الوهم هو أول الملذات: ما الذي يحدد تعاطف العرب السياسي؟
في الحادي عشر من سبتمبر 2001، جلس إسماعيل عبد المنعم على أريكة أمام أحد «المصليات» المنتشرة في زوايا القاهرة، يشاهد مع جيرانه في التليفزيون الدخان متصاعدًا من برج التجارة العالمي في نيويورك، وبعد أن ضربت الطائرة الثانية البرج الآخر، هلل الرجل وكبَّر آخرون، وظل الباقون بين الحيرة والاندهاش مما يشاهدونه على الشاشة.
هذا الانقسام تعدى حدود الأريكة وامتد إلى قطاعات أوسع في المجتمعات العربية؛ إذ بادر المشاهدون العرب بالتعبير عن آرائهم، غير الحكومية، في البيت والمدارس وهيئات العمل، حتى إن أعدادًا احتفلت بالهجمات علانية في شوارع الضفة الغربية، وانتشرت على الهواتف النقالة، الحديثة وقتها، رسومات رقمية لبرجي التجارة لحظة سقوطهما، مرفقة بمقولة «Bin Laden says hello!» (بن لادن يرسل تحيَّاته!).
ولعل من الإنصاف هنا الإشارة لقطاع آخر رفض هذه الهجمات، واصفًا إياها بالقتل العمد لمدنيين لا دخل لهم بسياسات الدول، وهو التوجه الذي التزمت به الحكومات العربية كافة في إداناتها الرسمية للهجمات.
لماذا نتعاطف سياسيًّا؟
نسبة 60% من العرب غير متصالحين مع الولايات المتحدة، أما من أعلنوا تأييد هجمات سبتمبر بشكل صريح فتبلغ نسبتهم 7%.
لويد جِنسِن (Lloyd Jensen)، أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، يرى أنه من الممكن أن تُعبِّئ الدعاية الحكومية الرأي العام للتظاهر ضد السياسات الدولية غير المرغوب فيها، وأن النظم التسلطية كثيرًا ما لجأت إلى أسلوب المظاهرات الجماهيرية لتحقيق أهداف معينة في هذا المجال.
هذا الطرح يدعو للتساؤل بشأن ماهية التعاطف السياسي وحقيقته، وهل تحدده الأنظمة الحاكمة أم أن الواقع السياسي، بمعطياته التاريخية والاجتماعية، هو ما يفرضه؟ وإذا كان الخيار الأخير هو الصواب، فـفهل يؤثر الرأي العام المتعاطف أو المستنكر على القرار السياسي أم أنه مجرد أصوات عبثية منقسمة على ذاتها في ظل نظام عالمي مُحكَم لا يعبأ بالـ«ظواهر الصوتية المؤقتة»؟
هل التوجيه الإعلامي هو الدافع للتعاطف بغض النظر عن الوقائع؟
بالعودة إلى الوراء، فإن الأمر لا يتطلب مجهودًا كي نعلم أن مواطنين كإسماعيل الذي شاهد سقوط برجي التجارة على الشاشات، كانوا قبل عام يشاهدون، عبر الشاشات نفسها التي بثت هجمات سبتمبر، مشاهد قتل الطفل محمد الدرة على يد القوات الإسرائيلية في غزة، في سبتمبر عام 2000، ووقتها كان المشاهد العربي يدرك، بطبيعة الحال والتاريخ، أن الجريمة ارتُكبت بمباركة الولايات المتحدة، التي ساندت إسرائيل سياسيًّا وعسكريًّا منذ نشأتها.
اقرأ أيضًا: كيف أفزعت الأمريكيين قرارات ترامب الأخيرة؟
وعلى هذا، بدت هجمات سبتمبر بشكلٍ ما مبرَّرَة في نظر قطاع كبير من المجتمعات العربية، وهو الرأي الذي أيدته منظمة «غالوب» (Galob)، في استبيان للرأي العام العربي أجرته بشأن الهجمات عام 2008، أظهر أن 60% من العرب غير متصالحين مع الولايات المتحدة، فيما أعلن 7% بشكل صريح تأييدهم لهجمات سبتمبر.
