«الهيبيز» الجدد: نسخة جديدة منزوعة السياسة تظهر في شمال أوروبا
لا توجد إحصائيات أو أرقام حول أعداد هذا المجتمع الجديد في إسكندنافيا (الدنمارك والنرويج والسويد)، لكن من المؤكد أنه ينمو بازدياد. وعلى الرغم من أن مصطلح «الهيبيز الجدد» ليس منتشرًا في إسكندنافيا بشكل كبير، حتى إن الذين يعيشون نمط حياة الهيبيز الجدد لا يطلقون على أنفسهم هذا المصطلح، لكنه بدأ بالانتشار بعد أن أطلقت الدنماركية «كالينا ليونهاردت» مدونتها الخاصة للنشر والتعريف بهذا النمط.
كالينا صاحبة مدونة «الهيبيز الجدد»، التي تقطن في مدينة سلاغليس بعيدًا بنحو مئة كيلومتر عن العاصمة كوبنهاغن، ترى أن اسم المدونة توصيف جيد لنمط حياتها، الذي تسعى لأن يكون أكثر استدامة وطبيعية ونباتية وبساطة، ومن ثَم أقل استهلاكًا، بما يعكس شخصيتها وهويتها باعتبارها إنسانًا ينتمي إلى الحياة الدورية في الكوكب.
الاستهلاك العائلي للأشياء في عائلة كالينا يقترب من «صفر» شهريًّا. لا توجد فضلات طعام، وتنخفض الميزانية الشهرية باستمرار حتى تصل إلى 2500 كرونة (400 دولار). لا تسافر كالينا، بل تحاول تخفيض النفقات بقدر ما تستطيع، دون المساس بنوعية الحياة في كل مجال ممكن.
الهيبيز الجدد: حركة معاصرة
يهتم الهيبيز بالمسؤولية الفردية التي يسعون لاستقطاب أناس جدد لتبنيها في قضايا البيئة وتخفيض الهدر.
المفارقة في انطلاق المدونة من الدنمارك أن حركة «الهيبيز» لم تختفِ يومًا عن كوبنهاجن، إذ احتلت مجموعة من الهيبيز منطقة في وسط العاصمة تدعى كرستيانيا، وفرضوا عليها قوانينهم الخاصة التي ما زالت سارية حتى اليوم. فسكان هذه المنطقة لا يدفعون الضرائب، ويباع الحشيش في الشارع، ويقاوم الناس الشرطة حين تحاول الدخول إلى المنطقة.
لكن يد الحداثة طالت الهيبيز. فالهيبيز الجدد لا يهتمون بقضايا الحرب والطاقة النووية، ولا يسعون للتصادم المباشر مع الحكومات والأنظمة عبر الاعتصامات والحركات الاحتجاجية، مثلما كانت الحركة تحتج في أمريكا على حرب فيتنام وبناء المفاعلات النووية، ودورهم البارز في اعتصامات عام 1968 المناهضة للرأسمالية والعنصرية التي اجتاحت العالم في ذاك الوقت.
يهتم الهيبيز أكثر بالمسؤولية الفردية التي يسعون لاستقطاب أناس جدد لتبنيها في قضايا البيئة وتخفيض الهدر، لكنهم لا يزالون يرون أنفسهم يناضلون من أجل عالم أفضل، قائم على الإنتاج المستدام والاستخدام الأقل وساعات عمل أقل: أقل مادية وأكثر بساطة.
كالينا، وبقية العائلات التي تعيش نفس النمط، وتفضِّل أن تدعوهم «القبيلة»، ينشطون على وسائل التواصل الاجتماعي، ويدعمون بعضهم للتعريف بمزايا العيش دون التعلق بالمقتنيات والأشياء، ومقاومة الرغبة في الامتلاك والاستهلاك من أجل حياة بسيطة، خالية من التوتر، مليئة بالإبداع، ومبنية على اتباع الشغف. ما يحاولون أن يربوا عليه أطفالهم أيضًا عبر التعليم المنزلي البعيد عن ضغوط المدارس التقليدية.
لا تراهن القبيلة أو كالينا على انهيار الرأسمالية، وإنما على المسؤولية الشخصية التي تدفع الشركات إلى تقديم ما يرغب فيه المستهلكون لتحسين أنماط حياتهم. لذلك، فهم يخوضون مناظرات مع السياسيين، ويلقون المحاضرات في الفعاليات العامة وعبر وسائل الإعلام، حول قضايا النزعة الاستهلاكية وانفصال الناس عن سلوكهم الطبيعي.
إسكندنافيا تتقدم.. ولكن
أرقام الاستهلاك الفردي من النفايات الصلبة في الدنمارك وفنلندا والسويد تدق ناقوس الخطر.
الأرقام والإحصائيات حول ما تنجزه دول إسكندنافيا في مجالات الاستدامة والبيئة، تدعو للتفاؤل. فعلى سبيل المثال، تدوِّر السويد نحو 99% من النفايات المنزلية مقارنة بـ38% فقط من النفايات المنزلية، جرى إعادة تدويرها في عام 1975، وهو ارتفاع كبير يدل على زيادة الاهتمام المجتمعي والسياسي بما يتعلق بمسألة الاستدامة.
أمر مماثل يحدث في بلد إسكندنافي آخر هو الدنمارك، التي تحصل على أكثر من 43% من احتياجاتها في قطاع الكهرباء عبر طاقة الرياح فقط، وهو رقم يجب وضعه في الاعتبار إذا لاحظنا أن النسبة كانت 18% فقط عام 2005.
