الحلم الأمريكي كابوس أوروبي: القارة العجوز تخشى شباب المهاجرين
في عام 1969، أنشأ شاب أمريكي يُدعى «بيل إيرس» تنظيمًا يساريًّا مسلحًا في الولايات المتحدة، أسماه «رجل النشرة الجوية»، انبثق من الحركة الطلابية اليسارية الأمريكية في الستينيات، واستقى الاسم من أغنية «بوب ديلان» التي يقول فيها: «أنت لا تحتاج إلى رجل النشرة الجوية كي تعرف أين تهُب الريح».
في عام 1972، تمكن إيرس من تفجير قنبلة داخل مبنى وزارة الدفاع الأمريكية، تعبيرًا عن رفضه للحرب التي تخوضها الولايات المتحدة في فيتنام. لم يصَب أحد، لكن الانفجار نتج عنه تدفق للمياه من المواسير الرئيسية ووصولها إلى أجهزة الكمبيوتر، ما أدى إلى تعطل عملية إرسال واستقبال المعلومات من وإلى القوات في فيتنام، ونتج عنه أيضًا سرورًا عظيمًا في نفس بيل، الذي قال إن «كل شيء كان مثاليًّا، السماء كانت زرقاء، والطيور تغرد، والأوغاد كانوا ينالون ما يستحقوه».
كان هذا الحادث دخان نار اشتعلت في الستينيات والسبعينيات، حين ساد في الولايات المتحدة شعور غاضب من الوضع الاجتماعي والسياسي في البلاد. وكان طرف هذه المعركة ضد الحكومة الأمريكية جيل كامل شعر بضرورة المطالبة بالحقوق المدنية والشخصية ورفض السياسات التي تستنزف أموال دافعي الضرائب في حروب خارج البلاد.
شكَّل مكتب التحقيقات الفيدرالية (FBI) آنذاك عملية خاصة للنَّيل من التنظيم، الذي واصل التفخيخ في عدة ولايات أخرى بدعوى مناهضة الإمبريالية والعنصرية التي تمارَس ضد كل من هو ليس أبيض البشرة.
لكن في عام 1979، أسقط النائب العام تهم التفخيخ وحمل السلاح بحق المجموعة، بعد توارد أنباء عن ممارسة «FBI» التضليل حول حركات الحريات المدنية عمومًا في أمريكا خلال السنوات التالية لتفجير البنتاجون، وتصنيفه لعدد من الأبرياء كمخربين وإرهابيين، وممارسته الحبس غير القانوني، بل ومحاولاته تصفية عديد من المواطنين الأمريكيين، وهو ما برره المكتب وقتها بدافع «حماية الأمن القومي والحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي».
بيل إيرس شغل منصب بروفيسور في جامعة إلينوي بشيكاغو حتى وقت قريب قبل أن يتقاعد، وكان يدرِّس بالأساس مواد متعلقة بالعدالة الاجتماعية.
هجرات الأوربيين لأمريكا خلال الحروب
لم يكن بوب ديلان، المغني الذي ألهم بيل اسم مجموعته، أمريكيًّا أصيلًا، فعائلته هاجرت إلى الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين من شرق أوروبا، هاربةً من مذابح مورست ضد اليهود في أوديسا بأوكرانيا الحالية.
تُرجع عدة دراسات أسباب التغيرات الاجتماعية والثقافية التي وقعت في ستينيات وسبعينيات أمريكا إلى عوامل اجتماعية واقتصادية حدثت في الفترة بين 1920 و1950، وميزتها هجرات الأوروبيين والكساد الكبير. وظهرت آثار هذه التغيرات الاجتماعية ما بين عامي 1960 و1980، إذ أن بإمكان عدة تغييرات ديموغرافية أن تعيد تشكيل بنية المجتمع، بل وتصارع مؤسساته بطرق غير متوقعة مثلما تقول «تيريزا ريتشاردسون»، الباحثة في جامعة كولومبيا الأمريكية.