حين واسينا هادي لأن بلاده ستضيع عما قريب، قال لنا إنها ضاعت منذ 13 عامًا بعد غزو الكويت.
إن اختلاف ردة الفعل على حوادث قتل مدنيين عُزَّل، باختلاف المكان، أمر يثير التساؤل بشأن منطقية ردود أفعالنا كشعوب عربية، وهل التوجيه الإعلامي هو الدافع للتعاطف بغض النظر عن الوقائع؟ فالقطاعات الواسعة في المجتمعات العربية التي بررت هجمات سبتمبر ستُغير آراءها بعد فترة، وسوف تقرر أن ما حدث كان إرهابًا، بعد تنفيذ منتسبين لتنظيم بن لادن عمليات قتل وتفخيخ في دول عربية، وعلى مقربة من الكعبة.
صدام حسين: البطل - الطاغية
يبدو الأمر متشابهًا مع ما حدث في أزمة العراق، ففي ربيع 2003، كانت القنوات الفضائية العربية تذيع ضربات التحالف الأمريكي الأوروبي في أثناء قصف بغداد. كنا صغارًا بما يكفي حينها كي نلعب في الشارع لعبة تدور تفاصيلها بين جنود عراقيين وأمريكيين، في ميناء وهمي أسميناه «أم قصر»، وهو الميناء العراقي على الخليج العربي، ثم حين رأينا المواطنين العراقيين يعانقون جنود المارينز الأمريكان في شوارع بغداد بعد سقوطها، لم يعد للعبة معنى.
ربما يعجبك أيضًا: تاريخ الكحول في العراق منذ اختراع البيرة إلى منع البرلمان
كان هادي طالبًا عراقيًا يدرس في القاهرة، صبيحة أول قصف تتعرض له بغداد، بعد تهديدات عديدة من إدارة الرئيس الأمريكي وقتها جورج بوش (George W. Bush). حين واسيناه لأن بلاده سوف تضيع عما قريب، قال لنا إنها ضاعت منذ 13 عامًا بعد غزو الكويت، ثم صمت، قبل أن يعلن أن الأمريكان لن يكونوا أسوأ من صدام حسين، الذي عذب أفرادًا من عائلته في مراكز الأمن ببغداد، وقتل آخرين في مدينة حلبجة بالسلاح الكيميائي، وأننا لم نعانِ ما عاناه العراقيون من حكمه.
بدا لنا أن تعاطفنا مع القضية لا يتوافق مع تعاطف هادي، الذي يعرف عن بطش نظام صدام ما لا يعرفه المصريون، وهو ما أدى للخلاف الكبير بين مَن تعاطف مع العراقيين ضد الغزو الأمريكي، والفئة الأخرى التي أيدت القوات الأجنبية.
الظاهرة الخطيرة التي تتفشى في المجتمعات العربية هي ظاهرة الرأي العام «المفبرك» أو المنافق، الذي لا يعبر عن حقيقة الرأي العام وواقعه.
تشير أبحاث شاكر النابلسي، الكاتب والباحث الأردني، إلى أن الإعلام العربي المرئي والمقروء والمسموع له دور كبير في تشكيل الشارع العربي. وبحسب دراساته، فقد أسهم الإعلام إلى حدٍّ كبير في تضليل الشارع العربي؛ إذ لمم يقدم له الحقائق المجردة، واعتاد أن يقدم له ما يرضيه، وما يوافق هواه، وما يُهيِّجه، وما يُثير شهواته للانتقام.
هل يؤثر الشارع العربي حقًّا في القرارات السياسية؟
وفقًا لما أوضحه الدكتور محمد قيراط، أستاذ الاتصال الجماهيري في عدد من الجامعات العربية، فإن الشارع في بعض الأحيان ﻻ يكون إلا فلكلورًا شعبيًّا، يُخترق ويُستخدَم من قِبَل القوى الفاعلة في المجتمع، كرجال الأعمال والجهات الحكومية؛ لتحقيق مصالح القوى المسيطرة على الشؤون السياسية والاقتصادية في البلاد، وفي أحيان أخرى يُستعمَل للترفيه والتسلية ولأحلام اليقظة.