لكن على الجانب الآخر، أرقام الاستهلاك الفردي تدق ناقوس الخطر. فنصيب الفرد من النفايات الصلبة في اليوم الواحد، في الدنمارك، 2.34 كيلو، وفي فنلندا 2.13 كيلو، أما السويد 1.61، مقابل كيلو واحد في الأردن، ونصف كيلو في اندونيسيا، و160 غرامًا فقط في إيران.
قد تنجز الدولة بشكل إيجابي في قضايا إعادة التدوير، لكن بسهولة نرى أنماطًا استهلاكية أخرى.
يستهلك المواطن السويدي 15 كيلوغرامًا من المنسوجات سنويًّا، لا يجري إعادة تدوير في 20% فقط، حسب تصريحات سابقة للوكالة السويدية لحماية البيئة. لا يختلف الحال كثيرًا في فنلندا، فنفقات الاستهلاك المنزلي على الملابس في فنلندا عام 2016، فاقت 4 مليار يورو.
اقرأ أيضًا: سال باراديس: حاول إعادة اكتشاف الحلم الأمريكي فأسس لـ«الهيبيز»
النباتية مدخلًا للهيبيز الجدد
القصة مع كالينا بدأت عندما تحولت إلى نباتية قبل ثماني سنوات من الآن، وذلك لأسباب أخلاقية وصحية، كي تتعلم من خلال بحثها حول أنماط الحياة النباتية، كيفية الوصول إلى أنماط حياة أخرى أكثر استدامة وأقل هدرًا، لها ولعائلتها المكونة من زوجها «بنيامين» وطفليها «أستون» و«أنكين»، لتتحول منذ ذلك الحين إلى ناشطة في هذا المجال.
«الخطوة التالية هي اتخاذ خطوات لتقليل استهلاك اللحوم، لأن هذه أكثر القضايا إلحاحًا من تلك التي نتناولها حاليًّا. ولا تفعل حكومتنا أي شيء حيال ذلك، ربما بسبب الخوف من فقدان الأصوات»، تقول كالينا.
الثروة الحيوانية ذات أهمية للدنمارك، فهناك نحو 5000 مزرعة خنازير تنتج ما يقرب من 28 مليون خنزير سنويًّا، توزع لحومها على أكثر من 140 دولة في العالم. يستهلك المواطن السويدي 85.3 من اللحوم سنويًّا، أما المواطن الفنلندي، فيستهلك نحو 80 كيلوغرامًا من اللحوم سنويًّا.
تضيف كالينا: «فلسفتي الأساسية في الحياة أننا يجب أن نعيش بطريقة اتصال عالٍ مع احتياجاتنا البيولوجية وطبيعتنا. لا يجب علينا العودة إلى العصر الحجري، لكني أعتقد أننا يجب أن نزدهر بشكل أفضل، أي أن نعمل على تلبية حاجاتنا البيولوجية مع ضمان ازدهار الكوكب، وهذا الأمر ليس متحققًا الآن».
قد يهمك أيضًا: صيف الحب: ثورة «الهيبيز» التي أعاد فشلها صياغة شكل العالم
ليست حكرًا على الإسكندنافيين
تنشط مجموعات بيئية كثيرة في المجتمع الإسكندنافي، أهمها حزب الخضر السياسي الذي يعد جزءًا من حركة الحركة الخضراء العالمية.
الشاب الأردني المقيم في فنلندا، محمد الحسن، يقول إنه لم يتعمد أن يعيش بهذا النمط. لكنه وجد نفسه محاطًا ببيئة ريفية مشابهة لمدينته الأصلية شمال الأردن، دفعته نحو نمط معيشي شبه إنتاجي لسد جزء من احتياجات العائلة، وبحكم وقت الفراغ المتاح لديه، بسبب غياب طابع الحياة الاجتماعية الشرقية عن المجتمع الفنلندي، انغمس في هذا النمط أكثر فأكثر، سواء بإعادة تدوير الأخشاب، أو بالبحث عن الفطر في الغابات، وحتى جمع محاصيل الحبوب في المنطقة المحيطة.
أما الصحفي السوري المقيم في السويد، محمد فارس، الذي يعيش حياة منضبطة في النفقات والاستهلاك، فيشير إلى جزء أساسي من حياة السويديين، وهو استهلاك الأثاث، يقول: «في النمط المعيشي في السويد، شركات كبيرة تعتمد نموذج إنتاج بضاعة شعبية أسعارها مقبولة، وتصلح للاستعمال لفترة قصيرة نسبيًّا، مثل شركات الألبسة «H&M» و«إيكيا». هذا النموذج يوفر على المستهلك الذي يدفع ثمن سلعة جيدة بسعر مقبول، ويُنتج لاحقًا مشكلات تتعلق بزيادة الاستهلاك والطلب على السلعة، وصعوبات في التخلص من نفايات ما بعد استخدام تلك السلع».
على غرار حركة الهيبيز الجديدة، فإن مجموعات بيئية كثيرة تنشط في المجتمع الإسكندنافي، أهمها حزب الخضر السياسي الذي يعد جزءًا من حركة الحركة الخضراء العالمية، التي تشترك في العمل من أجل الديمقراطية والمجتمعات المستدامة، والذي على الرغم من انخراطه في صناعة القرار بشكل مباشر، فإنه يؤمن بأن المسؤولية في التغيير المستدام والاستهلاكي تقع على الأفراد بالدرجة الأولى.
حصل حزب الخضر على 25 مقعدًا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ما يدل على تيار متصاعد يجد لنفسه مكانًا في مساحات سياسية.
أحمد أبو حمد