أزمة الجاسوس الروسي في بريطانيا: هل بدأت الحرب الباردة الثانية؟
ربما ظن «سيرغي سكريبال» أن أيامه السيئة انتهت حين منحته بريطانيا حق اللجوء بعد اتفاق تبادل الجواسيس بين واشنطن وموسكو عام 2010، وكان قد قضى أربع سنوات من مجمل 13 عامًا من الحبس بتهمة التجسس لصالح جهاز المخابرات البريطاني (MI6). ربما ظن كذلك أن الظروف الغامضة لحوادث السير المنفصلة خلال العامين السابقين التي أدت إلى وفاة زوجته وابنه وأخيه الأكبر قضاء وقدر، لكن الرسالة الأخيرة التي وُجهت إليه كانت بفعل فاعل، وبشكل مباشر، وذات هدف واضح.
ففي الأحد 4 مارس 2018، فقد العقيد السابق في المخابرات العسكرية الروسية «سيرغي سكريبال» (66 عامًا) وابنته «يوليا» (33 عامًا) وعيهما على أريكة في مركز تجاري بمدينة سالزبري جنوب غربي إنجلترا بعد تعرضهما لمادة «نوفيتشوك»، وهي الفئة الأحدث في مواد غازات الأعصاب السامة.
وفقًا لبعض التكهنات، وُضعت المادة في ملابس يوليا عشية سفرها من روسيا يوم 3 مارس، أو وُضعت في باقة الورود الصناعية التي أرسلتها إليها صديقة للعائلة لتضعها على مقبرة أمها في اليوم التالي. ولذلك دعت السلطات البريطانية كل المواطنين الذين كانوا على مقربة من مكان الحادث إلى تنظيف ملابسهم جيدًا.
بشكل سريع، اتهمت بريطانيا روسيا بالوقوف وراء الحادث، ربما لأنها المستفيدة الوحيدة من مقتله، أو لأن المادة التي استُخدمت في عملية الهجوم الكيماوي على العميل المزدوج تُصنَّع حصرًا في روسيا، وربما لأن لهذه الحادثة مثالًا سابقًا. ففي مطلع 2016، صدرت نتائج تحقيق علني بريطاني أدانت الحكومة الروسية بتسميم الجاسوس الروسي السابق «ألكسندر ليتفينينكو» بمادة «البولونيوم-210» المشعة، التي يُعتقد أنه تناولها في كوب شاي يوم 1 نوفمبر 2006، ولقي حتفه بعدها في 23 نوفمبر من نفس العام.
حينئذ صُدمت وزيرة الداخلية البريطانية السابقة «تيريزا ماي» (رئيسة الوزراء الحالية) بنتائج التحقيقات، وأدانت أرملة ليتفينينكو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مشيرة إلى أن عملية التسميم كانت بموافقته، لكن موسكو قالت إن النتائج مسيَّسة ومنحازة وغير شفافة، واتهمت المخابرات البريطانية بأنها التي قتلته.
في تلك الحادثة طُرِد أربعة دبلوماسيين من السفارة الروسية في لندن، وخُفِّضت العلاقات الأمنية مع الأجهزة الروسية إلى اتصالات محدودة خلال الدورة الألعاب الأولمبية في مدينة سوتشي الروسية، ولم ترغب ماي في التصعيد أكثر من ذلك. وجاء الرد الروسي بطرد أربعة دبلوماسيين من السفارة البريطانية في موسكو.
عندما اتهمت بريطانيا روسيا تحديدًا بالهجوم الكيماوي على الجاسوس الروسي، كانت تستند إلى أن مادة غاز الأعصاب تُصنع حصرًا في روسيا، أو أن روسيا فقدت السيطرة على مخزونها بطريقة ما، ولذلك فهي المسؤولة الأولى والأخيرة. لكن روسيا مقتنعة بأن تكنولوجيا تصنيع مثل هذة الغازات ليست حكرًا عليها، لأن الكيميائي الروسي «فيل ميرزايانوف»، مخترع مادة «نوفيتشوك» السامة، موجود في واشنطن، ويمكنه ببساطة تصنيع المادة، وهناك كثير من مراكز الأبحاث في الغرب تجيد تصنيع مثل تلك السموم.
أكدت بريطانيا أنها لن تتعاون مع روسيا بشأن القضية، بل إنها سترسل عينات المادة التي استُخدمت في الهجوم إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وبالرغم من تشابه تفاصيل حادث الهجوم الكيماوي على الجاسوس المزدوج سكريبال، فإن التصعيدات البريطانية المتلاحقة التي أعقبته كانت أعنف بمراحل، وربما الأعنف في علاقات البلدين منذ نهاية الحرب الباردة.
تكتُّل غربي ضد روسيا
بعد حادث «سكريبال»، طردت بريطانيا 23 دبلوماسيًّا روسيًّا، وأعلنت مقاطعة العائلة الملكية لبطولة كأس العالم.
بعد إيداع سكريبال في المستشفى بيومين فقط، ودون انتظار نتيجة التحقيق، أسرع وزير الخارجية البريطاني «بوريس جونسون» بالتصريح بأن بلاده سترد بقوة إذا ثبت تورط روسيا. لكن السفارة الروسية في لندن طالبت بمعلومات حول الواقعة، بدلًا من «شيطنة روسيا في الإعلام البريطاني».
بعدها، أكدت رئيسة الوزراء البريطانية اتهام روسيا، ونوَّهت بضرورة منح الشرطة البريطانية الوقت الكافي لإجراء التحقيق.
