موطني: ما الذي نعرفه عن الأناشيد الوطنية العربية؟
هناك ارتباط شديد بيننا وبين الأناشيد الوطنية لبلداننا بدافع الوطنية، لكن لماذا تلهب حماسنا أيضًا أناشيد البلدان الأخرى؟ لعله الهدف الذي تحمله، وهو تجييش المشاعر والحماسة وإبداء الولاء والتجهيز للقتال أحيانًا، بسبب موضوعاتها وألحانها وكلماتها المحمَّلة بالكثير مما يعبِّر عن تاريخ الدولة والأفكار والمُثُل التي تدعو لها.
أناشيد أم موسيقى عسكرية؟
أنشد راكبو الجمال في الجاهلية أناشيد ذات إيقاع منظوم، لم تصل إلينا لغياب التدوين الموسيقي آنذاك.
كتب العميد جوزيف البدوي، قائد موسيقى الجيش اللبناني، في مجلة الموسيقى العربية أن «النشيد قطعة موسيقية منظومة شعرًا وملحنة تلحينًا خاصًّا، وهي مماثلة لـطابع المارش بكل خاصياته (المارش كلمة غربية تطلق على قطعة موسيقية تعزفها الآلات، وتسمى نشيدًا إذا كانت مصحوبة بكلام مغنَّى). يُنشد النشيد فرديًّا وجماعيًّا، ويوقع غالبًا على ميزان الوحدة البسيطة (2/4)، وبسرعة زمن الخطوة العسكرية؛ أي 120 وحدة من العلامة السوداء في الدقيقة الواحدة».
يُرجع بدوي ظهور الأناشيد تاريخيًّا إلى اللحظات التي كانت تتقاتل فيها المجاميع البشرية مع بعضها أو مع الحيوانات، بفضل الطبيعة القاسية، فتلجأ للصراخ الجماعي لشحذ الهمم.
أما عند العرب، ففي العصر الجاهلي أنشد راكبو الجمال أناشيد ذات إيقاع منظوم، لم تصل إلينا لغياب التدوين الموسيقي آنذاك. وفي عصر الإسلام، استقبل الأنصار النبي محمد في يثرب بالنشيد الشهير «طلع البدر علينا»، بعدها تطورت الأناشيد وصارت أكثر نضجًا في العصر الأموي والعباسي والأندلسي أيضًا، الذي دخلت عليه الثقافة الغربية وأسهمت في تطوير أناشيده بآلات جديدة، حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر الحديث.
لماذا تخاطب الأناشيد الوطنية الرجال فقط؟
تظلم اللغة العربية المؤنث على حساب المذكر، فتخاطبهما معًا بالتذكير، إلا إن بعض الأناشيد الوطنية العربية لم تخضع لهذه القاعدة اللغوية فقط؛ وإنما كذلك أشادت صراحة بالمواطنين الرجال ولم تذكر النساء.
النشيد الوطني اللبناني يمتدح سهله وجبله بأنه «منبت للرجال»، والنشيد الوطني القطري يذكرِّ بأن «قطر الرجال الأولين حمتنا يوم النداء»، والنشيد التونسي يقول إن «عز تونس ومجدها رجال البلاد وشبانها»، فهل لا يُنبت السهل والجبل نساء لبنان الأبيَّات؟ أم ليس لقطر نساء أُوُلٌ قدموا لها ما قدموا يوم النداء؟ وهل عِزُّ تونس ومجدها لن يقوم بنساء البلاد وشبَّاتها؟
يبدو التوجه الديني واضحًا بشكل جليٍّ في النشيد الوطني للسعودية والسودان.
إن الأناشيد الوطنية للبلاد يجب أن تشمل جميع مواطني الدولة وتعبِّر عنهم، وتوجيه الخطاب للرجل دون المرأة يعتبر إلغاءً للدور الوطني للنساء.
ما الذي يعبر عنه النشيد؟
بالنظر إلى الأناشيد الوطنية العربية، نجدها على اختلافها تحمل بين طيات كلماتها الفكر والتاريخ والمعاناة والمستقبل الذي تراه الدولة، وكذلك المرحلة التي وصلت إليها.
