غد الأممية المبكر جدًّا: لِمن يُخرج التاريخ لسانه؟
هذا الموضوع ضمن ملف «أحمر باهت: مئة عام على الثورة الشيوعية». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الملف من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
كنت شيوعيًّا ولم أزل، وفي الأغلب سأظل، والناس في ما يؤمنون مذاهب. قد تكون ثورتا فبراير وأكتوبر 1917 بالنسبة إلى بعض الناس مجرد حدث مهم في تاريخ دولة نصف أوروبية تسمى روسيا، وقد تكون ثورة أكتوبر تحديدًا بالنسبة إلى آخرين مجرد انقلاب بلشفي على ثورة فبراير الديمقراطية، تأسست على إثرها شمولية ستالينية فريدة البشاعة، وقد تكون النظرة إليها كسردية منتصرين، في أعقاب حرب أهلية بربرية أودت بحياة أربعة ملايين إنسان على الأقل.
لكن هناك نظرة أخرى ترى في ثورة أكتوبر وتأسيس الاتحاد السوفييتي حدثًا محوريًّا في التاريخ الإنساني. فعلى سبيل المثال، يسمي المفكر الإيطالي «جيوفاني أريغي» القرن العشرين بالقرن الماركسي الذي بدأ متأخرًا وانتهى مبكرًا، بدأ في 1917 مع ثورة أكتوبر وانتهى في 1991 بإعلان وفاة المريض السوفييتي، وبين التاريخين كانت الشيوعية هي الديانة الشعبية العالمية الصاعدة لإنسان القرن العشرين، فألهمت الملايين وأفنت الملايين من أقصى الكوكب إلى أقصاه، وجمعت بين بشر لا يجمع بينهم إلا انتماءهم إلى الجماعة الإنسانية.
لكل الثورات في التاريخ البشري مستويان من الأثر، مستوى مادي يتعلق بأثر سلطتها الجديدة على عملية الحكم والتمثيل وسياسات الإنتاج والتوزيع المادية، وهذا المستوى يظل محدودًا ومقيدًا بشروط موضوعية تتعلق بدرجة تطور البلد وقوى الإنتاج فيها وعلاقات الإنتاج بينها، ولا تستطيع الأيديولوجيا العبث معه أو التحايل عليه إلى النهاية.
المستوى الآخر يتعلق بدرجة حضور الأيديولوجيا في المشهد الثوري، أو في الخطابات التي تنتجها تلك الثورات عمومًا، ومدى تمثُّل منتسبيها عقائديًّا إليها، وكذا في الجدل الذي تطلقه آفاقه. والثورات المهمة في التاريخ البشري، كالثورة الروسية، هي تلك التي امتزج فيها المستويان، وحاول المستوى الثاني حفز المستوى الأول، وسعى إلى إحداث تغيرات كيفية فيه.
ظنِّي أن ثورة/انقلاب أكتوبر 1917 كانت أكبر تهديد للنظام العام والعالمي في التاريخ الحديث، والتجربة الجديدة التي طرحت بوضوح أسئلة حقيقية لمبدأ «المِلكية» وشكله وعلاقاته التي يخلقها، وطرحت أسئلة عن التمثيل السياسي بطموح يسعى إلى تجاوز الديمقراطية التمثيلية لصالح ديمقراطية مباشرة، وأسئلة كذلك بخصوص معنى الحرب والعلة اللازمة لوجود جيوش، وفوق كل هذا وبشكل عملي طرحت إمكانية تجاوز الدولة القومية كما لم تُطرح من قبل.
ذلك كله استدعى إعلان العالم، بشكل رسمي، الحرب على الثورة الروسية في طورها الراديكالي.
لا أتحدث مجازًا، فالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا واليابان والصين وألمانيا أعلنوا الحرب ضد الجمهورية السوفييتية الوليدة، وكانوا ذخيرة خصومهم لسنوات وبمنتهى العزم، وبالشكل الذي يجب أن يُفهم معه أن الحرب الأهلية الروسية، التي انتصر فيها «الحمر» على خصومهم «البيض»، كانت في الجانب الأكبر منها «حربًا عالمية» ضد الطور الراديكالي للثورة الروسية، تمامًا مثلما كانت هناك حرب أوروبية موحدة ضد الجمهورية الفرنسية إبان سيطرة «اليعاقبة» (الفصيل السياسي الأكثر راديكاليةً في تاريخ الثورة الفرنسية) على السلطة بعد ثورة 1789.
لا يسعني بالطبع الاشتباك معها جميعًا في هذا الموضوع، لكن سأحاول تسليط الضوء على المسائل التي أعتبرها «قذفًا لحجر التاريخ إلى الأمام وإلى آخر مدى»، كما قال تروتسكي مرةً مخاطبًا جنوده في أسباب إعلان كل العالم الحرب على الدولة السوفييتية. سأشتبك أيضًا مع منطق الثورة وديناميكيات تحولاتها الدرامية، كهاجس عام هو صِنْو هواجسنا الشخصية نحن أبناء عالم الثورات العربية، وماذا يمكن أن تفعل بنا الهزيمة، وكيف يمكن أن يحيلنا النصر إلى آخرين سوانا.
