لسَّاها ثورة يناير: تركة ست سنواتٍ من الخِذلان

ابتسام مختار
نشر في 2017/01/24

Ed Giles/gettyimages

هذا الموضوع ضمن هاجس «الثورة والثوار». اقرأ موضوعات أخرى ضمن الهاجس من هنا، وشارك في الكتابة من هنا.


أعرفُ ما سأقول، لكني لا أعرف كيف أبدأه. بالمُصادفة أراسل صديقتيَّ المقربتين؛ لنُسميهما «أ» و«ب»، وأنا أنتظر المقدمة التي لا تأتي، وبالمصادفة أذكُر فأسألهما، تحسُّبًا لمفاجآت الارتجال، إن كان ذِكرهما في هذا المقال سيُضيرهما. تسردان «سيناريوهات» فخمة للحديث عن أمجادهما الثورية التي قد أذكرها، وبعد الهزل، أو ضِمنه، تسألُني «أ»: «عارفة فكرتيني بإيه؟».

الذكرى الأولى في بداية سنوات دراستنا في كلية الإعلام بجامعة القاهرة: كانت «جبهة أحرار إعلام» قد نظمت ندوة بحضور علاء عبد الفتاح وبلال فضل وكمال خليل، في ذكرى اقتحام الشرطة العسكرية للكلية لفَضِّ اعتصام الطلاب والأساتذة المُطالبين بإقالة عميد الكلية الأسبق، الدكتور سامي عبد العزيز، المُتحدث الإعلامي باسم «الحزب الوطني» المُنحل.

لا تذكر «أ» اسم الشخص الذي كنا نستمع إليه حينها، لكنها تذكر أننا اكتشفنا بعد ذلك صورة التقطها أحدهم لكِلتَينا تُظهر بؤسًا لا إراديًّا على وجهينا في أثناء حديث الرجل، وأذكر أنا أنه كان كمال خليل، وأننا استمعنا إليه، كالضيفين الآخرين، على سُلَّم الكلية الخارجي؛ لأن الإدارة رفضت السماح باستضافة أيٍّ منهم في إحدى قاعاتها. وبينما لا أعلم إلى أين وصل الحال بكمال خليل الآن، أعرف أن بلال فضل قد «هجَّ» إلى خارج البلاد، وأن علاء عبد الفتاح قَيد أحد سجونها.

الذكرى الثانية في ختام سنوات دراستنا. تقول «أ»: «أيام ما طلاب الإخوان كانوا بيعملوا مظاهرات، طلاب ضد الانقلاب، وكان فيه تقريبًا اشتباكات أو حاجة في الجامعة، وكان فيه عربية إسعاف، وأنا وانتي خارجين من محاضرة، وانتي واقفة بتحطي زبدة كاكاو (حمرة). إنتي وقفتي ثانية كده وبتبُصي، وواقفة عمالة تحطي زبدة كاكاو، وبعدين فجأة قُلتي: يخرب بيت السريالية اللي أنا فيها».

لم تكن تلك الصور ما قد أحكيه عن صديقتي «أ»، أو ثالثتنا «ب»، ولا الصورة الأخرى التي جمعتنا وصديقات أُخريات ضاحكات في وسط الطريق بجوار الجامعة يوم انفجرت قنبلتان أو أكثر أمام الحَرَم، ولا الوجبة الممتعة التي أعدَّتها لنا «أ»، بينما كُنتُ و«ب» نحتمي في مسكَنِها من حملات الاعتقال الواسعة في ذلك اليوم، ولا فقرة التلوين على الفَخَّار التي قضينا فيها الوقت حينها.

لم أكن لأحكي ولا أتذكر كل ذلك، لكن صورتي «أ» تكفيان تمامًا لمُقدمة لم أعرف ما أكتب فيها. هذا مقالٌ سرياليٌّ واقعيٌّ شخصيٌّ شِبه علميٍّ مُتحيِّزٌ يتطلع إلى الموضوعية، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

(1)

سَمِّي الحاجات دي باسمها

قصيدة «حكاية الثورة» لأحمد حداد

الثورة التي يَعرِفها هذا المقال هي ما بدأ في الخامس والعشرين من يناير، ولم ينتهِ بَعد.

مع الزمن ونضوج الإدراك، ومع الثورة، يُصبح التعريف إشكالية حقيقية. تصير معظم المعاني، إن لم يكن كلها، نسبيَّة. حتى ولو رأيتَ غير ذلك، لن تُغيَّر رؤيتك تلك حقيقة أن الآخرين يمتلكون تعريفات مختلفة للمعاني نفسها. ربما تحاربُ في البداية من أجل انتصار تعريفك، لكنك ستُسلِّم في النهاية، مقتنعًا أو مضطرًا، بحتميَّة الاختلاف.

مَن عاشَ الثورةَ عَرف بالطريقة القاسية كيف يمكن لتعريفات الآخرين المغلوطة أن تشوِّه الحقائق؛ كأن يستميت أحدهم في محاولة إقناع الجماهير بأن الثورة بدأت في الخامس والعشرين من يناير وانتهت يوم السادس والعشرين من الشهر نفسه، فقط لأنه قرر ذلك، لأن هذه الرواية تناسب ما يريده أن يكون.

سيستميتون أيضًا في تعريف «الشباب الجميل» والمؤامرة والبلطجية والأطراف الخارجية والعُمَلاء والمواطنين الشرفاء و«الثائر الحق»، الذي لم يريدوا من تعريفه سوى كلمة «يهدأ»، حتى نتعلَّم نحن ألَّا نُلزِمَ أحدًا بتعريفاتنا، ونزهد في محاولات الإقناع، ولا نتمسك سوى بالالتزام بتعريفاتنا ومعاييرنا ورواية الحقيقة.

