أكتوبر والربيع العربي: نزع السحر عن الثورة
هذا الموضوع ضمن ملف «أحمر باهت: مئة عام على الثورة الشيوعية». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الملف من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.
ندر أن يُقتبس مقطع نصي بغزارة طيلة ما يقرب من قرن ونصف من الزمن مثل مطلع كتاب «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» لكارل ماركس: «الناس يصنعون تاريخهم بأيدهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم، ولا بظروف يختارونها هم بأنفسهم، بل من خلال ظروف معطاة ومنقولة. تقاليد كل الأجيال الميتة تُثقِل، مثل كابوس، أذهان الأحياء».
يبدو هذا الاقتباس مناسبًا بوصفه مقدمة لما ننوي الحديث عنه، فالكتابة عن الثورات تستوجب دومًا دراسة التصورات والأفكار والأخيِلَة التي حركت البشر الذين شاركوا في الفعل التاريخي.
في هذا السياق، تشترك ثورة أكتوبر (يُطلق عليها البلشفية) في روسيا مع ثورات ما أُطلق عليه «الربيع العربي» في الدور الكبير للخيال الثوري في أذهان الفاعلين، فقد لعبت المقارنة مع الثورة الفرنسية دورًا أساسيًّا في أذهان ثوار أكتوبر. في حين كان النموذج الأساسي في تصورات منتفضي «الربيع العربي» هو الثورات والانتفاضات «الديمقراطية»: «ربيع براغ» عام 1968، وانتفاضات عام 1989 في أوروبا الشرقية، و«الثورات الملونة» في العقد الأول من هذه الألفية، التي قدمت نفسها، للمفارقة، بوصفها انتفاضات ضد الإرث القمعي لثورة أكتوبر.
في الحالتين، أثقل «إرث الأجيال» أذهان المنتفضين، لدرجة بدت فيها الثورات في كثير من المواضع استحضارًا لأشباح وأرواح بعيدة. ظهرت «الثورة» مقولةً سحرية، تحمل في ذاتها تأسيسًا جديدًا للعالم، يقطع مع الماضي ويؤسس لعالم جديد كليةً. الثورة هنا تخلق التاريخ وليس العكس، في حدث يشبه التصورات المعروفة عن النبوات و«فجرها» الذي يضيء العالم.
إضفاء هذه السمات الميتافيزيقية على الثورة له تراث طويل، وتم ترسيخه أساسًا مع ظهور الحركة الرومانتيكية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر: أيًّا كان توجه الرومانتيكيين القدماء، سواء كان محافظًا أو تقدميًّا، فهم ثوار على فساد العالم، ينشدون القطيعة وبزوغ فجر جديد.
ليس من الغريب أن الكاتب السويسري المعروف «أرمين مولر» أطلق اسم «الثورة المحافظة» على الانقلاب الفكري الذي حاول بعض ورثة الرومانتيكية الألمانية، من مفكرين وأدباء محافظين بل ونازيين أحيانًا، القيام به في فترة ما بين الحربين ضد القيم الليبرالية، رغم ما قد يحمله هذا الاسم من التباس وتناقض بالنسبة لبعض الناس.
بعيدًا عن المزاج الرومانسي ومفهومه عن الثورات التقدمية والمحافظة، يبدو أن للبحث التاريخي المعاصر آراء أخرى، قد يكون استحضارها مفيدًا للتعامل مع مفهوم «الثورة»، وفهم أهم تراثين ثوريين يؤثران في حاضرنا: ثورة أكتوبر والربيع العربي.
أكتوبر 1917: نزع السحر عن الثورة
«نزع السحر عن العالم» مقولة شهيرة لـ«ماكس فيبر»، لخص فيها أحد أهم جوانب الحداثة، التي جعلت العالم قابلًا للفهم والقياس والدراسة بعيدًا عن الأساطير والخرافات والتصورات السحرية. إلا أن الحداثة نفسها كان لها «سحرها» الخاص، فبدلًا من الآلهة والسحرة والملائكة والعفاريت، أنتجت مقولات ميتافيزيقة مثل «التاريخ» و«العقل»، وبالتأكيد «الثورة»، التي ربما كانت إحدى أهم أساطير الحداثة.