غد الأممية المبكر جدًّا
«بجموعٍ قوية، هُبُّوا لاح الظفر، غد الأممية يوحد البشر». هذا جزء من كلمات نشيد الأممية، الذي ألفه الفرنسي «أوجين بوتييه»، أحد أعضاء كوميونة باريس التى تأسست وهُزمت عام 1871. كان نشيد الأممية أغنية حماسية مهزومة لتجربة قصيرة سُحق جنينها بقسوة في فرنسا، لكنه، بعد 45 عامًا، أصبح النشيد الرسمي لدولة تسيطر على سدس مساحة العالم، وبإمكانية واردة لأن يصبح نشيد العالم كله كما كان يطمح بوتييه.
يتعامل الناس أحيانًا مع بعض الأفكار التقدمية المؤسِّسة ببداهة النظر إلى الوراء، على طريقة أن كل شيء موجود من الأصل في القرآن، أو أن الفراعنة سبقوا الجميع في كل فعل إنساني جدير. في دساتير وقوانين الزمن الحالي، هناك مواد بديهية جدًّا لدى البعض من دون أن يتذكروا أنها نتاج سنين من الكفاح والنضال والكَبَد الفكري والذهني، فحتى وقت الثورات الفرنسية والأمريكية، لم تتأكد وتتبدَّه (تصبح بديهية) المبادئ الليبرالية القائلة بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، أو أن العقوبة شخصية وليست جماعية، أو أنه لا يمكن أن يعاقَب إنسان على جريمة واحدة مرتين.
التعامل البديهي المتلحِّف ببراءة استفزازية تلحظه هذه الأيام مع المضغ المستمر لمقولات ضرورة الإنسان العالمي وتقديس الإعلانات الكونية المنظمة لعلاقات البشر «المتساوين افتراضًا»، والسعي إلى الاتفاق على سياسات كوكبية متعثرة بالطبع.
مع الإقرار التام بفكرة حق الشعوب في تقرير المصير، كل هذا يجعلنا في حاجة إلى إعطاء ثورة أكتوبر بعضًا مما تستحقه، بأن نتخيل ونتذكر أنه منذ مئة عام أُعلنت جمهورية تعتبر الدولة القومية فكرة رجعية، وتعتبر أن أساس هوية نظامها واجتماعها السياسي هو الأيديولوجيا الحاملة لها وشكل التمثيل السياسي لمواطنيها، أي الاشتراكية/السوفييتية، وبالتالي أعلنت هذه الجمهورية بداهة مبدأ حق تقرير المصير للشعوب. إنها الأممية في صباحها الباكر وفي طورها التنفيذي الوثاب.
نشأت عناصر السبيكة المادية لفكرة الدولة القومية في منتصف القرن السابع عشر، مع صلح وستفاليا في أوروبا، واحتاج الأمر قرنًا ونصف حتى يصطك الفرنسيين لأنفسهم تعريفًا أكثر تقدميةً للدولة القومية وقانونها وتعاقداتها الاجتماعية.
القومية الألمانية ذات نفسها كانت مولودًا متأخرًا في القرن التاسع عشر، والفكرة القومية في المجمل ليست بالخفة التي يتعامل معها من نشأ في بداهة نظامها، فقد احتاجت قرونًا من الحروب والجدالات كي تصبح واقعًا ماديًّا مستقرًّا.
كان الخطاب الأممي وقت الحرب العالمية الأولى شرودًا من الخيال، بينما السعار القومي في أوجِه، والفخار العسكري للجميع ضد الجميع في جبروته.
في ذروة شباب وفتوة الفكرة القومية في أوروبا، تظهر النزعة الأممية كمولود عاقٍّ ومتوتر مع ثورات 1848، وصدور البيان الشيوعي ثم تأسيس الأممية الأولى وأحزابها التي تدعو إلى تجاوز سلطة الدولة القومية لصالح تأسيس سلطة الطبقة العاملة المتآخية عبر العالم، وبأحزاب وتنظيمات كانت عضوياتها وقيادتها متجاوزة للانتماء القومي. بالطبع كانت تلك محض أفكار وأحلام وليدة فيضان ثوري لا حدود له، وتنظيمات على الهامش وحكمها غير وارد، لكنها ظهرت سريعًا وقتما لم تكن الفكرة القومية قد تبلورت واختمرت عند القطاع الأكبر من سكان العالم.
بشكل أقرب إلى السباق بين شاب يافع ينضج ومولود صغير ينمو بسرعة عنيفة، كان الأمر بين الفكرة القومية والفكرة الأممية، فسرعان ما صارت الأممية الثانية الاشتراكية، التي تأسست في أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، لاعبًا مهمًّا في سياسات الدولة القومية، ومنافسًا سياسيًّا صاعدًا وخطرًا محتملًا.