الثورة التي يَعرِفها هذا المقال هي ما بدأ في الخامس والعشرين من يناير، ولم ينتهِ بَعد. الثائر الذي يَعرِفه هذا المقال لم «يُفوِّض» أحدًا لقتل أحد، ولا يوافق على القتل ولو كان يختلف في الرأي مع القتيل، ولا تُسكِته المذبحة مخافة أن يُحسب على الذين يختلف معهم، ولا مخافة مُرتكبيها، ولا مخافة الاختفاء القسري أو التصفية، ولا مخافة أي شيء.

هذا المقال لا يدَّعي أنه يمثِّل الثوار أو أي طرف آخر، ما لم يؤمِّن عليه مَن رأى أنه يُمثِّله. هذا المقال لا يختصر الثورة في ثمانية عشر يومًا، ولا في عام، ولا يعتقد أن الثورة انتهت، أو أن النظام، الذي أرادت إسقاطه، قد سقط.

في عُرْفِ هذا المقال، يتوقف الثائر عند ثلاث:

1. ماسبيرو أخطر مِ الرصاص والقَصْر: أحداث الأحد الدامي – أكتوبر 2011

فيفيان مجدي مُمسِكة بيد خطيبها مايكل مسعد، الذي دُهِس تحت مدرعة عسكرية في أحداث ماسبيرو

كان يُمكن للثورة أن تظل «جميلة وحلوة»، لو ظل مينا دانيال «معانا»، لكنه نجا من «موقعة الجمل» و«أحداث العباسية» ليُقتَل يوم أحدٍ أسود، ومعه الكثيرون، بطُرقٍ بشعة، اضطرَّتنا لتمويه الصورة أعلاه احترامًا للموتى وللقُرَّاء، وسط تحريضٍ أعمى من تليفزيون الدولة ضد مواطني الدولة.

كانت هذه المرة الأولى التي يعلو فيها صوت الأسئلة، المطروحة أصلًا، بشأن أفعال وأهداف «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، الذي تولَّى حُكم البلاد لأكثر من عام، على الرغم من أنها لم تكن سابقة العنف الأولى التي تُرتكب أثناء حكمه، منذ «اعتذاره» بعد فض اعتصامٍ بالقوة عقب أسبوعين من تنحي مبارك، مرورًا بأحداث فض اعتصام 9 مارس، التي تضمَّنت شهادات عن حالات تعذيب وكشوفِ عُذرية، اعترف بإجرائها رئيس المخابرات الحربية حينئذ، ورئيس الجمهورية حاليًا، عبد الفتاح السيسي.

يُضاف إلى ما سبق أحداث «العباسية 1 و2»، وأحداث أخرى كاقتحام الشرطة العسكرية لكلية الإعلام، المذكور سابقًا، لكنها كلها ربما لم تبدُ دالةً للجميع، أو لم يُرِد هذا «الجميع» تصديقَها، أو ربما أقنَعَته «الأعداد الصغيرة» بفرديَّة «الأخطاء»، أو ربما كان «رصيدهم لديه يسمح»؟

لكن خمسة وعشرين روحًا تُنفِد رصيد «المجلس العسكري» عن آخره.

2. كفوف رِجليا نَزَفت دم: أحداث محمد محمود (1) – نوفمبر 2011

أغنية «آخر مرة» لفيروز كراوية

«أترى، حين أفقأ عينيك، ثم أُثبِّت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟». حين أكتمُ أنفاسك بالغاز وأهتكُ جسدكَ بالخرطوش، بينما يقف مجلسك العسكري «على الحياد»، أو يجلس مع الإخوان المسلمين على طاولة التفاوض ويُعِدُّ لهم مقاعد البرلمان، أو تجُرُّ جنوده جثتك لترمي بها في القمامة، «كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟».

كانت «محمد محمود» المعركة الأولى التي تصفعنا فيها الحقائق بوجه مكشوف: لم يَعُد الميدان يُوحِّدُنا جميعًا. لم يَعُد الدم كله سواء. لم تَعُد الثورة جميلة وحلوة لأنك لم تَعُد «معايا».

أتحدث مع صديقتي المُنتمية للإخوان المسلمين، فتجادلني مدافعة عن موقف الجماعة المنشغلة وبقية الإسلاميين بالانتخابات البرلمانية حينها، الجماعة نفسها التي استخدمت ذكرى الأحداث ذاتها بعد عامين؛ للربط بين العنف الذي مُورِس ضد المتظاهرين تحت حكم المجلس العسكري في نوفمبر 2011 (وسكتت عليه الجماعة) وحملات القمع التي يتعرض لها الإخوان في مصر منذ يوليو 2013، بعد أن أسقطت المؤسسة العسكرية حُكم الرئيس المنتمي إليهم محمد مرسي (ولم يسكت عليها «الثوار»).

كان غدر الشرطة المدنية والعسكرية وصُحبة الميدان السابقة هو آخر ما رأته اثنان وأربعون روحًا ومئات الأعين التي راحت في شارع حاولنا تسميته فيما بعد «عيون الحُرية»، لكنَّا ظللنا نُطلق عليه اسمه الأصلي. ربما رأينا، دون أن نُدرك، أن نسبته إلى وزير الداخلية، «الباشا» في العهد الملَكي، أكثر تعبيرًا عمَّا جرى في عهد «باشا جدع» يفقأ عيون الثورة.

3. وجيشك أهانَك، وعَلِّم عليك: أحداث مجلس الوزراء – ديسمبر 2011

أغنية «لسانك حصانك» لمريم صالح

لم يكُن شيء قد تَبَقَّى. بالوصول إلى تلك اللحظة، كُنا قد عرفنا مَن معنا ومَن علينا، لكن الإسلاميين لم يتوقفوا عن إبهارنا بنظرياتهم عن «الكَبَاسين» و«إيه اللي ودَّاها هناك؟»، بينما فازت جماعة الإخوان المسلمين بالانتخابات باكتساح، وظلت فئات عدة من الشعب تتخلى عن الثورة شيئًا فشيئًا، وتُبيح دم وأعراض الثوار.