تفكيك هذه المقولات، الذي يراه بعض الناس نهايةً للحداثة وتشييدًا للشرط ما بعد الحداثي، قد يكون على العكس من ذلك، على ضوء تلك المقولة الفيبرية، مدًّا للحداثة إلى أقصى نتائجها المنطقية، وإحدى أكثر لحظات التنوير راديكاليةً، فالحداثة لم تكتفِ بنزع سحر التصورات القديمة عن العالم، بل نزعت أيضًا سحرها الخاص.
على هذا الأساس، فأكتوبر التي كانت «فجر الشعوب» والتجسيد المادي لقيام البروليتاريا بدورها التاريخي في تحرير البشرية، صارت تدرَّس اليوم كفصل من التاريخ الروسي والعالمي، مرتبط بالوقائع العينية الصعبة لإمبراطوريات ما قبل الحرب العالمية الأولى، وإعادة إنتاج الخريطة الجيوسياسية للعالم في ما بعدها.
أحد أهم الكتب التي صدرت عام 2017 عن مئوية ثورة أكتوبر، كتاب «روسيا في ثورة: إمبراطورية في أزمة» لأستاذ التاريخ في جامعة أوكسفورد «ستيفن سميث»، الذي يرى أن الثورة لم تكن حدثًا معزولًا عن سياق تاريخي أوسع، ولم تكن فجرًا لعصر جديد، بل إحدى مظاهر الأزمة المديدة التي عاشتها الإمبراطورية الروسية الضخمة متعددة الثقافات أمام تحديات التحديث والمركزية والصراع مع الإمبراطوريات الغربية.
هذه هي الأزمة التي كادت تطيح بالإمبراطورية وتؤدي إلى تفككها، كما حصل مع زميلاتها من الإمبراطوريات الشرقية: الإمبراطورية النمساوية الهنغارية والإمبراطورية العثمانية، لولا نجاح الثورة في روسيا بإنهاء الإمبراطورية القديمة وإنشاء إمبراطورية جديدة استطاعت، إلى حد ما، حل مشكلات التحديث والتخلف الروسي، ليس دون ثمن باهظ.
رغم نجاح الستالينية في مهام التحديث، فإن المجتمع الروسي كان أكثر فقرًا على كل الأصعدة: لا مجتمع مدني ولا أحزاب سياسية ولا فنون وآداب عظيمة.
لهذه الأسباب يحدد سميث المدى التاريخي للثورة بين عامي 1890 و1928، مخالفًا التأريخ التقليدي الذي يجعل هذا المدى بين الثورة العمالية الأولى عام 1905، مرورًا بـثورة فبراير عام 1917، وصولًا إلى أكتوبر وأيامه العشرة التي «هزت العالم». لا يتحدث سميث عن «الثورة البلشفية» بألف ولام التعريف، بل يتحدث عن «روسيا في ثورة» (Russia in Revolution) دون استخدام أدوات تعريف محددة.
يتفق سميث مع ما يراه عديد من المؤرخين، على رأسهم الأمريكي «ألكسندر رابينويتش»، من أن الثورة لم تكن مجرد انقلاب بلشفي، كما تصمها عادةً الدعاية المضادة للشيوعية، بل كانت حراكًا ثوريًّا، ضمنت نجاحه العلاقة الوطيدة بين الحزب البلشفي ومجالس (سوفييت) العمال والجنود.
يُختَلَف مع هذه النظرة لكونها تحصر بحث المسألة في الأحداث المباشرة التي شهدتها المدن الكبرى، خصوصًا بطرسبورغ، مع إغفال بقية عوامل الأزمة على مدى الخريطة الإمبراطورية. بطرسبورغ كانت مختبر الحداثة الروسية الذي أنتج فئات اجتماعية جديدة أطاحت بالقيصرية، لكن الحداثة الروسية نفسها كانت في أزمة تجاه الواقع الروسي المفكك والمتخلف.
النتيجة كانت، حسب سميث، أن البلاشفة لم يستطيعوا أن يحشدوا الروس انطلاقًا من مبادئهم الجديدة، بل أعادوا بناء الإمبراطورية بخليط هجين من الهيمنة الإمبراطورية، والتقاليد الثقافية الروسية-الأرثوذوكسية، وضرورات التحديث ومقولات الماركسية بعد تحويلها إلى دوغما مغلقة، وهذا هو جوهر الستالينية، التي يُنهي سميث بصعودها وانتصارها الأفق التاريخي لـ«روسيا في ثورة».