لكن هذا كله لا يساوي النقلة النوعية التاريخية التي حدثت في العقد الثاني من القرن العشرين مع الثورة الروسية، وبالشكل السياسي المادي والطموح الذي ظهرت به بعد ثورة أكتوبر، إذ تحولت الفكرة الأممية إلى واقع مادي وسياسي، وليس مجرد مشاغبة سياسية مترددة كما كان الأمر قبلها، وهذا أمر يستحق التوقف أمامه كثيرًا على مستوى تقدميته وسبقه التاريخي، وفي ظني، وبحسابات الزمن، كانت تلك آخر ذروات لحظات التاريخ تقدمًا، مثلما كانت قبلها دساتير «اليعاقبة» وطروحاتهم في ذات الموقع من التاريخ إبان الثورة الفرنسية.
بالطبع لم يكن الأمر هينًا، ولم يكن مسارًا تاريخيًّا حتميًّا يرتقي درجات سلالم المنطق، فالحرب العالمية الأولى اندلعت وسط حالة من العُصاب والفخار والحشد القومي الأوروبي غير مسبوقة، لدرجة جعلت الغالبية العظمى من الأحزاب الاشتراكية للأممية الثانية، وتحديدًا في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، تقف في صف حكوماتها القومية وتدعم الحرب، وكان كل من ضد الحرب خائن وطابور خامس بالتعريف.
كان الخطاب الأممي حينها شرودًا من الخيال، بينما السعار القومي في أوجِه، والفخار العسكري للجميع ضد الجميع في جبروته. أو كما قال تروتسكي ساخرًا في عام 1916، يمكن جمع كل الأمميين في عربة قطار واحدة متجهة إلى منافي سيبيريا.
احتاج الأمر ملايين القتلى في حرب عبثية، وملايين النساء العاملات المستجدات على سوق قاسية يفوق عدد ساعات العمل فيها 14 ساعة يوميًّا، واحتاج ثلاث سنوات من العبث الكيماوي كي يتحول الشغف والعاطفة لعموم الروس من استعادة مجد روسيا إلى طلب الخبز والحرية والسلام ولعن الحرب كفكرة في ذاتها، والإعلان الشجاع أنه لا للحرب ونعم للسلام، لأن «غد الأممية سيوحد البشر»، و«مِن كلٍّ حسب قدرته، لكلٍّ حسب حاجته».
النزعة الأممية قفزت بالعالم إلى بداهة فكرة التحرر الوطني، بعد أن كانت قبلها فكرة الدولة القومية متبلورة في الدول الشمالية المتقدمة ذات الامتدادات الإمبريالية.
على المستوى العملي، عاد فلاديمير لينين إلى روسيا ليقود البلاشفة في إبريل 1917، بعد شهرين من اندلاع ثورة فبراير وسقوط القيصرية الروسية، ببرنامج شديد الوضوح والذكاء، شعاراته بسيطة وحاسمة يفهمها أتعس فلاح روسي ويتبناها ويموت من أجلها: «لتتوقف الحرب الآن وللأبد»، و«لن تموتوا سُدى بعد الآن من أجل هؤلاء»، و«الأرض لكم ولمن يفلحها». ولم يكن ما سبق محض شعارات، بل كانت بالفعل أول المراسيم التنفيذية لسلطة سوفييت بتروغراد، بعد انتصار ثورة/انقلاب أكتوبر 1917.
لذلك، على مستوى شخصي، أُكِنُّ للينين تقديرًا مضاعفًا، لأنه ذلك المثقف والسياسي الحالم/الحيوان في نفس اللحظة، وهو اللاحق بتطور التفلسف المعرفي الغربي على قدم وساق مع مثقفيه المتطورين، بينما في ذات اللحظة تغوص ذاته الروسية في بحار همومها الشرقية، لأنها بِنت التخلف وحمولاته ومتطلبات حكمته وأحزانه الكؤود.
لينين في هذا الصدد، كشخص ودماغ، يعبِّر عن تموضع روسيا و«إنتلجنسيتها» (طبقة مثقفيها ومفكريها) بالذات ومأساتها في الوقت نفسه، فبينما كان مهمومًا بالتفكير في مستقبل كل البشرية، كان موقعه في روسيا البائسة يتلخص في قصة الفلاح المعدم الذي قال إن «لينين منحنا الأرض، فلينين هو القيصر، فليحفظ الرب لينين».
في هذه السياقات الملحمية، كانت للصعود الأممي آثاره الجانبية غير المدرَكة، فالنزعة الأممية قفزت بالعالم إلى بداهة فكرة التحرر الوطني، بعد أن كانت قبلها فكرة الدولة القومية متبلورة فقط في عدة دول شمالية متقدمة، وكلها ذات امتدادات إمبريالية، لكن بعدما أصبح من الوارد ماديًّا تأسيس سلطة الطبقة العاملة وخلق دول على أساس غير وطني في شكل سلطة سوفييتية، صار للتحرر الوطني إمكانية أعلى يمكن التساهل معها نسبيًّا من قِبل الإمبرياليات، وأصبحت للبرجوازيات الوطنية في العالم الثالث جرأة أعلى في طرح حكم نفسها وشعوبها.