سبع عشرة روحًا هُنا، ثلاثة أرواح أمام مقر السفارة الإسرائيلية، اثنان وسبعون روحًا في محافظة بورسعيد، لم يَعُد الدم يهم أحدًا سوى أقربائه ومَن تبقى على قيد الحياة من «الثوار»، الثوار بتعريف هذا المقال. طرح نظام محمد مرسي، الذي لم يهتم سوى بتحقيق أهداف جماعته لا أهداف الثورة، المزيد مِن هؤلاء، حتى طرح نظام محمد مرسي نفسه.

بِضعة أشهر وأغنيتان

أغنيتا «يا بلادي» و«الوصيَّة» لرامي جمال

يسألونك عمَّا تغيَّر في أنفُس المصريين، قُل المسافة التي قطعها رامي جمال من «يا بلادي» إلى «الوصيَّة»، من الحزن المُغلَّف بالفخر والكرامة في الأولى، إلى الغُصَّة التي تحاول التعلُّق بجدوى أخيرة في الثانية.

لم أحبُّ يومًا فقرة «ماذا يُقصَد بقول الشاعر؟» في دروس البلاغة؛ فما أدرانا إن كنا قد فهمنا قصده؟ ولِمَ يجب أن يكون هناك «قصد» واحد يعتنقه الجميع؟ لذا، لن أدَّعي هنا أني وجدت القصد، لكن على أي حال، شكرًا للشاعر.

ربما كانت «يا بلادي» أشهر أغنيات الثورة، التي اختصرت حالة الثمانية عشر يومًا منذ المظاهرة الأولى إلى يوم التنحي؛ فقد كانت صور «الشهداء الأوائل» ملء أبصارنا حينئذ، ولم يعلُ صوت فوق صوت «النار والرصاص والحديد».

كانت جموع الشعب، التي لا تخرج إلى الميادين، مُتسمِّرة حول التليفزيون تشاهد المدرعات التي تدهس المتظاهرين، و«رجال الأمن» الذين يطلقون النار على العُزَّل، ووائل غنيم، الذي كان قد خرج لتُوِّه من مَحبسِه، ليدرك للمرة الأولى أن العشرات قد قُتلوا في أثناء تلبيتهم دعوته.

لم تحتمل اللحظة حينها سوى سلامًا من الشهيد لأمِّه، وشعورًا بجدوى الموت في سبيل البلاد «الحلوة اللابسة جديد»، ورسالة حُب ووداع أخير.

بين مطلع العام وختامه، تحول الاطمئنان في الوصية المُختَصَرة «ماتعيطيش» إلى مُقدمة موسيقية يكاد يُسمَع فيها صوت «سارينة» من بعيد، تليها مراوغات تعترف بالتعب مرة وتُكابر مرَّات، قبل أن تنفجر أخيرًا بالـ«سر»: لم أعُد أحلم بأكثر من حياة أفضل، ليس لي، ولكن لابني.

لم تحظَ «الوصية» بنصف شُهرة «يا بلادي»؛ ربما لأن لا شيء يُشبه الثمانية عشر يومًا، أو لأنه بصدور الأغنية الأحدث كان كثيرون قد انفضُّوا من حول الثورة.

ثلاثة أشهر ذيَّلت عام الغضب الأول علَّمتنا أن كل الأطراف لا يُعوَّل عليها.

«أنا» هو الثائر في الأغنيتين، لكن الحبيبة غير ثابتة: واضحة تمامًا في «يا بلادي»، مُناداةٌ ومُخاطَبةٌ من العنوان حتى الوداع، وإن اختلط علينا الأمر في «لحظة فراقك، يا حبيبتي، غير»، تحسِمه «وأشوف، يا مصر، وشك بخير». المحبوبة هي مصر وحدها، حتى الرسالة إلى الأم يُبلغها الآخرون نيابة عن الشهيد؛ فالهمُّ عام، ولا مجال للأحاديث الخاصة.

أما «الوصية» فتختلط فيها المعاني: تبدو الحبيبة في البداية هي البلاد المُتعِبة التي يَقبَلها «على عيبها»، لكنه، بالوصول إلى الختام، يوصيها بابنه الذي دفَعَا من أجله ثمن الحرية، فتبدو الحبيبة كرفيقة ثورة وحياة.

لا يملك «الثائر الحي» رضا كالذي تحمله وصية «الثائر الشهيد». الهمُّ عام إلى حد كبير، لكنه شخصي دون حدود، ومُنهِك إلى أجل غير مسمى، والصبر لا يسنِدُه إلا أمل أخير من أجل ابن وحيد.

كان هذا في ديسمبر منذ خمسة أعوام. اليوم لا تخطر لـ«ثائر» فكرة الأبناء.

اقرأ أيضًا: كيف يفتحُ الوعي بوابة الرعب؟

(2)

المعركة المرعبة

قصيدة «صلاة خوف» لمحمود عزت

يخبرنا الواقع أن بعض المعارك أهم من غيرها، لا لأن أعدادًا أكبر من القتلى والمصابين سقطت فيها؛ بل لأنها عَنَت شيئًا في حينها، فرَّقت بحسم بين ما كان وما سيكون ومَن نَصَر ومَن غَدَر، لأنها جَلَبت نصرًا لم يكن ليُنتزَع لولاها، أو فتَّحت أعيُننا على ما لم نكُن لِنبصره دونها، أو أبلغتنا أن السُّلطةَ لا تريد أن يكون لنا عيون.