ارتفعت مواليد الأجانب المقيمين في أمريكا إلى أكثر من 10 ملايين طفل ما بين عامي 1930 و1950، عقب هجرات الأوروبيين والروس إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية.
في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كانت الثقافة السائدة في الولايات المتحدة تواجه تحديًا وجوديًّا من هؤلاء الأطفال الذين وُلدوا خلال الهجرات الأوروبية العالية للولايات المتحدة، وأصبحوا شبابًا.
قد يهمك أيضًا: الهجرة: فتح الحدود فرصة اقتصادية لا تعوض
جاء التحدي في شكل احتجاجات طلابية وحركات سياسية تطالب بالحقوق المدنية، حافلات تجوب المدن لترويج الرقص والموسيقى والهروب من التعليم والمساواة بين الجنسين في العمل وغيره، اعتصامات، مظاهرات تطالب بإنهاء العنصرية والحرب، بالتمرد على قوانين المنزل، بالانحلال من أحلام الطبقة الوسطى. ولم يكن هذا الصدام مفاجئًا، بل كان نتاج سلسلة طويلة من التغيرات التي طرأت على شكل المجتمع الأمريكي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتدفق المهاجرين.
في الفترة ما بين الثلاثينيات حتى أوائل الخمسينيات، مُنحت نسبة 80% من تصريحات الإقامة في أمريكا لأشخاص من شمال وغرب أوروبا، و14% لآخرين من جنوب أوروبا. لم يكن هناك حرس للحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك حتى العام 1924، فكان انتقال الأفراد إلى أرض الأحلام الجديدة من الجنوب متاحًا لأكثر من ربع مليون مكسيكي بين 1920 و1924.
لكن فترة الكساد العظيم في أمريكا، التي استمرت من 1929 حتى 1939 بعد انهيار البورصة وهروب المستثمرين والتسبب في البطالة والفقر الشديدين للمواطنين الأمريكيين، كانت دافعًا مهمًّا لوضع بعض العراقيل على تدفق الهجرة إلى الولايات المتحدة، فهبطت أرقام القادمين من خارج الأرض الأمريكية من 97 ألف شخص في عام 1931 إلى 23 ألفًا في 1933.
رفضت الأجيال التي وصلت عقدها الثالث في الستينيات والسبعينيات نمط الحياة الاستهلاكي الذي تربوا عليه، خصوصًا أن هذا النمط لا يتمتع به كل أطياف المجتمع الأمريكي.
ما بين عامي 1940 و1950، وصل أكثر من مليون مهاجر أوروبي إلى الولايات المتحدة، وكان الرئيس الأمريكي «هنري ترومان» قد أصدر مرسومًا في 1948 يسمح للمتضررين من آثار الحرب العالمية الثانية بالهجرة، وعليه فقد واصل المهاجرون القدوم.
عاش الجيل الأكبر في الولايات المتحدة في ضنك الحربين العالميتين، سواء ممن كانوا أمريكيي المولد أو من قدموا إليها لاحقًا، ثم تحولوا إلى مستهلكين نهمين بعد انتهاء الحرب. كانوا على استعداد لتوفير كل الفرص والمنتجات التي حُرموا منها إبان فترة الكساد العظيم ثم الحرب العالمية حتى العام 1945 وتدفق اللاجئين خلال الفترتين، فُرص البيت الكبير، الزواج الناجح، الوظيفة الممتازة، الكثير من المال، الحلم الأمريكي.
تسرب شعور بالرفض إلى الأجيال التي وصلت عقدها الثالث في الستينيات والسبعينيات، حين سيطر عليهم الشك في نمط الحياة الاستهلاكي الذي تربوا عليه، خصوصًا حين أصبح ملحوظًا أن هذا النمط لا يتمتع به بالضرورة كل أطياف المجتمع الأمريكي، وخاصة في ما يتعلق بالحريات الشخصية والدستورية والأمن من العنصرية.