على سبيل المثال، كان سعد زغلول، كباشا مصري برجوازي، في موقع معادٍ للدولة السوفييتية بكل تأكيد، لكنه بذات التأكيد لم يجد غضاضة في الاستفادة من الشقاق الذي أحدثته السلطة السوفييتية الجديدة في عالم الدول السيدة المهيمنة، والذي كان بعض تجلياته فضح لينين علنًا للاتفاقيات والمعاهدات السرية التي أبرمتها الدول الإمبريالية لتقاسم النفوذ في مستعمرات العالم الثالث، ومنها معاهدة «سايكس بيكو» بالطبع.
من وجهة نظري، كان الحلم الأممي هو المطلب غير الواعي بذاته للشعوب المغدورة، وكانت بلورة أفكار التحرر الوطني هي الحل الوسط من قِبل البرجوازيات الناشئة لتلك الشعوب، من أجل طرح مشروع جزئي و«منضبط» للتحرر، لذا فعلى هذا المستوى بالذات ربما كان أثر الثورة الروسية في العالم أهم من أثرها في روسيا نفسها.
على مستويات أكثر رمزيةً وخفةً، ولتبيان هذه التحولات التقدمية الراديكالية، يمكننا التأمل في تركيبة وخلفيات وشخوص حكام روسيا السوفييت بعد ثورة أكتوبر. نحن نتحدث عن حزب شيوعي أبرز قادته النظريين والحركيين من اليهود، مثل تروتسكي و«ليف كامينيف» و«زينوفييف» وآخرين، بينما كان جوزيف ستالين قيصر روسيا القادم رجلًا من جورجيا، ظل يتحدث الروسية بلكنة ثقيلة حتى مماته، وكان «فيلكس دزيرجينسكي» بولنديًّا، وهو من أسس أجهزة الأمن السوفييتية ذائعة الصيت والبشاعة، وبرز كذلك التتري المسلم سلطان غالييف في قيادة الثورة.
لنتذكر أننا نتحدث عن عام 1917، وهؤلاء هم من كانوا في صدارة المشهد، وبمعايير ذلك الزمان كان هذا أمرًا تقدميًّا للغاية لو كنا نرتدى نظارات التقدم والأمل، ولو خلعناها لكان الأمر غرائبيًّا ومثيرًا للشك والريبة.
اللافت والكوميدي أن حملات وصف الثورة الشيوعية بـ«المؤامرة اليهودية السرية المريبة» لم تبدأ من الفاشيست أو من أقصى اليمين المهووس، بل على صفحات المجلات والجرائد الأمريكية الرصينة المشهورة، مثل التايمز والنيوزويك.
على الجهة الأخرى، علينا أن لا ننسى أن الأمر احتاج 90 عامًا بالتمام والكمال، بعد ذلك التاريخ، كي يذرف العالم الليبرالي دموع الفرح والنشوة لانتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود للولايات المتحدة.
كانت الصدمة الشيوعية/الأممية عنيفة جدًّا على العالم القديم، بل على الجديد أيضًا. كان التهديد الأممي باسم سلطة العمال ورعاع العالم سببًا في انتفاض الفكرة القومية، ليُعاد تشكيلها في ألمانيا وإيطاليا بطريقة أكثر توحشًا وغضبًا. فالنازية، كأيدولوجيا استئصالية للإنسان وفقًا لجدول زمني وبحسب ترتيب درجة جدارته العرقية، وكذلك كأيدولوجيا مسكونة بدوافع الخلاص بالموت، هي في رأيي القطب السالب للشيوعية، وتظل الاثنتان حتى تاريخه قطبي زاوية النظر.
الشيوعية في جانب ما من جوانبها كانت إدراكًا مبكرًا للنازية وأخواتها كتطور محتمل جدًّا لكل فكرة قومية، لذلك طرحت الشيوعية نفسها كاحتمال يوتوبي في مواجهة احتمالات البربرية وفناء الأغلبية. ولا أرى نفسي مغاليًا، فمع التقدم العلمي المضطرد وقدرة البشر المتزايدة على تسخير الموارد والطبيعة والسعي إلى الخلود الزمني، الذي يترافق معه امتلاكهم القدرة، ليس فقط على تدمير أنفسهم بل على تدمير موارد الكوكب ووجوده، وذلك في وقت لا تزال هلاوس السيادة والاستحقاق القومية تقود ذهن ووجدان ساسة العالم، مع كل ذلك لا تكون اليوتوبيا الشيوعية مجرد رفاهية حالمة، بل نفي لديستوبيا ورادة بشدة.