كان حسن نصر الله قد تحول إلى بطل في عام 2006، وصارت صوره تُعلَّق على جدران المنازل في العواصم العربية ودكاكينها.
ويوضح القيراط في مقال سابق أن «الرأي العام في المجمل يمثل عفوية الجماهير والفئات العريضة من المجتمع، إلا إن الظاهرة الخطيرة التي تتفشى في المجتمعات العربية هي ظاهرة الرأي العام المفبرك أو المنافق، إذ إنه لا يعبر عن حقيقة الرأي العام وواقعه، فـيدلي رجل الشارع بآراء وأفكار ووجهات نظر لا يقتنع بها على الإطلاق، وإنما يقولها لإرضاء السلطة لا غير».
حسن نصر الله: المجاهد - العدو
يبدو كلام القيراط منسجمًا مع حالة حسن نصر الله، ففي عام 2006، كانت صور الأمين العام لـ«حزب الله» الشيعي تنتشر على جدران المنازل في العواصم العربية ودكاكينها، كان قد أصبح بطلًا ونال تعاطف قطاعات واسعة من السُنَّة في العالم العربي، بعد أن أشعل حرب تموز مع إسرائيل، واستطاعت صواريخه الوصول إلى عمق الشمال الإسرائيلي، وهلل المواطنون العرب وكبروا خلفه مرددين: «اضرب اضرب يا نصر الله».
وبحسب الاستبيان الذي أجراه مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية في أغسطس 2006، سجَّل نصر الله المركز الأول كأكثر الشخصيات شعبية بنسبة 82%، بين عشرين شخصية عامة مصرية وعربية وإسلامية.
بعدها بعدة أعوام، بالتحديد في عام 2013، سيتم اصطياد خلية في سيناء من قبل قوات الأمن المصرية، وستتهمها الأجهزة الرسمية بمحاولة تنفيذ هجمات في مصر لصالح «حزب الله»، والعمل على نشر الفكر الشيعي في البلاد. الأمر نفسه تكرر في دول بالخليج العربي، حيث أُعلن عن سقوط خلايا تجسس تعمل لحساب «حزب الله» والحرس الثوري الإيراني، فضلًا عن الاتهامات التي وجهتها وسائل إعلام خليجية للحزب، بارتكاب عمليات قتل مدنيين في سوريا لصالح نظام بشار الأسد.
تسببت مجازر «داعش» في تقسيم الرأي العام العربي تجاه ما يحدث في حلب، وبسببه أعلن قطاع عريض ممن اعتبر الأسد سفاحًا تأييده للجيش السوري.
صنَّف مجلس التعاون الخليجي «حزب الله» منظمة إرهابية في عام 2016، متهمًا إياها بتجنيد شباب دول المجلس للقيام بالأعمال الإرهابية. نفى نصر الله الاتهامات، غير أن نفيه كان أضعف من تركيز وسائل الإعلام في القاهرة، وعواصم عدة في العالم العربي، على مخاطر التشيُّع على المجتمعات العربية، ليتحول بعدها الرجل إلى عدو في نظر القطاعات العربية التي علَّقت صورته على الجدران منذ سنوات، ويختفي إثر ذلك تعاطف عنيف اتضح أنه كان عابرًا.
تناقضات حلبية
يبدو أمرًا منطقيًّا أن نتطرق الآن إلى حلب، تلك المدينة التي سيطرت عليها الفصائل المعارضة للنظام السوري عام 2014، ثم سيطر تنظيم «داعش» على أجزاء منها، وأعلن ضمها لمشروعه المُسمى بالدولة الإسلامية، الذي يعتمد في الأساس على قطع رؤوس من يختلف معه، حرفيًّا.
استعادت القوات النظامية السورية حلب في ديسمبر الماضي، وسط حالة مريبة من تركيز الإعلام الدولي على خطورة هذه الخطوة، ربما أكثر مما أبداه حين سقطت بيد تنظيم الدولة، على الرغم من أن الصدمة ذاتها عاشها العالم حين سقطت الموصل قبلها بيد «داعش».