ثلاثة أشهر ذيَّلت عام الغضب الأول علَّمتنا أن كل الأطراف لا يُعوَّل عليها؛ لا السُّلطة المُحتَمية خلف درع أسود، ولا السُّلطة «الكاكي» المُحتَمية خلف جماهير التليفزيون، طالما بَقَت أمام التليفزيون، ولا الإخوة الذين يأكلون لحم إخوتهم.

فـماذا نفعل إذا أكلت السُّلطة لحم الإخوة الذين يأكلون لحم إخوتهم؟

هذه المرة كانت المدينة فعلًا تمتلئ بالمسعورين.

يقول علاء عبد الفتاح في حوار أُجري معه داخل مَحبسِه: «بعد مذبحة رابعة، كان مهم جدًّا إن ناس من اللي ضد الإخوان ومن خارج التيارات الإسلامية ترفض المذبحة، وتعادي السُّلطة اللى ارتكبتها، وتقول بوضوح وصراحة إنها سُلطة مجرمة. صحيح اللي عملوا ده من أول لحظة كانوا أقلية صغيرة جدًّا، وموقفهم ماكانش هيأثر في سير الأحداث، ودفعوا ثمن غالي مش باين له أي مردود على الأرض، لكن الموقف ده، والثمن اللي بيندفع نتيجة له، بيبقى له أثر في المستقبل، لمَّا المجتمع يُنقل لمرحلة أخرى ويبقى عايز يتصالح مع ماضيه».

هذه المرة لم يصدم الثوارَ تَوَحُّشُ السُّلطة. حسنٌ، ربما صُدِمَ البعض قليلًا، لكن تلك السُّلطة كانت قد طلبت من الجماهير «تفويضًا» لم تكن لتحتاجه إن كانت ستقوم بمهمة عادية؛ فالدهشة هنا ربما من شِدَّة البطش لا المفاجأة.

أعتقد بصدق في سذاجة مَن كان جزءًا من مشهد عبثي يتوسَّطه وزير الدفاع حينها، ثم تصرف بعدها كأنه لم يتوقع المذبحة. الأجدر بالدهشة هنا أن جمهورًا عريضًا لم يحركه شيء من أمام التليفزيون سوى حُكم الإخوان المسلمين، لم يشعر بتهديد لحريته سوى ممن أخبروه بأنهم «أنصار الإسلام». ليس هذا بهيِّن، لكن الهَوَان نفسه لم يُخرِج هؤلاء الناس من بيوتهم. لا التعذيب ولا الظلم ولا الجهل ولا الفقر ولا الفساد أنطَقَهم، لكنهم الآن فجأة يهتفون.

بالنسبة لمن عرف غدر الطرفين ولم يرتضِ الوقوف في أيٍّ من الجانبين من قبل، كان المقعد جديدًا. بالنسبة للثوار، بتعريف المقال، لم يكُن مألوفًا أن نجلس لنشاهد المعركة عن بُعد. مِن تلك المسافة، بَدَت البلاد وحشية كما لم ندرك من قَبل. لأول مرة نرى انطباعات جماهير التليفزيون عن قُرب، ونسمعها منهم شخصيًّا، لا بالمصادفة ولا من مكالمات نعرف أنها مُفبرَكة.

كنا نفهم أن تَصدُر «اغضب يا مرسي» من «أهله وعشيرته»، لكنَّ «افرُم يا سيسي» دَوَّت بوقع أكثر جماهيرية، ثم لمَّا «فَرَم»، ملأت «تسلم الأيادي» البلاد؛ في البيوت وفي الشوارع وعلى أبواب الرزق، وحتى في جيوب الناس. هذه المرة كانت المدينة فعلًا تمتلئ بالمسعورين.

اختار بعض الثوار الكلام؛ فاختارت السُّلطة إسكاتهم. اختار البقية الصمت من البداية؛ فحظى الفريقان بالاكتئاب هديةً مجانيةً للجميع. أما صديقتي المنتمية للإخوان المسلمين فاختارت رسالةً رَجَت فيها عدم ردي: «من ساعة إعلان الانقلاب تقريبًا، أو من ساعة نزول أول نقطة دم وتذكُّري محمد محمود، صورتك قُدَّامي معذباني، جدالي معاكي معرفش على إيه معذبني».

في كَم حُجرة مظلمة يمكن تفريق الميدان؟

ميدان التحرير، الشاهد على ثورة 25 يناير في مصر - DigitalGlobe/Getty Images

بدا الأمر وكأن قوة أكبر مِنَّا جميعًا تنظر من علٍ وتقول كلمة واحدة لكل مَن تبقى: «على أوضتك!». بدا الأمر وكأن الجميع قد «سَمِع الكلام» ودخل «أوضته». مَن لم تطاوعه قدماه؛ جرَّتها له السُّلطة، ومَن ذهب وحده، ذهب وحده.

لم تكُن للمدينة الرائحة نفسها. لم يَذُق المُتبقون نكهة الخوف القديمة، وإنما كانت رائحة الدم تفوح، لا يُعرَفُ إن كان الأحياء مصدرها أم «المَفرومون». كانت الحُجرات المظلمة تنادي الجميع، وبدا الصمت كملاذٍ أخير، ولو بشكلٍ مؤقت.

لم يذهب الجميع في الوقت ذاته. ثمة من سبق غيره في الاحتماء بـ«أوضته»، لكن الأكيد أن لحظة من الصمت سادت بعد المَقتلة الأخيرة. كان على الجميع أن يراجعوا أنفسهم. البعض ذهب إلى غرفته مرتين، أو أكثر.