نظام الحكم
في النشيد الوطني السعودي والسوداني، نلحظ بشكل جليٍّ التوجه الديني، بصفتهما الدولتين العربيتين الوحيدتين اللتين تتخذان الشريعة الإسلامية نظامًا للحكم، إذ يدعو نشيد السعودية للبلاد بأن تكون «فخرًا للمسلمين»، ويردد عبارات «الله أكبر» و«مجِّدي خالق السماء»، دون إغفال الولاء للملك لما فيه من أهمية في النظام الملكي السعودي، فيعبر النشيد عن تلك المعادلة التي قادت البلاد منذ توحيدها؛ الدين والملك.
صاغ كلمات النشيد الشاعر السعودي إبراهيم خفاجي، ولحنه المصري عبد الرحمن الخطيب بتوجيه من الملك فاروق؛ كهدية في أثناء زيارة الملك عبد العزيز آل سعود لمصر، واتُّخذ نشيدًا رسميًّا للمملكة عام 1984، بعد أن كان السلام الملكي بعزف الموسيقى فقط.
اقرأ أيضًا: رغم التناقض الظاهر: 9 تشابهات بين السعودية وإيران
أما النشيد الوطني السوداني فيبدأ بالتعبير عن السودانيين كـ«جند الله» قبل أن يكونوا «جند الوطن»، وهو من كلمات السوداني أحمد صالح، وألحان العقيد محمد مرجان من السلاح الموسيقي في الجيش السوداني، واعتُمد رسميًّا بعد استقلال السودان عام 1956.
ولا يعني هذا أن التعبير عن التوجه الديني ليس موجودًا في بعض الأناشيد العربية الأخرى، كما إن هناك موضوعات مشتركة تتكرر في عدد منها.
المرحلة
في النشيد الوطني البحريني والإماراتي نجد تعبيرًا عن المرحلة التي وصل إليها البلدان، فبينما كان النشيد الوطني البحريني القديم يشير إلى أن «بحريننا بلد الأمان، وطن الكرام، يحمي حماها أميرنا الهمام»؛ أصبح النشيد الجديد الذي اعتُمد عام 2002، بعد تغيير دستور البحرين وتحولها من إمارة إلى مملكة، يذكر «دستورها عالي المكانة والمقام، ميثاقها نهج الشريعة والعروبة والقيم».
يشير النشيد الجديد بوضوح إلى أن المسألة لم تعد تقتصر على «الأمان» و«الأمير»؛ بل أصبح هناك دستور، كما يذكر النشيد «الوئام» التي لم تكن موجودة في النشيد السابق حين كان «الأمان» الموضوع الرئيسي.
أما النشيد الوطني الإماراتي فيستهل أبياته بعبارة «عيشي بلادي عاش اتحاد إماراتنا»، وهي المرحلة التي وصلت إليها دولة الإمارات العربية المتحدة بعد اتحاد الإمارات السبع في نظام منفرد عربيًّا تفتخر به الدولة، وليشكل تذكيرًا دائمًا لأبناء البلد بأهمية هذا الاتحاد وضرورة استمراره.
صُنِّف النشيد العراقي كأحد أسوأ الأناشيد الوطنية؛ كونه يحمل كثيرًا من الخيلاء والتعالي، ويذكِّر الناس بصدام حسين.
النشيد من كلمات الإماراتي عارف الشيخ وتلحين المصري سعد عبد الوهاب، وقد اعتُمد رسميًّا عام 1986، أي عقب 15 عامًا من إعلان اتحاد الإمارات، بعد أن ظل السلام الوطني يُعزف منذ الإعلان حتى وقتها مقطوعة موسيقية فقط دون كلمات.
قد يعجبك أيضًا: كيف سعى الفنانون إلى تعطيل نهضة أبو ظبي الثقافية؟
والجدير بالذكر أن تلحين الأناشيد الوطنية بأيدي آخرين من خارج البلد يرجع للاحتياج إلى متخصص في تأليف «المارش» لتلحينها.
المعاناة
هناك أناشيد أخرى تعبر بشكل صارخ عن المعاناة التي عاشتها الأوطان، فـالنشيد الوطني الجزائري لم يتجاوز أبدًا ما عانت منه البلد جراء الاستعمار الفرنسي، وهو النشيد الوحيد الذي يذكر اسم المستعمر ويتوعده بهذا الشكل الصريح؛ ما دفع الموسيقي البريطاني «فيليب شيبرد» (Philip Sheppard) إلى أن يصنفه ضمن أسوأ الأناشيد الوطنية إلى جانب النشيد العراقي، مدعيًا أن النشيد الجزائري يحمل الكثير من العداء لفرنسا.