الفجوة بدت واضحة في الإنتاج الفني والأدبي لهذه الفترة، إذ أبرزت روايات كالتي كتبها «إرنست هيمنغواي» و«هنري ميلر» شخصيات تصارع لإثبات ذاتها في البيت والعمل والشارع، في فترة زمنية غاب فيها شعور المرء بجدوى الأمور في المطلق، وبتوافق ما يرغب فيه مع ما يحثه المجتمع على تحقيقه.
قد يهمك أيضًا: رحِّبوا بالمهاجرين: اقتصاد الدول يستفيد من تنوع ساكنيها
كيف اندلعت الستينيات في أمريكا
1. الاستهلاكية المفرطة
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية ومشاركة الولايات المتحدة فيها، كان الحديث الدائر في المجتمع الأمريكي لا يحيد عن «دعم القوات الأمريكية»، فاستغلت الشركات الأمريكية، التي بدأت تنتعش بعد انتهاء فترة الكساد العظيم، حالة الحرب في الدعاية لنفسها عبر الإعلانات المكررة في الشوارع والمتاجر عن «دعم الجنود الأمريكيين»، يظهر فيها نساء ورجال بزي عسكري.
بعد انتهاء الحرب، أصبح الحديث الدائر عن «استغلال الفرص»، المقامرة بالربح من أجل مكاسب أعلى، انعكست هذه الحالة إيجابًا على الموسيقى حين خرج «الروك آند رول» إلى الوجود، وانحرف الأدب عن التقاليد القديمة لينقل وضعًا حقيقيًّا عاشه جيل ما بعد الحرب، بين المرتضين بالصمت والبحث عن منزل ووظيفة وزواج كما تروج آلة الدعاية الأمريكية، والمتمسكين بانتهاز الفرص الجديدة مثل كتابات «البيتس»: «ويليام بوروز» و«جاك كيرواك» و«آلِن غينسبرغ».
2. التمرد على المنزل
تربى الجيل الأكبر ما بين الثلاثينيات والأربعينيات في كنف الأزمة الاقتصادية والحرب، وحين انتهى الخطران كانوا على استعداد لتوفير كل الفرص المتاحة لحياة مستقرة هادئة نابعة من الاستهلاكية الشديدة التي نشرتها الشركات الأمريكية الجديدة في المجتمع. ولذلك كان الجيل الأصغر في طريقه إلى تبني منهج البحث عن الحرية الشخصية بدلًا من الربح والنجاح المادي والعيش وفقًا لاعتبارات مادية بحتة، الذي فرضه عليه الجيل الأول لحد الضغط الشديد.
انفجر هذا الجيل على أرصفة الشوارع، وفي الطريق بين الولايات الخمسين، وبين حفلات الآسيد (LSD) وفرق الروك الإنجليزية، في إعادة تعريفٍ لمصطلحات عديدة كالبطالة والحلم والمجتمع، فلم تعد فرص العمل الناجحة أو إتمام الدراسة الجامعية الهدف الأول لهؤلاء الشباب، بل كان الشعار الذي رُفع وقتها يدعو إلى ترك الدراسة والاندماج في الموجة الجديدة: «Turn on, tune in, drop out».
لم يعد الحلم الأمريكي الذي عاش عليه الأهل هو الحلم المرغوب الآن، وبالطبع لم يكن المجتمع الذي يغرق في استهلاك المنتجات والفرص والبيوت وحتى شركاء الحياة ليغنيهم عن المجتمعات البديلة التي بدأت تتشكل على أطراف المدن على هيئة «كوميونات»، تعيش على التقشف وتتمتع بشكل بدائي بأبسط موارد الأرض.
وحتى بعد انتهاء تلك الحقب، تمكن هذا الجيل من المحافظة على هويته الجديدة، بل وأجبر المجتمع بشكل ما على تقبل مضمون ما كان يهدف إليه.