على طريقة «ماذا يُقصَد بقول الشاعر»، لم يكُن واضحًا دائمًا ماذا تقصد السُّلطة. هل عَمَدَت إلى مقدمات معينة استهدفت نتائجها؟ هل كانت بذاك الذكاء؟ والأهم: هل كنا بتلك السذاجة؟ هل كان النظام يعرف أن تحويل القضية الكبرى إلى مُصغَّرات شخصية سيقضي على القضية؟

هل تعمَّدوا شَغلنا بمآسينا الشخصية عن القضية الكبرى؟

تقول ماهينور المصري في رسالة من محبسها أيضًا: «هناك دروس للجميع؛ دروس لنا تعلمناها بدماء طاهرة سالت من أجلنا. أول تلك الدروس: هو أنه لا خلاص فرديًّا، أن اليأس ومحاولة الهروب للخارج أو الداخل لن تساعدنا على جعل يومنا أفضل، وأننا عندما نظرنا فقط لأنفسنا وأصبحنا نطالب بالحرية لمن نعرفهم فقط، ولم نتحرك من أجل حرية الشعب ككل (مثلًا: في السجون هناك ليس فقط آلاف السياسيين المظلومين، ولكن آلاف المواطنين الذين تم تلفيق قضايا لهم، أو أصبحوا غارمين أو كواحيل بسبب النظام الاقتصادي للدولة، وقضايا أخرى كثيرة)، عندها أعطينا فرصة للنظام لفصلنا عن الشارع وعن أهدافنا، فحقق في آخر الجولات انتصارًا».

هل حقًّا مشينا بإرادتنا إلى عُزلتنا المحتومة؟ هل حقًّا نجحت السُّلطة، بذكاء شديد أو بمحض الصدفة أو بكليهما، في تشديد عُزلتنا، مسجونين وطُلقاء؟

رأينا النظام يستهدف «حلاوة روح» مَن أظهروا طاقة ثورية و«طول بال» أكثر من البقية مِنَّا، وينجح، غالبًا، في إخماد حماستنا، تارة بما يتعرض له كل سجين سياسي في عهد أي مُستبد يحترم نفسه، وتارة بالاعتماد على «إعلام» يُكرِّه الجماهير فينا فنكره يومًا تمردنا فيه من أجلهم، وتارة بمجرد التأمُّل وسط عُزلة لا تجمع رُفات الأمل فيها رفقة ميدان، والوحدة تُرَبِّي الشك والاغتراب، فهل تعمَّدوا شَغلنا بمآسينا الشخصية عن القضية الكبرى؟

دخل علاء عبد الفتاح إلى غرفته مبكرًا، متفائلًا، واستطاع، لفترة أن يفتح فيها نافذة على الميدان. لم يخرج إلا مضطرًّا، ولغرفة أشد ظُلمة. يقول، في مقال عنوانه «في ذكرى يناير: لم يبقَ غير الكلام عن موت الكلام»:

«يتحدث الناس عن جدار الخوف، ولكني كنت دائمًا أراه جدارًا من اليأس، وحين زال اليأس، لم يتمكن الخوف أو المذابح أو السجون من إعادة الجدار. ارتكبتُ كل السذاجات التي يرتكبها الثوار المفرِطون في التفاؤل: عُدتُ إلى مصر بشكل دائم، أنجبت طفلًا، أسست شركة ناشئة، شاركت في سلسلة من المبادرات التقدُّمية التي تهدف إلى خلق ديمقراطية تتّسِم بالشعبية واللامركزية والمشاركة، تحدَّيت القوانين الجائرة والمحظورات البالية».

بعد عام واحد من اليوم الذي بدأ فيه كل شيء، كان قد ثبُت تعرُّض الكثيرين لاضطراب ما بعد الصدمة.

يقول علاء، وتُردِّد من ورائه نوَّارة نجم: «ليس لدي ما أقوله: لا أمل، لا أحلام، لا مخاوف، لا تحذيرات، لا أفكار، لا شيء، لا شيء على الإطلاق، مثل طفل تظهر عليه علامات التوحُّد، بدأتُ أتراجع وأفقد قدرتي على الكلام، وقدرتي على تصوُّر قُرَّاء أو تخيُّل تأثير كلماتي عليهم».

تدخل نوَّارة غرفتها، ليس بما حَمَل علاء من الأمل عندما فعل، ولا تخرج. تنعزل، لكنها ترتكب التفاؤل ذاته: «أنا أصلي لقيت نفسي قاعدة فاضية، والثورة فشلت، ومش لاقية شُغل، قلت أخلِّف بقى. أهو أي حاجة أرازي بيها الحكومة، والسِّلسال بتاعنا ده لو قطع حيريَّح الحكومة. ربنا يوصِله دايمًا».

غُرَفٌ أكثر عَتمة

أغنية «بعد البؤس دا» لعلي طالباب

لا يحظى الجميع بدفءٍ يَسكُن إليه في غرفته. كانت الفجيعة أشد على الوحيدين، وكانت على أشدِّها على الذين أوحَدَتهم الثورة. بعد عامٍ واحد من اليوم الذي بدأ فيه كل شيء، كان قد ثبُت تَعرُّض الكثيرين لـ«اضطراب ما بعد الصدمة»، حتى أن مجموعة من الأطباء النفسيين المتطوعين أطلقوا مبادرة «انت مش لوحدك»؛ لعلاج المصابين بالاضطراب (الكرب) نتيجة تجاربهم خلال أحداث الثورة.

التَهَمَ الكَرب الوجوه العادية التي لا تظهر على الشاشات، هؤلاء الذين لا يستطيعون الائتناس بجمهور عريض يتابعهم أمام التليفزيون.

خصَّص أحد البرامج القليلة التي حَظَت بثقة الثوار، «بلدنا بالمصري» الذي توقف حاليًا، فقرة ثابتة للمبادرة، التي كانت أحد أبرز وجوهها، الدكتورة منال عمر، هي شخصيًّا إحدى الحالات التي خَبَرت أحداث الثورة، وبَدَت عليها أعراض كرب ما بعد الصدمة. كانت مُقدِمة البرنامج نفسها، ريم ماجد، كذلك، ومثلهما عانت الطبيبة النفسية والشاهدة على الأحداث، سالي توما، من الاضطراب النفسي، وبالتحديد من «متلازمة الناجي».