مكر التاريخ: لكنه يُخرج أحيانًا لسانه وأحيانا قضيبه
ربما يحمل هذا الكلام قدرًا شغوفًا من الحماسة العقائدية لإنسان شيوعي، لكنها حماسة كانت دومًا قلقة ونقدية من اللحظة الأولى، لشخص تبنَّى الماركسية بعد سنوات قليلة من انهيار العالم السوفييتى بحواشيه، لذا كان هذا التبني ثقيلًا ومحمَّلًا بالمرارات وعدم الاطمئنان، وبمحاولة أخذ كل العوامل في الاعتبار، لكن تظل الفكرة في نظري هي الأكثر وجاهة، وأن العالم في ذروة صعودها كان أكثر تقدمًا، وفي لحظة أفولها أكثر خطورة.
يخرج التاريخ للشيوعي لسانه ويقول له إن شيوعيته لم تكن إلا مطية خطابية، لتسريع نمو وتراكم رأسمالي وحشي التكاليف بطريقته الخاصة تحت سيطرة دولة قمعية.
أتذكر هنا حوارًا مع الراحل سعد زهران، يليق بقائد شيوعي ابن عالم الأربعينيات في مصر، وهو يبحث عن عزاء ما في انهيار الدولة التي آمن بها يومًا.
قال لى زهران إن العالم لم يدفع من وجوده ثمنًا باهظًا لانهيار الدولة الإمبراطورية السوفييتية، وتخيل معي الإمبراطورية الأمريكية في لحظة انهيار. فالاتحاد السوفييتي الذي انتهى إلى مخلوق شرير عجوز وكسيح كان طيب البذرة، فكان انهياره رحيمًا بالعالم وبدون تكاليف توازي معنى انهيار إمبراطورية بهذا الحجم، ولكن فقط تخيل لحظة انهيار الإمبراطورية الأمريكية، وكم رأس نووية يمكن أن تسقط بين طوكيو وبيونيس آيريس في الأثناء.
لو كان الإنسان نقديًاّ، فالدراما الشيوعية مؤلمة ولها عشرات الأوجه، ومفارقاتها معقدة لأن التاريخ ماكر بالفعل، والصبر حلم العواجز كما قال الشيخ إمام يومًا، والتاريخ يخرج لي لسانه حين يخبرني أن الشيوعية حلم من يعجز عن اللحاق بالقلب الرأسمالي المهيمن، وأنها كانت عمليًّا أداة اللحاق به، وأن من تبناها كانت الدول «البين بين»، لم يشغف بها الإنجليز أو الأمريكان، بل كانت حلم الروس والصينيين، وكانت شرط رسملة البلدين (تحولهما إلى بلدان رأسمالية).
التجربة الشيوعية في ظرف سنوات معدودة انزلقت إلى بيروقراطية سياسية منحطة تقود رأسمالية دولة، بحسب «توني كليف».
يُخرج التاريخ للشيوعي لسانه، ويقول له إن شيوعيتك لم تكن إلا مطية خطابية من أجل تسريع نمو وتراكم رأسمالي وحشي التكاليف بطريقته الخاصة تحت سيطرة دولة قمعية، لكنه في ذات الوقت يُخرج قضيبه لتوافه النيوليبرالية (المطالبون بعدم تدخل الدولة في آليات السوق) وأتباع «ميلتون فريدمان» في العالم الثالث، الذين يظنون أن تسليم الموارد والبشر إلى روح السوق الهائمة خارج المادة سينتج شيئًا سوى إلحاقًا هامشيًّا وذليلًا ببطء لملايين البشر في السوق الرأسمالي، «انظر إلى سرمدية بؤس الشعب الهندي في عمومه».
كان كارل ماركس ألمانيًّا، وكان كل احترامه مصوبًا نحو الرأسمالية الإنجليزية وطبقتها العاملة، بينما كان قلبه وشغفه مع الروح الثورية الفرنسية وتراثها الملهم، ولكن أسف التاريخ جعل الثورة العمالية تندلع من الحلقة الأضعف النصف أوروبية، أي روسيا.
يقينًا، حُمِّلت روسيا فوق طاقتها ولإمكانياتها، فهي مكان من بساطة درجة التطور ما لا يسمح لها بحمل وقيادة يوتوبيا كبرى كالشيوعية، وروسيا كدولة قومية في حد ذاتها لا يمكنها أن تكون قطبًا عالميًّا في مواجهة أوروبا وأمريكا تحت أى دعوى، بل ربما كانت الفكرة الشيوعية وخطرها وإلهامها ما جعلوا روسيا في هذا الموقع الذي يفوق أهميتها لِمَا يقارب قرن من الزمان، ويمكننا هنا أن ننظر إلى روسيا الآن كمجرد بلطجي نووي محكوم من ضابط مخابرات لا بديل له.
لم تتحول الصين إلى قبلة النمو الرأسمالي العالمي لأن «دينغ شياو بينغ»، رئيس جمهورية الصين الشعبية في الفترة بين 1978 و1998، وإليه يُنسب فضل تبني اقتصاديات السوق الحر، صحى من النوم مبكرًا أواخر السبعينيات، فرمى بعصاه السحرية وقرر هو والقيادة الجديدة للحزب الشيوعي الصيني «إصلاح الاقتصاد» وفتحه أمام الرأسمالية الدولية.