يلاحظ المؤرخ البريطاني أيضًا أنه رغم نجاح الستالينية في مهام التحديث، التي فشلت القيصرية في أدائها، فالمجتمع الروسي في عهدها كان أكثر فقرًا من العهد القيصري على كل الأصعدة: لا مجتمع مدني، ولا أحزاب سياسية، ولا نبلاء متنورون، ولا فنون وآداب عظيمة. إنها حداثة الحد الأدنى التي لا تزال تطبع المجتمع الروسي حتى اليوم.
تتطابق وجهات النظر هذه بشكل مدهش مع الطريقة التي ترى بها عديد من القوى السياسية الروسية اليوم ثورة أكتوبر، فالبنسبة إلى «غينادي زيوغانوف»، الزعيم المزمن للحزب الشيوعي الروسي، الذي يقدم نفسه بوصفه الوريث الصالح للإرث السوفييتي، ترتبط «معاداة السوفييتية» بمعاداة الروس والدولة الروسية، التي كانت دومًا ضحية التدخلات والمؤامرات الغربية.
يُرجع زيوغانوف تاريخ هذا إلى أحقاب مُغرِقة في القِدم، أي منذ انقسام المسيحية إلى كنيستين شرقية وغربية، والحملة الصليبية اللاتينية الرابعة، التي اجتاحت الدولة البيزنطية الأرثوذكسية عام 1204، ثم بروز الإمبراطورية الروسية بوصفها وريث بيزنطة بعد سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين.
قضية الاشتراكية على الصعيد العالمي ترتبط لدى زيوغانوف بشكل وثيق بـ«القضية الروسية» ومظلوميتها التاريخية التي لا تنتهي. وحدها ثورة أكتوبر بالنسبة إليه من أنقذ الإمبراطورية الروسية من التفكك والدمار، وجعلها قادرة على مواجهة الغرب.
أكتوبر إذًا خسرت الكثير من سحرها القديم، فهي أحد أعراض أزمات ما قبل الحرب العالمية الأولى بالنسبة للأكاديميا المعاصرة، ودعوى قومية شبه دينية بالنسبة لورثتها المباشرين. إنه مصير محزن لإحدى أهم المحطات التأسيسية لميتافيزيقيا الثورة.
الربيع العربي: أشباح أكتوبر وما بعد الحداثة
إذا كان عالم ما بعد الحرب الباردة استطاع نزع السحر عن الثورة الروسية ببراعة، فإنه لم يفعل ذلك بنفس الدرجة مع مفهوم الثورة نفسه، بل كان استحضار هذا المفهوم مفيدًا للغاية في كثير من الأحيان.
فمنذ سقوط جدار برلين وأحداث ساحة تيانانمين في الصين نهاية ثمانينيات القرن الماضي، مرورًا بثورة إندونيسا ضد سوهارتو عام 1998، والثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا عامي 2003 و2004 ، و«ثورة الأرز» في لبنان ضد الوصاية السورية عام 2005، وصولًا إلى ثورتي تونس ومصر عام 2011، كان الخيال والترميز الثوري حاضرًا دومًا.
رغم أن هذه الثورات الليبرالية هي بشكل من الأشكال سليلة تقليد فكري أنغلوساكسوني، يرى في ثورات الحداثة الثلاثة الكبرى (الفرنسية والروسية والصينية) أحداثًا دموية أسست لقيام ديكتاتوريات رهيبة، فإنها احتاجت إعلاميًّا وأيديولوجيًّا إلى الشحنة العاطفية والأخلاقية التي يوفرها مفهوم الثورة، والقطع مع ثلاثة مفاهيم أساسية في تراث الثورات: العنف الثوري، الحرب الطبقية والأهلية، الاستيلاء على جهاز الدولة.