تقول سالي: «نجوت في ماسبيرو، ولكني نجوت بحِمل الشعور بذنب البقاء على قيد الحياة، وكانت تصرفاتي المدمِّرة تعكس اللاوعي بداخلي، الذي صار يُشعرني بأني لا أستحق الحياة، وبالتالي فأنا لا أستحق السعادة، وكان أي شيء يتَّصِف بالجمال أو السرور أو المرح أو النجاح، أو حتى الحب، كفيلًا بإشعاري بالذنب بشكل مؤلم، فكان الحل الطبيعي للهروب من الألم الشديد، وإن كان غير منطقي، أن أتعمد الهروب من أي شيء يجلب السرور، وأن أتجنبه بأي ثمن».

لم تنفرد الوجوه المعروفة بتلك الحالة، بل ربما ساعدتهم شهرتهم ونشاطهم وتواجدهم في وَسَط فعال إلى حدٍّ ما على الشفاء. إنما التَهَمَ الكرب الوجوه العادية التي لا تظهر على الشاشات، هؤلاء الذين لا يستطيعون الائتناس بجمهور عريض يتابعهم أمام التليفزيون، فلا يجدون مُتنفسًا سوى أمام شاشات ذات جمهور أصغر حجمًا لكنه أكثر قُربًا، إلى أن تضيق وتستحكم حلقاتها، فلا يجدون مخرجًا سوى إلغاء حساباتهم على مواقع التواصل، كطريقة للتعبير عن الرغبة في الصمت والانعزال.

قد يعجبك أيضًا: اقرأ أيضًا: ملف «منشور» عن الانتحار">بين العدمية وحروب الهاردكور.. هنا ترقد أجيال الربيع العربي

ستجيءُ مصر في ذيل قائمة الدول الأكثر سعادة، حسب تقارير مؤسسة تابعة للأمم المتحدة للعامين 2014 و2015، وسيرفض «السعداء» الاعتماد على معلومات «مؤسسة أمريكية» لها مصالحها، أو غيرها من المصادر الأجنبية أو المحسوبة على الإخوان المسلمين، وبأي طريقة سيجدون مخرجًا عندما تنشر إحدى صحف الدولة الرسمية تقريرًا مُطوَّلًا تُعنوِنه: «أن تموتَ شابًّا: الناشطون المصريون يواجهون صدمة ما بعد الثورة».

ربما لأن التحقيق الطويل نُشِر بالإنجليزية، ربما لم يلحظوه أصلًا، لا هو ولا غيره، في الجريدة نفسها، عن زيادة معدل الانتحار في مصر كانوا يرونها «بتفرَح»، إلى أن تنتحر فتاة من هذا الجيل، بعد أن عاشت كل ما عاشه؛ جربت الثورة بتفاصيلها والتحولات الفكرية الناتجة عنها، ثم انزوَت خلف شاشة صغيرة، ثم أبطَلَت الحسابات التي تضمن لها ظهورًا أخيرًا عبر تلك الشاشة، قبل أن تُطفئ كل شيء للأبد.

ستبدو هذه اللحظة كنقطة تستوجب أن يقف عندها الجميع، وربما يدخلون غرفهم؛ ليراجعوا أنفسهم، لكن هذا لم يحدث، أو بالأحرى، لم يحدث إلا لنا: الفئة التي لم ترتض الانضمام لطرفي المعركة، المُنزوية في حجراتها الخاصة مُسبقًا، بينما انشغل كلٌّ من الطرفين وأنصارهما برواية قصة الفتاة من وجهة النظر التي تخدم دولتهم ورئيسهم، ولم يخلُ الأمر طبعًا من أصحاب مفاتيح الجنة والنار، الذين يتفرَّغون لتحديد مصائر الناس وتقييم إيمانهم. كل ما حدث بعد ذاك الانتحار كان سببًا كافيًا لانتحارات جديدة.

(3)

الذي كان وماعادش وراح

أغنية «ساح يا بداح» لمحمد منير

في الوقت الذي تبادلت الأطراف فيه جَني ثمار ما زرعته الثورة، كان الثوار أقل الرابحين. خرجنا من المعارك المتتالية بلعنة المعرفة، ولم يترك لنا «الزخم الثوري» بعد كل صَخَبِه سوى هُوَّات سحيقة تبتلعنا. عاد الجميع إلى مسار حياته الطبيعي، بينما وقف الثوار مذعورين كَمَن ودَّع أحبائه بعد إقامتهم الطويلة في بيته، ثم تسمَّر أمام الباب لا يدري كيف يسدُّ الخواء الذي تُخلِّفه أصواتهم المبتعدة.

كان وجودنا في قلب الحدث يشغلنا عن وحشية التحريض ضدنا. ما يُهوِّن هواننا على الناس هو أننا نتخذ موقفًا نرتضيه لأنفسنا، «كتفًا بكتف» مع مَن يشبهوننا. الآن لا نملك ميدانًا، ولا مكان لنا في المعركة الدائرة. يتسِّع الواقع لأن نجلس أخيرًا. نسترجع تفاصيل الفجيعة. نُسدِّد ديوننا من البكاء، ونصمت، طويلًا.

في الصمت تعلو أخفَتُ الأصوات، تدُقُّ الأسئلة على رأسك بلا انقطاع، ويظهر شريط طويل غير مُرَتَّب من المشاهد: ماسبيرو أخطر مِ الرُّصاص والقصر، كفوف رِجليا نزفت دم، وجيشك أهانَك وعَلِّم عليك، إيه اللي ودَّاهم هناك؟ افرُم يا سيسي.

وينك يا الله؟

لا تبدأ الأسئلة كُبرى عادةً، ولا يبتدئ أحدٌ الشك بإرادته؛ فاليقين مريح، لكن الظلم مُنهِك، وطول غياب العدل سيصفع المُتهرِّبين في النهاية مهما هربوا.

