مَن يُصلِح ما فشل فيه مانديلا؟
يقترن اسم الزعيم الجنوب إفريقي الراحل نيلسون مانديلا بالتبجيل والثناء؛ باعتباره منقذ السود في جنوب إفريقيا من الاضطهاد على يد البيض الأوروبيين، وصحيح أنه لا يمكن التشكيك في أهمية الإنجاز الذي حققه مانديلا، إلا أن ثمة جوانب أخرى شديدة السوء لتجربة الرجل، تغيب عادة عن أذهان مادحيه.
جنوب إفريقيا: قصة العنصرية
بدأ الهولنديون استيطان جنوب إفريقيا عام 1652 م، حين أنشأوا مستوطنات معزولة عن السكان الأصليين من السود (البانتو)، ثم تلاهم مستوطنون من فرنسا وألمانيا والبرتغال، ثم البريطانيون الذين أسسوا واحتلوا مقاطعات خاصة بهم، وأحضروا الهنود والباكستانيين وجنسيات آسيوية أخرى ليعملوا في مزارعهم ومصانعهم.
وفي عام 1910 تكوَّن اتحاد جنوب إفريقيا، يحظى فيه المواطنون من البيض فقط بالحقوق السياسية، ولمواجهة ذلك، أسس السكان الأصليون من السود المؤتمر الوطني الأفريقي (African National Congress) في 8 يناير 1912 للدفاع عن حقوقهم أمام سيطرة الأقلية البيضاء.
انضم نيلسون مانديلا إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في المرحلة الجامعية، وأسهم في إنشاء رابطة الشبيبة في المؤتمر، وفي زيادة شعبية الحزب وتحويله إلى حركة جماهيرية تضم عشرات ومئات الآلاف من السود، وقاد حراكات نضالية غير عنيفة ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتيد)، حتى عام 1960 عندما تم حظر كل المنظمات السياسية الممثلة للسود، بعد أحداث مجزرة شاربفيل، فأسس مع الشيوعيين منظمة رمح الأمة المسلحة، إلى أن تم اعتقاله عام 1962 ليمضي 27 عامًا في السجن، رفض خلالها عروضًا لإطلاق سراحه مقابل الابتعاد عن الأنشطة السياسية.
تصاعد الدعم الدولي لمانديلا من الشعوب والحكومات، وتحول إلى رمز نضال عالمي، وتصاعدت الحملة الدولية لمقاطعة نظام الفصل العنصري اقتصاديًا وسياسيًا، ما أجبر الحكومة على الدخول في مفاوضات معه، دون تقدم حقيقي، إلا في نهاية الثمانينات عندما تولى الحكم فريديريك ويليم دي كليرك آخر رئيس أبيض لجنوب إفريقيا، وكانت البلاد وقتها على حافة حرب أهلية مع تصاعد العنف وانتشاره، فبادر دي كليرك إلى إطلاق سراح السجناء السياسيين ومن بينهم مانديلا، ورفع الحظر عن الأحزاب الممثلة للسود، وبعد مفاوضات شاقة تم الاتفاق على دستور انتقالي وانتخابات ديمقراطية متعددة، فاز بها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي برئاسة مانديلا، ليصبح أول رئيس أسود للبلاد.
هل انتهى النظام العنصري فعلًا؟
نجاح مانديلا في انتزاع الحريات السياسية للسود، رافقه فشل فادح في انتزاع الحريات الاقتصادية؛ فأثناء المفاوضات التي سبقت انتخابه، تخلى مانديلا عن مطلب تأميم الصناعات الرئيسية، وهو أحد البنود الأساسية في «ميثاق الحرية» الذي كان دستور الحركة النضالية في جنوب إفريقيا منذ إقراره عام 1955؛ فقد كان البيض مسيطرين على المؤسسات المالية والشركات والأراضي والمصانع. وقد برر مانديلا تنازله عن التأميم بتخوفه من هروب رؤوس الأموال والكفاءات والخبرات التي يملكها البيض إلى الخارج، وليطمئن الدول الكبرى بأن حزبه ليس حزبًا شيوعيًا يعادي الاستثمار الذي تحتاجه البلاد.
ما زالت غالبية السود، الذين يشكلون قرابة 80% من السكان، فقراء ومهمشين.