وربما لولا الاضطراب الثقافي الذي ملأ الجامعات الأمريكية في هذا الوقت بالمظاهرات والرصاص في بعض الأحيان، كما حدث حين أطلقت قوات الأمن الرصاص الحي على طلبة جامعة كينت ستايت في ولاية أوهايو خلال مسيرة مناهضة للحرب في فيتنام عام 1970، ولولا المسيرات المطالبة بحقوق الأقليات العرقية والدينية، وحتى حفلات الروك المجانية وتجارب المخدرات المهلوسة، ما كانت لتتحقق العديد من الحريات الشخصية البديهية التي يتمتع بها، ولو بكثير من الثغرات، المجتمع الأمريكي في يومنا هذا، كأحقية جلوس مواطن من أصل إفريقي على مقعد في الحافلة، أو ترشحه لرئاسة الدولة، أو حتى أن يعمل من فخَّخ وزارة الدفاع الأمريكية أستاذًا جامعيًّا على نفس الأرض في ما بعد.
أوروبا.. مقصد المهاجرين الجديد
تحتاج أوروبا إلى الأيادي العاملة لأنها تعاني من ارتفاع متوسط سن السكان، بينما يصل متوسط سن المهاجرين من دول الصراعات المسلحة إلى 24 عامًا.
النقاط المشتركة في أمريكا وأوروبا حاليًّا هي الحرب، والهروب من الحرب. وفي الوقت نفسه، يواجه المهاجرون إلى أوروبا صعوبة في التأقلم مع الحياة في القارة الجديدة عليهم، مثلما حدث للمهاجرين الأوروبيين في أمريكا بطبيعة الحال، إذ لم تمتنع الأصوات المنادية بوقف الهجرات إلى الاتحاد الأوروبي، نتيجة التدفق المتواصل للمهاجرين إلى الدول الأوروبية، ولكن على ما يبدو أن التخوف الأكبر لدى الأوروبيين من هذا التدفق هو إعادة تشكيل قارتهم على يد المهاجرين، والتأثير على شكل المجتمع في أوروبا كما حدث في ستينيات وسبعينيات أمريكا.
حتى عام 2015، دخل 4.7 مليون مهاجر الاتحاد الأوروبي، وفي يناير 2016 وصل عدد المقيمين في الاتحاد الأوروبي ممن لا يحملون جنسية أوروبية إلى 20.7 مليون شخص، أي ما يعادل 4.1% من عدد سكان الاتحاد الأوروبي، فيما بلغ عدد السكان غير المولودين في الاتحاد الأوروبي 35.1 مليون شخص.
جدير بالذكر أن 80% من المهاجرين إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية كانوا من أوروبا، من بينهم على سبيل المثال ألبرت آينشتين، وتتجه عدة أطروحات إلى القول بأن أوروبا تحتاج إلى الأيدي العاملة، إذ تعاني القارة من ارتفاع متوسط سن السكان حتى تخطى الأربعين عامًا، فيما يكون متوسط سن المهاجرين من الدول التي تعاني صراعات مسلحة، مثل ليبيا والعراق، 24 عامًا فقط.
اقرأ أيضًا: إلغاء الحدود بين الدول: لماذا يجب أن لا يستمر سجن العالم؟
على الجانب الزمني الآخر، استغلت أمريكا مورد الأيدي العاملة في أثناء الهجرات خلال الأربعينيات والخمسينيات جيدًا، إذ تراوح عدد الأيدي العاملة المدربة خلال عامي 1948و1980 بين 60 مليونًا و100 مليون عامل مدرب.
تكمُن المشكلة في الشخصية الأوروبية، التي تصدِّر قطاعات عديدة فيها مخاوف تحُول دون اندماج المهاجرين الكامل، فهناك تخوفات دائمة من تحوُّل الشكل الديموغرافي للقارة على يد المهاجرين، خصوصًا القادمين من بلاد الشرق الأوسط. في فرنسا، يضع اليمين المتطرف تسمية لذلك هي «عملية التحول»، بل وصل الأمر إلى التخوف من «موت الحضارة الأوروبية» بسبب تدفق المهاجرين إليها. ويبدو الفارق بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أن الأولى نشأت على أيدي المهاجرين في الأصل، أما أوروبا فسكانها أصليون منذ حقب بعيدة.
كريم كيلاني