القرار وحده لا يكفي، وإلا لقرر ذلك العالم الثالث كله ونجح في التنفيذ. الصين لم تصبح ممكنة للرسملة إلا بسبب الحكم الشيوعي نفسه، الذي تمكَّن بالقسر والعنف في ثلاثة عقود من خلق طبقة عاملة كبيرة ورفع مستويات الصحة والتعليم واللياقة الآدمية العامة لنسبة كبيرة من الفلاحين المعدمين، بالشكل الذي جعلهم مستعدين لصهر وجودهم في أفران لإنتاج قيم مضافة هي الأكبر في العالم.
المفارقة الكبرى أن الصين الشيوعية أصبحت مركز الرساميل في عالم القرن الحادي والعشرين، وأكثر منظوماته استغلالًا وقسوة، والصين في اللحظة الحالية هي لسان التاريخ وقضيبه لأي شيوعي.
يتجلى مكر التاريخ حين نودي بالأممية، فجاءت أممية سالبة توحد البشر خلف استمرار مصالح حفنة كوكبية أقلوية.
الأفكار اليوتوبية العالمية الكبرى والخطرة يحاربها أعداؤها في البداية حربًا عسكرية ضروس، وإذا فشلت الحرب في تحقيق أهدافها العسكرية يحتالون على بعض معاني هذه اليوتوبيا وغاياتها لدرء مخاطرها الكلية. حدث الأمران مع الشيوعية، سواءً الحرب العسكرية كما ذكرنا سابقًا، أو الاحتيال الإيجابي والسلبي.
تتجلى عملية الاحتيال على معنى اليوتوبيا بوضوح في محاولة الوصول إلى بعض غاياتها، بشرط أن تكون العملية مفرَّغة من الأساس النظري والقيمي الذي يُفضي إليها.
المثل على ذلك هو كيف حدث التعاطي مع الفكرة الأممية البازغة وشرط المساواة والرفاهة اللصيق بها، فبدلًا من أن يصبح الحلم هو عالم واحد موحد تتساوى فيه كل مكوناته وعناصره بالتمام، تتحول الإمكانية إلى تأسيس دول قومية متقدمة تتمتع بمستوى من الرفاهة الاجتماعية غير المسبوقة في نعيمها، لتصبح النموذج الذي يصبو إليه الكل، ولن يصل إليه حتمًا إلا بعض النتوءات الجغرافية في أوروبا.
بدلًا من أن تتأسس وحدة سياسية عالمية لإدارة موارد العالم وسياساته، تتأسس في المقابل هيئات وتحالفات دولية عاقلة ومنضبطة تجمع بين الاقتصادي والعسكري، وتشتمل الدول السيدة في الكوكب، بحيث تدير عبرها صراعاتها أو مصالحها ومصالح رأسمالياتها التي أصبحت متعولمة وعابرة للدول القومية في كثير من الأحيان، بمعنى أبسط: «إن كنتم تريدونها أممية، فسنجعلها عولمة».
مكر التاريخ ولسانه الخارج تجلَّى حين نودي بالأممية، فجاءت أممية سالبة توحد البشر ليس خلف استمرار وجودهم وضمان سعادتهم، بل خلف استمرار مصالح حفنة كوكبية أقلوية من بينهم، وفي الأثناء ظهرت الإعلانات العالمية لحقوق الأشياء وعُصب الأمم والهيئات الدولية وما شابه من أمور.
كذا في غايات العدالة والمساواة الاقتصادية، طمحت الشيوعية إلى شيوع الموارد فظهرت دولة رفاه حصرية للرجل الأبيض البريء اللطيف في الإنسانية. وما أن اختفى الخطر الشيوعي سياسيًّا حتى صارت دولة رفاه الرجل الأبيض البريء جدًّا مهددة، بل هناك سعي حثيث إلى التراجع عن كل مكتسباتها.
أشعر أن مكر التاريخ أحيانًا يكون مكايدًا وسخيفًا على مستويات تفصيلية ورمزية، فلقد أطلق جيفارا لحيته ولبس الأسمال وتحدى الرَّبْو وركب الجبال هربًا من سلطة جاءت إليه ورفضها، ومن كل طيف لتسليع الحياة، فدفع حياته ثمنًا لذلك مقتولًا مُهانًا في أحراش بوليفيا، ليدور الزمن ويصبح هو نفسه واحدًا من أهم السلع وأكثرها ابتذالًا في عوالم الاستهلاك، فهو تارةً قميص وتارةً أخرى نوع من العطور والبيرة، حتى صار وشومًا على الأثداء والأرداف.
حدث مع جيفارا تحديدًا، كرمز وملحمة، كل ما لم يرده، مثلما لو كانت عملية مخططة من أجل ابتذال معناه.