تجاهل «شيبرد» ما عاناه الشعب الجزائري من قتل وانتهاك وتشنيع، وما لحق به من تدمير واستغلال، فعبارة: «يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا جواب»، والقسم الذي يستهل به النشيد: «قسمًا بالنازلات الماحقات، والدماء الطاهرات الباكيات»، ما هو إلا تعبير عما مرت به الدولة من شقاء ونضال.
صُنِّف النشيد العراقي أيضًا كأحد أسوأ الأناشيد الوطنية؛ كونه يحمل كثيرًا من الخيلاء والتعالي ويذكِّر الناس بصدام حسين، لكن غاب عن التصنيف أن نشيد «موطني»، الذي اتُّخذ نشيدًا وطنيًّا للعراق منذ سقوط صدام 2003، كان نشيدًا وطنيًّا لفلسطين، كتبه الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان ولحَّنه الموسيقي اللبناني محمد فليفل.
اشترطت إسرائيل تغيير النشيد الوطني الفلسطيني «موطني» قبل بدء المفاوضات.
لم يُكتَب هذا النشيد للعراق أصلًا، وهذا يجرنا لذكر مفارقة أن العراق في تاريخه لم يكن له نشيد وطني خالص، عدا سلام بلا كلمات في عهد عبد الكريم قاسم، لحَّنه لويس زنبقه في 1963، رغم من أنجبهم هذا البلد من شعراء كبار وملحنين عظام.
كما أن تعبير المواطن العراقي عن تدمير بلاده من قِبَل الدكتاتورية البعثية، أو الاحتلال الأمريكي بعدها، ومعاناته في المرحلتين تتوافق مع النشيد؛ الذي يتساءل إذا ما كان سيرى هذا الوطن سالمًا منعمًا يبلغ السماء، ويكرر: «لا نريد ذلنا المؤبدا وعيشنا المنكدا»، فأي بلد يمكن أن يتحدث عن هذا كالعراق؟
قد يهمك أيضًا: تاريخ الكحول في العراق منذ اختراع البيرة إلى منع البرلمان
بعد معاهدة السلام مع إسرائيل في عهد السادات، لم يعد من المناسب بقاء نشيد «السلاح»، وعاد نشيد سيد درويش «بلادي» مرة أخرى.
وبطبيعة الحال، فإن فلسطين المحتلة ليست بمنأى عن التعبير عن معاناتها وكفاحها ضد الاحتلال في نشيدها الوطني، الذي يبدأ بصيحة: «فدائي فدائي يا أرضي يا أرض الجدود»، وهو من كلمات الشاعر والمناضل سعيد المزين، الملقب بفتى الثورة، وألحان المصري علي إسماعيل، وقد اختير نشيدًا رسميًّا لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1972، ومن ثَمَّ للسلطة الفلسطينية منذ 2005.
اعتُمد هذا النشيد بسبب اعتراض الإسرائيليين على نشيد «موطني»، الذي كان النشيد الرسمي قبل الاستقلال عن الانتداب البريطاني, واشتراطهم تغييره قبل بدء المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، إلا إن قطاعًا واسعًا من الشعب الفلسطيني ما زال يعتبر نشيد «موطني» هو النشيد الوطني الرسمي لفلسطين.
مصر تتحدث عن نفسها
النشيد الوطني المصري هو الأكثر تغييرًا بحسب المراحل التي مرَّت بها مصر، منذ الملكية حتى الثورة وما بعدها. وفي تاريخ النشيد المصري هناك تأثر بحركات التحرر من الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى، ففي أثناء ثورة 1919 التي قادها سعد زغلول، كان المتظاهرون ينشدون نشيد سيد درويش «بلادي بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي»، الذي عاد نشيدًا وطنيًّا بعد ذلك في 1979.
في الخمسينات بدأت المناوشات البريطانية في قناة السويس، ما أجَّج الشعور الوطني، وأنتج عملًا كتبه الضابط سيد طه ولحنه رياض السنباطي وغنته أم كلثوم بعنوان: «مصر تتحدث عن نفسها»، يقول مطلعه: «وقف الخلق ينظرون جميعًا كيف أبني قواعد المجد وحدي»، وقد اعتُمد نشيدًا وطنيًّا للضباط الأحرار الذين قاموا بما يُعرف بثورة 23 يوليو.