وفي أثناء قصف الجيش السوري المدن السورية التي خرج مواطنوها في تظاهرات ضد النظام، شاهد العرب صورًا ومقاطع فيديو لجثث أطفال ونساء وشيوخ تحت ركام البنايات المدمرة. أصبح بشار الأسد في أعين أغلبهم سفاحًا، وتظاهروا من أجل مساعدة الشعب السوري إنسانيًَا وعسكريًَا.
وعندما شاهد العرب كيف قطع تنظيم «داعش»، الذي خرج من زخم الاضطرابات في سوريا، رؤوس المصريين على شواطئ ليبيا، وحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وفجَّر عددًا من المنشآت في دول عربية غير سوريا والعراق؛ تراكم لديهم ما يكفي من غضب كي ينقسم الرأي العام تجاه ما يحدث في حلب، ليعلن قطاع عريض تأييده لاستعادة الجيش السوري المدينة.
ربما يبدو الانقسام في الرأي العام العربي صحيًّا، غير أنه وهمي أيضًا؛ لأنه بلا قيمة، ولا يبدو أنه يحرك القضايا.
قد يهمُّك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
يبدو الأمر في النهاية عبثًا، أن يخلق المرء قناعة سياسية تدفعه لـ«التعاطف» مع قضية تتغير معطياتها مع مرور الوقت؛ إذ كيف له أن يخلق قناعة في عالم متغير؟
ربما يبدو الانقسام في الرأي العام العربي صحيًّا، غير أنه وهمي أيضًا؛ لأنه بلا قيمة، ولا يبدو أنه يحرك القضايا، بل يتم توظيفه لصالح السلطات السياسية الحاكمة متى رأت جدوى لذلك، بينما تتجاهله متى خالفها.
هل يُعد الرأي العام مجرد نتاج للقرار السياسي؟
بالعودة إلى الدكتور لويد جنسن، نجده يرى أن تأثير صانعي القرار على الرأي العام يزداد في أوقات الأزمات، إذ يميل الرأي العام للالتفاف حولهم في تلك الفترات، فشعبية الرئيس تزداد في أثناء الأزمات، سواءً كانت السياسات المتبعة فعالة أو لا. وقد ازدادت شعبية الرئيس الأمريكي كينيدي من 61% إلى 74% بعد أزمة الصواريخ الكوبية، ووصلت إلى 85% في أثناء أزمة خليج الخنازير، كما أن 81% من الأمريكيين أعلنوا تأييدهم للرئيس ترومان خلال الأزمة الكورية عام 1950، رغم انخفاض شعبيته قبل الأزمة.
هذا العالم قد تتغير مجرياته في عدة دقائق، كتلك التي سقط فيها برجا التجارة في نيويورك، وسقط معهما العالم في حروب لم تنتهِ.
ويوضح جنسن أن واحدًا من الأمثلة الصارخة على استعمال الرأي العام لتحقيق أهداف دبلوماسية كان المسيرة التي نظمها أكثر من مئة ألف مغربي إلى الصحراء الإسبانية، في أكتوبر 1975؛ لإظهار تأييدهم للمطالب المغربية الإقليمية ضد الجزائر.
يبدو لنا أن أهداف الأنظمة السياسية في نهاية الأمر مستقلة بشكل كبير عن الرأي العام والتعاطف أو الاستنكار الشعبي، فمظاهر التأييد التي تبديها جموع الشارع العربي تجاه قضايا محددة تحوم حول جدواها الشكوك، ما دام القول الفصل في مجريات الأمور هو الأنظمة التي تحكم الدول.
هذا العالم قد تتغير مجرياته في عدة دقائق، كتلك التي سقط فيها برجا التجارة في نيويورك، وسقط معهما العالم في حروب لم تنتهِ حتى يومنا هذا، فتعاطُف شخص كإسماعيل عبد المنعم، الرجل الخمسيني الذي احتفى بهجمات سبتمبر حين شاهدها على شاشات التليفزيون وتكبيره، اختفى حين تمكَّن أحد أبنائه من السفر للولايات المتحدة والاستقرار بها، وأصبحت القضية السياسية بالنسبة له أكثر تعقيدًا من الابتهاج بقتل الآخرين، وصار يدعو لابنه بـ«السلامة من كل شر».
*الوهم هو أول الملذات: مقولة لـ«أوسكار وايلد».
كريم كيلاني