أعلم أن الشيوعية كمشروع يبدو مفرطًا في اليوتوبية، لأن عالم الوفرة الذي يتحول فيه العمل إلى محض نشاط إنساني طوعي كاللعب والمرح، وحيث «مِن كلٍّ حسب قدرته، ولكلٍّ حسب حاجته»، هو عالم مثالي لدرجة تثير الضحك، خصوصًا لو تصورناه نفيًا للرأسمالية كما نعرفها ونعيش قصص اغتراباتنا فيها كل يوم.
لكنها مع ذلك تظل في ظني أكثر اليوتوبيات ماديةً وقابليةً للتحقق، وأكثر إمكانيةً وعقلانية، لأنها وإن كانت يوتوبيا وتبدو بعيدة، فهي يقينًا ليست أبعد من تحقيق إرادة الآلهة والكلمات الخارجة منها على الأرض، ويقينًا أقرب من سيادة عِرق بعينه على العالم، آريًّا كان أم ناريًّا، وبالتأكيد هي أقل يوتوبيةً من حلم تحطيم سيادة الذكور على العالم من قِبل النسويات، ذلك أنها، أي الشيوعية، يوتوبيا مشروطة باستحقاقات مادية لبلوغها، وليست مجرد معارك في سماء الوعي والإدراك.
أحلام الثورات وكوابيسها
لأن التاريخ يخرج لسانه لنا، وأحيانًا يخرج قضيبه، فالثورتان الروسيتان (1905 و1917) تعلمانا كثيرًا عن هواجسنا، هاجس الهزيمة والحياة تحت وطأتها وهاجس النصر وآلام استحقاقاته، وتواجهانا أيضًا ببؤس مأزق الأجيال التي تحيا فترات انتقالية مهمة، وتكون هذه الأجيال ابنة هذه الفترة وإرادة تجاوزها في نفس اللحظة.
أعلن ستالين أن أي فعل مباح وأي مورد مُسخَّر، طالما لهدف انتصار الثورة مجددًا، مما يفسر جرائم كثيرة ارتُكبت لاحقًا.
شهدت روسيا بين الثورتين وقبلهما بقليل تطورًا رأسماليًّا ملموسًا سمح بخلق قاعدة طبقة عاملة صناعية كبيرة في سان بطرسبرغ وموسكو، إلا أنه كان تطورًا رأسماليًّا دون وجهة أو مرفأ محدد، ولم يسايره تطور سياسي يسير معه بنفس خطواته.
اندلعت ثورة 1905 في ظروف مشابهة لثورة 1917، استبداد سياسي تترافق معه هزيمة عسكرية أمام اليابان، لكنها كانت ثورة تخنقها الأحلام البريئة وحسن النية. صحيحٌ أن فكرة الديمقراطية المباشرة والتمثيل السوفييتي تأسست فيها، إلا أن الردة كانت سريعة والهزيمة كانت قاسية، وخلقت وعيًا مفاده أن التردد مبعث الندم، فلقد تشتت قادة الحزب الاشتراكي لاحقًا تحت وطأة القمع، وعانى معظمهم ويلات الهزيمة ومذلتها.
ففي سيبريا، شاهد لينين أحد أقرب أصدقائه ينتحر برصاصة في الحلق ليتناثر الدم والأشلاء على الجليد، وفي غضون سنوات قليلة انتقل معظم قادة البلاشفة إلى المنافي الأوروبية، ولم يبقَ منهم في التخفي الداخلي سوى ثلاثة، أحدهم الجورجي ستالين، الذي قال في تلك الفترة إن أي فعل مباح، وأي مورد مُسخَّر، طالما كان ذلك لهدف واحد هو انتصار الثورة مجددًا، وفي هذا تفسيرٌ لجرائم كثيرة ارتُكبت لاحقًا.
لكي نفهم وطأة انتصار الثورة المضادة بعد فشل ثورة 1905، علينا أن نتأمل كيف لأمة أخرجت دوستويفسكي وتشيكوف وتولستوي وغوغول في الأدب، وتشايكوفسكي وموسورغسكي وكورساكوف في الموسيقى، أن يتحكم في إرادة عقلها الحاكم، في الفترة بين 1905 و1917، رجل دين جاهل ومشعوذ كـ«غريغوري راسبوتين»؟ كيف يمكن للأرثوذكسية الآسنة المريضة أن تنتقم وتنتحر؟ أي إهانةٍ تلك من الثورة المضادة لأنتلجنسيا سبق أن أخرجت مثل هؤلاء؟ ألا يذكِّرنا ذلك بحال شبيه منا الآن؟
هذه كانت بعضًا من السياقات التي أنتجث ثورة وثوريي 1917، فبالمعنى التاريخي كانت ثورة 1917 محتومة، لأن النظام القيصري عجز عن إرساء تأسيس جديد وقابل للاستدامة لنفسه بعد استرداده السلطة أعقاب فشل ثورة 1905 إلا بالقمع فقط، فكان أي ظرف دولي عظيم كالحرب العالمية الأولى كفيلًا بتفجير الوضع مرة أخرى.