هكذا لم تطالب هذه الثورات، التي تفاخرت دومًا بسلميتها، بالسيطرة المباشرة على الحكم، بل تركت الأمور لجهاز الدولة التقليدي الذي يجب أن يُصلح نفسه بنفسه بمساعدة «رياح التغيير» (وهو عنوان الأغنية الشهيرة التي صارت رمزًا لسقوط جدار برلين، لفرقة «Scorpions» الألمانية)، التي تهب بفضل العولمة والانتصار الكوني لقيم الديمقراطية الليبرالية.
السحر الذي راكمته هذه الثورات حول نفسها أفقد كثيرًا من المشاركين فيها القدرة على التحليل ورؤية موازين القوى، سواء على المستوى المحلي أو العالمي، ووقائع الوضع التاريخي، الذي كشف في ما بعد عن وجهه القاسي، ليظهر أن الثورات الملونة بشكل عام، وثورات الربيع العربي على وجه الخصوص، لم تكن سوى تعبيرات عن الأزمة المديدة لمجتمعات ودول غارقة في كوارثها الذاتية، وليست فصلًا تاريخيًّا جديدًا يجُبُّ ما قبله ويبشِّر بالفجر العتيد.
بعد زوال النشوة الأولى، سقطت دول الربيع العربي من جديد في واقعها المزمن: ثورة مصر اصطدمت بالاستعصاء التاريخي لدولة العسكر والإسلام السياسي، اليمن وسوريا غرقتا في حروبهما العشائرية والطائفية، ليكونا شاهدين على أزمة التمدن والتعثر البنيوي لقيام الدولة الوطنية في المشرق العربي، وأظهرت ليبيا وضعًا شبيهًا بدول المشرق، أما تونس، البلد الأكثر تطورًا بمجتمعه المدني والسياسي، فلم تستطع تجاوز آثار «العهد البائد»، وما زالت تعاني من مشاكلها القديمة ذاتها.
هنا كان استحضار شبح أكتوبر ضروريًّا لدى بعض أبناء الربيع العربي، وظهرت حركة خجولة للنقد الذاتي راجعت مفاهيم مثل: العفوية، «الثورة دون قائد»، نقد الحزب الطليعي وعدم الاستعداد للاستيلاء على جهاز الحكم، وهي الأفكار الأساسية للثورات الليبرالية الملونة، في ما يبدو استعادةً للمفاهيم الللينينة، حتى لو لم يُذكر ذلك بوضوح دومًا. إلا أن هذه الموجة لم تدم طويلًا، وسرعان ما تلاشت في جو اليأس واللامعنى السائد.
في المقابل، كان رد الفعل في قطاعات أخرى هو اللجوء إلى نقد الدولة الحديثة من أساسها، والنقض الفلسفي والأخلاقي للحداثة على أسس إسلامية أو عدمية، لتصبح مشكلة الاستعصاء العربي مشكلة العصر ذاته، ومما جناه علينا التحديث والعصرنة.
مع نهم شديد لقراءة أدبيات «النظرية»، أي الأعمال الفكرية التي تجمع بين طرح مفهوم متكامل عن الوضع التاريخي المعاش، وبين تقديم نقد شامل له، مثل أعمال مدارس «المابعديات»: ما بعد الكولونيالية، ما بعد البنيوية، ما بعد الحداثة، ما بعد الإسلاموية، إلخ. وهي الأعمال التي، رغم زعمها تفكيك «السرديات الكبرى»، تعيد بناء سرديات شاملة جديدة، وتوقع أنصارها دومًا في متافيزيقيات مستحدثة أكثر فشلًا وقمعيةً في الآن ذاته.
في كل الأحوال، كانت ميتافيزيقيا الثورة أكبر الخاسرين من الربيع العربي، فبين اليأس الثوري وعدمية نقد الحداثة، بات الحديث الرومانسي عن الثورة أشبه بنكتة سمجة.
الفشل بسبب النجاح
«لم يكن انهيار الاتحاد السوفييتي وليد إخفاق الشيوعية، وإنما كان وليد نجاحاتها، شرط أن نفهم النجاحات، مثلما فهمها الغرب عمومًا، على أنها استراتيجية تحديث».
