ستدفع ثمنًا باهظًا لحملتها على كركوك»، واتهمت فصيلًا من الاتحاد الوطني الكردستاني بـ«الخيانة، لمساعدته بغداد في العملية».
صدر كذلك بيان عن رئاسة الإقليم يصف ما حدث في كركوك بـ«المجزرة» التي تعرض لها الشعب الكردي، ويتهم في الوقت نفسه سياسيين أكرادًا بالتورط في الأحداث.
على الناحية المقابلة، كانت ردود فعل قيادات حزب الاتحاد قوية ومعبِّرة عن حجم الانقسام داخل الإقليم والخلافات حول مسألة الاستفتاء، فقد أرجع الرئيس العراقي فؤاد معصوم، وهو نفسه قيادي في حزب الاتحاد الكردستاني، سبب ما حدث في كركوك إلى خطوة الاستفتاء التي أقدم عليها رئيس الإقليم برزاني، وما أثارته من خلافات مع حكومة بغداد.
وأعلن «لاهور شيح جنكي»، نجل شقيق الزعيم الكردي جلال طالباني والمسؤول عن جهاز مكافحة الإرهاب في حزب الاتحاد، أن حزبه لن يضحي بأبنائه من أجل تعزيز سلطة مسعود برزاني: «كنا نحمي الشعب الكردي، بينما كان برزاني يسرق النفط».
في ظل هذه الخلافات التي ربما أجَّجتها دول إقليمية كانت معارضة بشكل كبير لفكرة الاستفتاء، حوصر الإقليم وانتُزعت كل مكتسباته، ووصل الأمر إلى تنحي مسعود برزاني عن السلطة، أو بتعبير أدق، رفضه الترشح لولاية جديدة، ليصبح الإقليم حتى الآن دون رئيس بعد أن آلت كل صلاحياته إلى رئيس الحكومة.
أكراد ضد عفرين
لم يختلف الوضع في سوريا كثيرًا عن العراق، فالحرب التركية على مدينة عفرين شهدت وجود مئات المقاتلين الكرد ضمن فصائل الجيش الحر الموالية لأنقرة.
بعد سقوط المدينة شكلت تركيا إدارة للمدينة شارك فيها أكراد موالون لأنقرة، يعتبرون ما شهدته المدينة من تدخل تركي تحريرًا وليس احتلالًا.
الغريب أنه بالتزامن مع الحملة العسكرية التركية على عفرين شهدت مدينة أربيل في كردستان العراق معرضًا للسلع التركية، في رسالة ضمنية بدعم أكراد العراق، أو بالتحديد الحزب الديمقراطي الكردستاني، لعملية «غصن الزيتون» التركية ضد أكراد عفرين، وهو موقف يتوازى مع موقف فرع الحزب في سوريا المعروف بالمجلس الوطني الكردي، الذي لم يتوقف طوال فترة الحرب وما بعدها عن الهجوم على حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) واتهامه بالديكتاتورية والاستبداد، دون أن يتطرق إلى ممارسات الأتراك في عفرين.
تاريخ من الخلافات
إذا ابتعدنا عن سقوط عفرين وكركوك، نجد التاريخ الكردي يحفل بكثير من الوقائع المشابهة التي أدت بشكل كبير إلى تأجيل الحلم الكردي أو إسقاطه، وإجهاض الثورات الكردية، كما حدث فى ثورة الشيخ محمود الحفيد، الذي أعلن تأسيس مملكة كردستان (أكتوبر 1922-يونيو 1924) شمالي العراق.
يتحدث التاريخ الكردي عن دور شيخ عشيرة هماوند الكردية «مشيرهماوندي الجاش»، الذي تحالف مع القوات البريطانية والعراقية ضد الشيخ الحفيد، والتف بقواته حول القوات الكردية، فجُرح الشيخ محمود وأُلقي القبض عليه، وسيق إلى بغداد، وحكمت عليه المحكمة البريطانية بالإعدام، ثم خفَّفت الحكم إلى 10 سنوات قبل أن تنفيه إلى الهند.
واقعة الشيخ الحفيد عبَّر عنها الكاتب الأمريكي «جوناثان راندل»، في كتابه «أمة في شقاق»، بقوله إن الصراعات الكردية عميقة وقديمة وقوية إلى درجة أنه في حال انضمام زعيم إحدى القبائل إلى الحركة القومية، فإن زعيم القبيلة المنافسة قد يقف على الحياد، أو قد يأخذ أموالًا وأسلحة من الحكومة للقتال إلى جانب قواتها.
التدخل الدولي
يرى راندل أن الخيانة الدولية للأكراد، وعمليات التهجير التي تعرضوا لها، والنزوح عن قراهم بحثًا عن لقمة العيش، كلها عوامل أدت إلى إضعاف الروابط التقليدية في المجتمع الكردي، وعمدت الحكومتان العراقية والتركية إلى إحياء وتعميق العلاقات القبلية والعشائرية خلال الثمانينيات والتسعينيات باستخدام شبكة العلاقات القديمة والضعيفة لإنشاء ميليشيات كردية تتولى محاربة البشمركة، بما يحقق مصالحهم الخاصة في إضعاف الأكراد.
ما قاله راندل يتفق مع رؤية عالم الاجتماع التركي إسماعيل بيشكجي في توصيف الأزمة الداخلية الكردية، إذ يتحدث عن من وصفهم بـ«طبقة العملاء»، وهم مجموعة من القوى التقليدية الكردية التي سعت الدول التي تقتسم كردستان للسيطرة عليهم وشراء ولاءاتهم مقابل امتيازات يحصلون عليها، كتعيينهم نوابًا في البرلمانات المركزية أو وزراء أو موظفين كبار في الدولة، لقاء تخليهم عن هويتهم القومية.
يؤمن بيشكجي أن هذه الطبقة من العملاء التي تخون قضية شعبها وتزداد ثراءً أصبحت ظاهرة عامة، وتعكس تحولًا سياسيًّا في المجتمع الكردي، مشيرًا إلى أن مهمة هؤلاء تنحصر في تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من الأجهزة العسكرية والأمنية والمخابراتية.
يبدو الأكراد ضحية أكثر من كونهم متهمين، فهم لم يتمكنوا رغم كثرتهم النسبية من تشييد أي دولة قومية لهم، ويعيشون في أغلب الأحيان في حالة من القلق والتوتر داخل الدول القومية الأخرى، التوتر الذي يرون حله الوحيد إقامة دولتهم الخاصة، لكنهم كلما اقتربوا من ذلك، أفشلتهم خلافاتهم الداخلية والرفض الدولي لنشوء مثل هذه الدولة.
محسن عوض الله