من ناحية مختلفة، كان المثقفون الروس راديكاليين بالتعريف واشتراكيين بالبداهة، وكانت تجربة فشلهم في ثورة 1905 مؤلمة، وكان في وعي أشدهم راديكاليةً أن أي فرصة ثورية جديدة لا يمكن أن تُهدر ولن يُسمح بضياعها تحت أي دعوى وبأي تكلفة، لن تعود القيصرية والكنيسة الأرثوذكسية ودونها الرقاب، لأن رقابًا عزيزة سبق أن طارت سُدى، وعقولًا أخرى مجيدة سبق أن ذهبت أمام أعينهم.
من هنا أيضًا بدأت الإرادوية الثورية المأساوية التي تسعى إلى تأسيس نموذجها اليوتوبي قسرًا على التاريخ، ومن هنا وفي الحالة السوفييتية ظهر عدد من البدع الخرقاء، أولها إمكانية «حرق المراحل»، ليقفز العالم فجأةً من الإقطاع إلى الاشتراكية عبر مرور خافت بالرأسمالية.
ومن هذه البدعة الخرقاء تولدت بدعة أكثر حماقةً قالت بإمكانية بناء اشتراكية في بلد واحد بعد فشل الثورات الاشتراكية في ألمانيا وإيطاليا، فكانت مأساة تحفيز وتسريع رسملة الدولة وتنمية روسيا على جثث ملايين الفلاحين في أقل من عقدين. والمأساوي جدًّا في الأمر، وبالتأمل في التاريخ، أن حرق المراحل وأثمانه الباهظة لم يكن من أجل الوصول إلى الاشتراكية، بل من أجل الالتحاق اللائق بالرأسمالية.
تُعلمنا تلك الخبرة أن الثوريين إذا ما استولوا على السلطة ليقيموا سلطة باسم فكرتهم دون توافر الشروط المادية لتحقيقها، فهم لا يتخلون عن تلك السلطة طواعيةً أبدًا بعد أن تكون أيديهم قد تعمدت بدماء أعدائهم وأصبحوا في حالة تورط لا مجال للتراجع فيه بعد تتابع انتصاراتهم، وهم في هذه الحالة إما أن يأكلوا أنفسهم بأنفسهم كما فعل يعاقبة باريس ويسار الثورة الفرنسية، أو يأكلوا كل الخصوم لتبقى حفنة مؤلَّهة من قادتهم فوق شبح التجربة وقيمها في ظل خوف وإرهاب قاسٍ.
انتصر البلاشفة، وفي خضم انتصاراتهم أدركوا أنه لا سبيل إلى التراجع بعد حرب أهلية/عالمية أودت بأربعة ملايين، وتم خلالها الحفاظ على السلطة الثورية وتماسكها بسياسات إرهاب أحمر لا يعتذر عن نفسه البتة.
مكر التاريخ هنا كان مكثفًا، فالاستيلاء على السلطة كان هروبًا إلى الأمام خوفًا من الارتداد عن الثورة، وإيمانًا أن حكومة كيرنسكي الانتقالية، الحكومة التي تسلمت السلطة بين فبراير وأكتوبر 1917، تزداد ضعفًا وتراجعًا، وقد تنهزم لصالح ثورة مضادة تنتقم منهم جميعًا، لذلك كان استيلاء البلاشفة على السلطة من هذه الحكومة مكفولًا بممارسات تفرِّغ معنى القرار نفسه من غاياته النظرية والعقائدية، إلا ما يختص بالنجاة من الهزيمة.
في بداية استيلائهم على السلطة كان هناك هاجس لمسؤولياتها وآلامها عند لينين، حين قال إن «يومًا واحدًا في السلطة يساوي سنوات خارجها»، قبل أن يحسم ستالين موقفه من فكرة الأثر المؤلم للسلطة ببشاعة بقوله إن «موت فرد واحد مأساة، وموت مليون فرد إحصائية».
الثورات لحظات متتابعة من التكثيف الدرامي واختصار الزمن في مأساويته أو انتصارته، وهي مدمرة للإنسان للفرد لأن نِدَّها الحقيقي هو التاريخ في كُلِّيته، وعلى هذا فكل الثورات في زمنها الآني مغدورة بالتعريف، يمكن أن تغدر بها انتصارتها أو هزائمها، ويقينًا هي مأساة مؤسفة في زمنها في النتيجتين على كل إنسان عاصرها.
لكن ربما تأتي الحكمة أحيانًا من الشرق حين يختص الأمر بإدراك الزمن والتواضع أمام جبروته، فحين سُأل أحد قادة الشيوعيين الصينيين في منتصف سبعينيات القرن الماضي عن رأيه في ما إذا كانت الثورة الفرنسية عام 1789 قد انتصرت أو هُزمت، رد قائلًا: «من المبكر جدًّا حسم ذلك». وبهذه الكيفية فالثورات والتاريخ مستمران، فهل غد الأممية سيوحد البشر من أجل سعادتهم كافة؟ أم سيوحدهم مجبرين من أجل الحفاظ على من تبقى منهم؟
محمد نعيم