بهذا الإعلان علَّق الناقد الثقافي الأمريكي الشهير «فريدرك جيمسون» على المصير التراجيدي لثورة أكتوبر، فالاتحاد السوفييتي، الذي نجح في إنتاج صيغته الخاصة من التحديث، كان قريبًا في كثير من الأحيان، خصوصًا في عقد الستينيات، من تجاوز المعسكر الغربي تقنيًّا.
مشكلة الاتحاد السوفييتي الأساسية، حسب جيمسون، أنه أجرى انفتاحًا غير محسوب على النظام العالمي المهيمن في الثمانينيات، في عصر كان العالم كله يعاني من فساد بنيوي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وتغيرات في مفهوم «الإنتاجية» نحو المضاربة والإنتاج غير المادي، وهو ما عرَّضه لتأثيرات عسيرة ومنافسة غير عادلة أطاحت به في نهاية المطاف.
تبدو الثورة والحلم بـ«فجر جديد» و«رياح التغيير» أكثر عجزًا من أن تقول شيئًا عن الواقع المعقد، الذي يصدم الميل الإنساني لإنتاج الأساطير دومًا.
يستعيد «مايكل هاردت» و«أنطونيو نيغيري»، في كتابهما «الإمبراطورية»، آراء جيمسون، ويؤكدان أن الدول الشيوعية نجحت في خلق شرائح اجتماعية جديدة متعلمة ومتمدنة، أثقلتها في ما بعد قيود الحرب الباردة وشمولية المجتمع الانضباطي في المعسكر الشرقي، وكان تململها جزءًا من تملل عالمي ضد أشكال الإنتاج الفوردية (العمل المنظم في المصانع وراء خط إنتاج) وأنماط التنظيم الحزبي والنقابي والثقافي القديم، فشاركت بقسطها في بناء إمبراطورية العولمة الجديدة، القائمة على أشكال جديدة من الإنتاج والتنظيم الحر غير الهرمي للفاعلين الاجتماعيين والسياسين.
هاردت ونيغري حاولا لاحقًا أن يكونا المنظرَيْن الأساسيين لنمط الاحتجاج الجديد في عصر العولمة، فكتبا كثيرًا عن أساليب التحرك الجديدة لـ«الجمهور»: بدءًا بالربيع العربي، مرورًا بحركة «احتلوا وول ستريت»، وصولًا إلى حركتي «بوديموس» في إسبانيا و«سيريزا» في اليونان، في ما يبدو أنه محاولة جديدة لإنتاج نظرية ثورية.
يوتوبيا «جمهور» الإمبراطورية والحركات الاجتماعية الجديدة تبدو اليوم مُتجاوَزة إلى حد كبير، بعد كل الأحداث العاصفة التي شهدتها السنوات الأخيرة: الفشل المدوي لحركة «سيريزا» وخضوعها لشروط الاتحاد الأوروبي في أزمة الديون اليونانية، تلاشي حركة «احتلوا»، مآسي الربيع العربي، صعود اليمين الشعبوي، تراجع «بوديموس» أمام تقدم النزعات القومية والانفصالية في إسبانيا، بالإضافة إلى ما ذكرناه من آراء ستيفن سميث عن المجتمع الروسي، الذي رغم نجاح دولته في التحديث، بقي أكثر فقرًا وأقل تعدديةً مما كان متوقعًا، وتتصاعد فيه النزعات القومية والدينية حتى بين الشيوعيين.
إذا كان لنا أن نقول إن أكتوبر فشلت بسبب نجاحها، فكذلك نجاح الربيع العربي في خلع عدد من الرؤساء كان سببًا في اصطدامه المدوي بفشل الدول والمجتمعات العربية، في حين أن نجاح وتقدم العولمة في عصر ما بعد الحرب الباردة يضع نموذج الدولة الليبرالية وثوراتها السلمية أمام حدوده الذاتيه، ويهدده بفشل ذريع.
في كل هذه الحالات، تبدو الثورة والحلم بـ«فجر جديد» و«رياح التغيير» أكثر عجزًا من أن تقول شيئًا عن الواقع المعقد، الذي يصدم الميل الإنساني لإنتاج الأساطير دومًا، ما قد يؤدي إلى سيادة رؤى أكثر نضجًا وذكاءً للحياة والتاريخ، وربما يكون هذا المكسب الأساسي من نزع السحر عن الثورة.
محمد سامي الكيال