استنكرت روسيا اتهام بريطانيا العشوائي، وأكدت دعوتها إلى التعاون مع المملكة المتحدة التي يجب عليها كشف خبايا الأمر. لكن التصعيدات البريطانية دفعت روسيا إلى اتهامها بارتكاب الحادث لأنها المستفيدة من تسميم سكريبال، فهو بالنسبة إلى موسكو ورقة محروقة، وقلوب المواطنين الروس منفطرة على ابنته يوليا. وأشار تقرير إخباري على قناة «روسيا 1» إلى أن غاز الأعصاب ربما يكون جرى تصنيعه في مركز أبحاث «بورتون داون» التابع للجيش البريطاني، والذي لا يبعد عن سالزبري أكثر من 20 دقيقة بالسيارة.
«الإنكار الروسي» أشعل الأمر أكثر، ففي خطوة تصعيدية تالية، استدعت ماي السفير الروسي يوم الثلاثاء 13 مارس، وأمهلته حتى منتصف الليل «لتفسير ما حدث». لكن استنكار الهجوم ورفض الاتهام كان الرد الوحيد الذي أكدته روسيا مرارًا. أعلن الاتحاد الأوروبي تضامنه مع بريطانيا، واستنكرت الخارجية الفرنسية الهجوم الكيماوي على مواطنين روس داخل الأراضي البريطانية.
في اليوم التالي، دعت ماي إلى اجتماع طارئ في مجلس الأمن لبحث الهجوم على الجاسوس الروسي المزدوج. وأعلنت طرد 23 دبلوماسيًّا روسيًّا من لندن، في أكبر عملية طرد منذ 30 عامًا، وأعلنت كذلك مقاطعة العائلة الملكية لبطولة كأس العالم لكرة القدم 2018، التي تستضيفها روسيا.
أيد البيت الأبيض القرار، وأكد أن روسيا تتعمد تجاهل القواعد الدولية، وتسعى إلى هدم المؤسسات الديمقراطية الغربية. ودعمت المستشارة الألمانية ميركل ما انتهت إليه بريطانيا، لكنها أكدت ضرورة استمرار التواصل مع الروس رغم الخلافات. ودعم الرئيس الفرنسي أيضًا موقف المملكة المتحدة في خلافها مع روسيا، لكنه لم يتخذ أي إجراءات. واستنكر أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو) هجوم غاز الأعصاب الذي وقع على أراضٍ بريطانية، واتهم روسيا بزعزعة استقرار الغرب.
ردت روسيا بطرد 23 دبلوماسيًّا بريطانيًّا من أراضيها، وإغلاق المركز الثقافي البريطاني في موسكو، والاستمرار في تكذيب أي اتهام من الغرب، وتأكد أنه يُحتمل تصنيع غاز الأعصاب في بريطانيا أو السويد أو التشيك أو سلوفاكيا أو الولايات المتحدة الأمريكية. هذا التصريح جعل السويد تصطف مع بريطانيا وتستنكر الادعاء الروسي.
لم يقتصر تجييش بريطانيا ضد روسيا على الاتحاد الأوروبي، بل إن السفير البريطاني في إسرائيل حث السلطات الإسرائيلية على إدانة الهجوم الكيماوي على الجاسوس الروسي.
الاصطفاف العالمي الواضح مع بريطانيا يزيد من عزلة روسيا، التي تنتهج في المرحلة الحالية سياسة الرد بالمثل.
قد يهمك أيضًا: ربما يصبح العالم أكثر سلامًا تحت حكم المجانين
روسيا، بريطانيا: تعريف «الدولة العظمى»
تحتاج الشرطة البريطانية إلى شهور للوقوف على تفاصيل أوضح لحادث الهجوم. ولذلك، فإن نتيجة التحقيقات وحدها هي التي ستجيب عن سؤال «مَن المستفيد؟». لكن جملة التصعيدات التي اتخذتها السلطات البريطانية على الصعيد العالمي ضد روسيا تبدو متأثرة بخلافات أوروبية-روسية أخرى.
فقد تكون التصعيدات مجرد ردود فعل مؤجلة حول قضايا معلقة، سواء داخل أوروبا أو على أراضي الحرب في الشرق الأوسط. فعندما ضمت روسيا جزيرة القرم لم تُفضِّل الدول الأوروبية الخيار العسكري، واكتفت بتهديدات وعقوبات. لكن يبدو أن الغرب يدرك أن روسيا تسير في هذا الاتجاه دون توقف. والمبالغة في ردود الأفعال من ناحية بريطانيا، أو حتى تجربة الحشد العالمي، قد تشتت روسيا في إثبات قوتها العالمية.
بالتوازي زمنيًّا مع الحادث، أعلنت روسيا أنها ضد وجود «قوات أجنبية» على الأراضي السورية. ورد الغرب بـ«تجريم» استخدام الأسلحة الكيماوية، في إشارة إلى الاستخدام الروسي لها في سوريا.
يرى مراقبون أن جرأة موسكو في تنفيذ مثل هذه العمليات يمثل طموح القيادة الروسية إلى استعادة مكانتها كدولة عظمى ينبغي الخوف منها. لذلك، عندما هددت ماي بطرد الدبلوماسيين، ردت السلطات الروسية بأنها دولة عظمى ولا تخضع للتهديدات. علقت ماي على هذا الرد بأن المملكة المتحدة أيضًا دولة عظمى ولا تقبل التهديدات ولا الهجمات.
لو أثبتت نتائج التحقيقات تورط روسيا، فإن موسكو ستبعث برسالة إلى الغرب مفادها أنها أصبحت ضمن المعادلة العالمية كقوى عظمى، وينبغي أن يهابها الجميع.
محمود سعيد موسى