وفي 1956، بعد العدوان الثلاثي من بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني على مصر، كتب صلاح جاهين نشيد «والله زمان يا سلاحي» ولحنه كمال الطويل، واتُّخذ نشيدًا رسميًّا للجمهورية منذ 1960 حتى 1979، كما اعتمده العراق أيضًا منذ 1963 حتى 1981، ضمن مشروع دولة عربية موحدة بين البلدين.
نشيد عمان الوطني يذكر اسم السلطان قابوس صراحةً، بينما يتفاخر الأردن بنسب العائلة الملكية للنبي.
لكن بعد معاهدة السلام مع إسرائيل في عهد الرئيس أنور السادات، لم يعد مناسبًا بقاء نشيد «السلاح» في هذه المرحلة، وعاد نشيد سيد درويش «بلادي» عام 1979 حتى الوقت الحالي.
أناشيد حصدت شهرة
بعض الأناشيد تميزت بشهرة واسعة يرددها العرب جميعًا؛ كـالنشيد الوطني التونسي الذي يحتوي على بيت أبي القاسم الشابي «إذا الشعب يومًا أراد الحياة؛ فلا بد أن يستجيب القدر، ولا بد للظلم أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر».
الأمر نفسه ينطبق على النشيد الوطني الليبي القديم ذي الشهرة الواسعة، الذي كتبه الشاعر المصري حافظ إبراهيم، وهو أغنية مصرية ذات نبرة حماسية استُخدمت في شحذ الهمم خلال معركة السويس عام 1973، يقول مطلعها: «الله أكبر فوق كيد المعتدي»، إلا إنه أُوقف بعد إسقاط معمر القذافي، وصار النشيد الرسمي لليبيا «يا بلادي»، الذي كان معتمدًا في عهد الملكية، وهو نشيد الاستقلال الليبي، إذ أعاد الثوار نشيد وعلم الملكية إشارة إلى رفض الانقلاب الذي قاده القذافي في 1969.
قد يهمك أيضًا: من أمريكا إلى ليبيا: قصة التحاق النساء بالجيوش
أناشيد ذات علامات مميزة
حملت بعض الأناشيد علامات مميزة؛ كنشيد لبنان الوطني، الذي لم يتمكن من تجاوز جغرافيته لما لها من أهمية كبرى في واقع لبنان وسياسته وتاريخه، فيذكر فيه «سهلنا والجبل منبت للرجال»، وهو من كلمات الشاعر اللبناني رشيد نخلة، وألحان الموسيقي اللبناني وديع صبرا.
أما النشيد الوطني العماني فكانت علامته المميزة ذكر سلطان عمان بالاسم الصريح؛ إذ يقول: «أبشري قابوس جاء، فلتباركه السماء»، ما يعكس المكانة التي يحظى بها السلطان قابوس في عمان، بعد أن أسهم مجيؤه في نقلة نوعية في البلاد، لكنه يطرح تساؤلات عما سيكون عليه حال النشيد بعد وصول حاكم جديد.
أما نشيد الأردن فيختلف؛ إذ يتفاخر بانتساب العائلة الملكية للنبي محمد، ويقول أحد أبياته: «يا مليك العرب لك منا خير نبي شرف في النسب»، كما يبدو في مجمله خطابًا ممجدًا من الشعب إلى الملك.
اقرأ أيضًا: الفرار من الربيع العربي: تجارب الجزائر وعمان والأردن
ماذا عن الأناشيد الوطنية غير العربية؟
ليست الأناشيد الوطنية الغربية بعيدة في موضوعاتها وحماستها عن العربية؛ فالنشيد الوطني لبريطانيا يدور حول الملكة وسعادتها وقوتها والدعاء لها.
أما المثير للانتباه فهو النشيد الوطني الإسرائيلي، الذي كتبه صموئيل كوهين بعنوان Hatikvah (الأمل) عام 1888. لكن بحسب تقرير نشره موقع (BBC)، اتهمه البعض بسرقة اللحن من مقطوعة للموسيقي التشيكي «بيدريخ ميتانا» (Bedřich Smetana)، فـعلى ما يبدو ليست الأرض وحدها هي المسروقة في إسرائيل.
شيخة البهاويد