صحيح أن عدد الأثرياء من السود ازداد بعد انتهاء الفصل العنصري، وارتفع عدد الموظفين السود في الوظائف الحكومية، كما ارتفع عددهم في مختلف المراحل الدراسية، وسنّت الحكومة قوانين تفضيلية لمساعدة السود على استعادة حقوقهم كمواطنين، وقامت ببناء بيوت ومدارس ومستشفيات وبنية تحتية للكثير من مناطق السود التي كانت محرومة ومهمشة بسبب الفصل العنصري، لكن رغم ذلك فـما زالت غالبية السود، الذين يشكلون قرابة 80% من السكان، فقراء ومهمشين، فيما يصفه البعض باستمرار الأبارتيد الاقتصادي (سيطرة نخب «العرق الأرقى» على ثروات البلاد).
اقرأ أيضًا: كيف أدت سياسات صندوق النقد لتفاقم الأزمات اﻻقتصادية في العالم؟
وبحسب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، تتركز أكثر من 60% من ثروات البلاد في يد أقلية تبلغ 10% فقط من السكان، كما أن أكثر من ثلثي هؤلاء المسيطرين على الثروة من البيض، وهو ما يشير إلى تغير طفيف جدًا في توزيع الثروة منذ انهيار نظام الفصل العنصري.
ما زال الاحتقان العرقي موجودًا بين السود والبيض في جنوب إفريقيا؛ لأسباب اقتصادية في المقام الأول.
ويبلغ عدد السكان تحت خط الفقر 47% ونسبة البطالة 27%، غالبيتهم من السود، كما أن ملكية الأراضي، التي كان 80% منها بيد البيض عند نهاية الفصل العنصري، لم تتغير إلا بشكل ضئيل، رغم وعود المؤتمر الوطني بالسعي لزيادة نسبة ملكية السود للأراضي لتصل إلى 30%، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
ما زال الاحتقان العرقي موجودًا بين السود والبيض في جنوب إفريقيا؛ لأسباب اقتصادية في المقام الأول، وما زال بعض البيض ومؤسساتهم يكررون ممارسات مهينة للسود، كما تشهد البلاد كذلك حالات عنصرية مضادة يعتدي فيها مواطنون سود على البيض، بل إن الحريات السياسية التي حصل عليها السود لم تغير سياسات الشرطة ضدهم؛ إذ قتلت الشرطة 34 من عمال المناجم السود عام 2012؛ بسبب مشاركتهم في إضراب؛ احتجاجًا على أوضاع عملهم.
هل يحقق ماليما ما عجز عنه مانديلا؟
عام 2012، طُرد يوليوس ماليما من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، إثر خلافات مع الرئيس جاكوب زوما، الذي كان مقربًا منه للغاية. أسس يوليوس حزب مقاتلي الحرية الاقتصادية المشهور اختصارًا بـ(EFF)، والذي نجح في انتخابات البرلمان الأخيرة عام 2014، في انتزاع 25 مقعدًا في البرلمان من أصل 400، ليصبح الحزب الثالث في البلاد.
أما حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، فقد بقي الحزب الأقوى في البلاد، لكن نسبة مقاعده تراجعت بشدة لأول مرة منذ انتهاء الفصل العنصري. وحصل حزب الائتلاف الديمقراطي (DA) على المركز الثاني مسيطرًا على ربع مقاعد البرلمان، كما حقق نجاحًا لافتًا في الانتخابات البلدية التي جرت في أغسطس 2016، وهو حزب ترجع أصوله إلى حزب قديم للبيض مناهضي الفصل العنصري.
وبينما يبدو حزب الائتلاف الديمقراطي المعارض التقليدي لحكومة المؤتمر الوطني الإفريقي، ويركز على قيم التصالح بين البيض والسود، خصوصًا أن رئيسه الشاب موسي مايمان أسود متزوج من امرأة بيضاء، يقدم حزب مقاتلي الحرية الاقتصادية برئاسة يوليوس، سياسات يسارية راديكالية، ولديه خطاب شعبي يحشد آلاف الأنصار؛ إذ يطالب بنزع ملكية الأراضي الزراعية من البيض وتوزيعها على ملاكها الأصليين من السود دون تعويض للمالكين البيض، وتأميم المناجم والشركات الكبرى، وقد وجه يوليوس ماليما الذي يعتبر مثيرًا للجدل، تهديدات علنية للبيض وشركاتهم أكثر من مرة، مما دفع البعض لاعتباره عنصريًا.
اقرأ أيضًا:
ربما ينجح الصدامي ماليما في خلافة رفيقه القديم جاكوب زوما، وربما يواصل حزب الائتلاف الديمقراطي تقدمه المتوقع بنهجه التصالحي، لكن على أي حال، لن يبقى المؤتمر الوطني الإفريقي هو الحزب الأوحد في جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري، ولن يدوم إرث مانديلا، على عِلَّته، إلى الأبد.
أحمد سمير