يبدأ السؤال عاديًّا: لماذا يحدث هذا الظلم؟ نُجيب أو لا تشغلنا الإجابة.

تتصاعد الأسئلة تدريجيًّا: لماذا نسكت على هذا الظلم؟ لماذا لا نطالب بالعدالة؟

نُجيب بالمطالبة.

ثم: لماذا يكرهنا الناس لأننا نطالب بالعدالة؟ نُجيب أو لا تشغلنا الإجابة.

ثم: لماذا نموت لأننا نُطالب بالعدالة؟ لماذا لا يواجه قاتلنا العدالة؟ لماذا، حتى عندما مِتنا، لم تتحقق العدالة؟

ثم نعود إلى نقطة البدء: لماذا يحدث هذا الظلم؟

تبدو تلك الدائرة غير مُجدية، وتبدو السُّلطة التي تُرتَجَى منها الإجابات كأنها لا تسمع، أو أنها ليست المعنية بالأمر من الأساس، فترتفع الأسئلة درجةً أعلى، تستفهم عن كُليَّات أكبر، وتصعد إلى أعلى سُلطة ممكنة. لا تعود الـ«لماذا» تُوَجَّه لجهاز شرطة أو وزير دفاع أو رئيس دولة؛ لكنها تصعد رأسًا لتصبح: لماذا يا الله؟ وقد لا تأتي الإجابة، فيتحول السؤال إلى: أين أنت يا الله؟

لم تكن تلك الأسئلة «فئوية»؛ بل من كل الأشتات. سَبَق بعضُنا الآخرين إليها. كالغُرِف المظلمة، لم يصل الجميع في الوقت نفسه، ولم يسلُك الجميع الطرق ذاتها، بل ربما اختاروا دروبًا متوازية لم يتخيل أحد أن تتقاطع أبدًا، لكنهم جميعًا التقوا في النهاية عند سؤال واحد: لماذا؟ لماذا كبيرة تتفرَّع منها أسئلة صغار.

صحيحٌ أن إيمان المسلمين مِنَّا لم يعتمد على «إسلاميي الكباسين»، لكنه كان طبيعيًّا أن يهتز بتكرار خذلانهم وغياب آخرين مُنصفين. صحيحٌ أن إيمان المسيحيين مِنَّا قد لا يفرض عليهم طاعةَ الكنيسة في أمور الدنيا، لكنه كان طبيعيًّا أن يهتز عندما تهتف الكنيسة لقتلة أبنائها.

لم يخذِلنا، بجميع أطيافنا، «دُعاةٌ» متطرفون وحسب، بل خذلنا أيضًا «الوسطيون». خذلتنا الرؤوس الكبيرة المُعتَرف بها في عموم البلاد عندما قررت التسبيح بحمد رئيس البلاد، مهما قتل وظلم العباد. صاروا يُكفِّرون مَن يعارضون السُّلطة، فكَفَرنا بهم وبدينهم وبالسُّلطة.

طَوَال ثمانية عشر يومًا، لم يحكم الميدانَ سوى «شريعة» فِطرية جامعة واحدة: الإنسانية، وقد أدَّت بنا كلمة واحدة إلى أكبر انتصارات الثورة. لم تحقق أي «أيديولوجية» أخرى على مدار سنوات ما حققه اتفاق ضمني فِطري في ثمانية عشر يومًا. في المقابل، ماذا جَنَينا من «أنصار الشريعة» أو أي «أنصار» آخرين؟

وَبَعثَر الهواءُ شعرات البنات

لم يترك الطوفان شيئًا لم يجتَحْه، أو على الأقل «يُخلخله». زَلزَلَت الثورة جميع الثوابت، ثم أعاد كل مؤمن بها حساباته في غرفته المظلمة. أعاد ما أعاد إلى موضعه، وترك ما ترك للريح.

لا تصلُح طريقة «ماذا يُقصَد بقول الشاعر» طيلة الوقت، إن كانت تصلح في أي وقت من الأصل، لذا، لن أدَّعي هنا بالتحديد فهمًا كُليًّا لجوانب الأمر. حاولتُ ربط ملاحظاتي الشخصية بطريقة عِلمية تقدِّم دليلًا يُعتَد به، لعقلي قبل عقول الآخرين، فأجريت استطلاعًا لآراء عينة عشوائية، غير علمية، من الفتيات والسيدات اللاتي اتخذن قرارًا بخلع الحجاب، وجاءت النتيجة تدل على ما يلي:

لم يكُن الحجاب، أو «غطاء الرأس»، موضع شك إلا بالنسبة لمن كانت لديهن إشكاليات معه قبل الثورة، أو من تأثرن بأفعال الإسلاميين خلال الثورة بشكل مباشر هزَّ إيمانهن بالدين ككل، وبالتالي بالحجاب. ربما لا تمثل الأرقام هنا شيئًا نظرًا لعدم دقة العينة، لكن، على أية حال، أجابت نسبة 62.5% منها بالإيجاب عن سؤال «هل تعتقدين أن أحداث ثورة 25 يناير أثرت على فكرك، وبالتالي قرارك، بشكل مباشر أو غير مباشر؟». نَفَت نسبة 12.5% من المُجيبات، بينما اختارت الأُخريات، 25%، إجابة أخرى.

لم يرتبط خلع الحجاب بالتخلي عن الإيمان ككل، بل ربما ارتبط إلى حدٍّ أبعد برغبة استفزتها الثورة في التعبير.

تقول إحدى المشاركات في الاستطلاع: «أصبحتُ أكثر قدرة على الدفاع عن اختياراتي الشخصية التي لا تخص أحدًا غيري. كان لا بد أن أصبح أكثر اتساقًا مع نفسي، وكان لا بد أن يصبح ظاهري متماشيًا مع باطني، ولذا اتخذت قرارًا بخلع الحجاب، ضمن أمور أخرى كثيرة تغيرت».

تقول أخرى إن الثورة لم تؤثر في أفكارها تجاه الحجاب، لكن «اختلاف الأجواء والقدرة على اتخاذ القرار والمغامرة من أجل الأفضل شجعني على تنفيذ رغبة دامت عشر سنين».

خصوصية الحجاب في مصر بالتحديد أنه أصبح نتاجًا ليس فقط لمعتقدات دينية؛ ولكن لموروثات ثقافية وصورة اجتماعية كـ«زي رسمي» لا يجوز دونه الانتماء إلى فئة معينة، عادة ما تكون من الطبقة المتوسطة، بدرجاتها، المتدينة «تديُّنًا وسطيًّا».

على هذا، لم يرتبط خلع الحجاب بالتخلي عن الإيمان ككلٍّ كما قد يتصور بعض الناس؛ بل ربما ارتبط إلى حدٍّ أبعد برغبة استفزتها الثورة في التعبير، أقصى درجات التعبير، كَمَن يملك مساحة إضافية للتعبير عن نفسه ويمنعه شيء لم يسبق له فهمه من استغلالها؛ فيقرر ببساطة أن يزيل هذا الشيء ليُعبِّر بشكل كامل، ودقيق، عن نفسه الحقيقية.

لسنا قليلي الأدب يا أمي

الاستشارية النفسية الدكتورة منال عمر تشرح درجات الأخلاق والمُثُل العُليا

بالنسبة لـ«إخوانَّا البُعَدَا»، وهُم كُثْر، يمكن استغلال الفقرات السابقة للتدليل على مدى خواء الثوار و«قلة أدبهم»، لكنَّ تعريفًا علميًّا لدرجة «نموهم الأخلاقي» يثبت العكس تمامًا؛ فباعتبار السُلَّم الأخلاقي مكوَّنًا من خمس درجات، وبحسب الاستشارية النفسية منال عمر؛ لا يلتزم الفرد بالأخلاق والمُثُل العُليا في الدرجة الأولى إلا خوفًا من العقاب، وهو ما يعني أنه إذا أمِنَ عدم المحاسبة فلن يتردد في التخلي عن الأخلاق. هنا يقع معظم الحُكَّام.

في الدرجة الثانية، يلتزم الفرد بالأخلاق مقابل مكافأة، وهنا تقع فئات ليست بالقليلة من الشعب. وعند المرتبة الثالثة يلتزم الفرد بالأخلاق دون انتظارٍ لثواب أو عقاب، فلا المكافأة هي ما يجعله يتمسك بالأخلاق، ولا الترهيب يجعله يتنازل عنها، وهنا تقع فئات أخرى ليست بالقليلة من الشعب. عند المستوى الرابع، يلتزم الفرد بالأخلاق، ويريد للذين يعرفهم أن يتحلُّوا بالأخلاق نفسها، وأن تسود مجتمعه المُثُل العُليا.

أما عند الدرجة الخامسة والأعلى على الإطلاق من «الرُقي الأخلاقي»، فيقع الأفراد الذين يتمسكون بالأخلاق والمُثُل العُليا، ويريدون المُثُل نفسها، من عدالة وحرية وكرامة، للجميع، حتى مَن لا ينتمون إلى مجتمعاتهم ومَن لا يعرفونهم. هؤلاء هم الثوار.

في عُرفِ الثورة، تسقط ازداوجية المجتمع. إذا كان الشارع قد اختار، على مر الزمن، أن يُعبِّر عن غضبه بقاموس من «العيب»، فلا يُعاب على أحد أن يستخدم لغة المجتمع علنًا، لكن يُعاب على المجتمع أن يتبرَّأ من لغته؛ أن يستخدمها أمام «الذكور» ويخفيها في حضور «الإناث»، أو أن يتصالح مع السخرية «الأبيحة» بين الأصدقاء، بينما تسوؤه بشدة إن طالت السُّلطة. على هذا المجتمع «الخلوق» أن يختار: إما أن يعترف بلغته وثقافة شارعه، أو أن يتخلى عن مُعجمِه وموروثاته إن أراد، وإن استطاع.

لكنَّ هذا المجتمع يحب التظاهر؛ مرة بالسعادة ومرة بالأخلاق ومرة بالعَمَى، بينما تغيب العدالة، وعندما يغيب العدل لا يتصرف المظلومون حسب معايير الظرف الطبيعي؛ فمَن يسرِق خُبزًا لأولاده الجَوعى وسط مجاعة ليس كمَن يسرِق دولة إلى أن يحرمها الرخاء.

هؤلاء الثوار، يا أمي، لم يختاروا الطريق، ولكنه فُرِض عليهم. يلومنا «السعداء ذوو الأخلاق» على أفكارنا أو ألفاظنا وسخريتنا اللاذعة، لكنهم لا يلومون مَن قهرنا حتى لم يَعُد أمامنا سوى السخرية اللاذعة أو الانتحار.

لا أهتم باللوَّامين كثيرًا؛ لأني خَبَرتُ ازدواجية هذا المجتمع ألف مرة، لكني أهتم بأمي، أمي التي تعرف جيدًا كيف تبدو الحياة الآن في عيني أمٍّ أخرى فقدت ابنًا أو زوجًا أو كليهما، وكيف تبدو الحياة في أعيُنِ جيل يسحبون منه الحياة. لسنا قليلي الأدب يا أمي، لكنها قلة الحيلة.

اقرأ أيضًا: ملف «منشور» عن الانتحار

تَحتَكْ في ناس عاوزة الأمل

مصدر الصورة: flickr - Al Jazeera English

«خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرُّد هي أنه مهما كان مَآل كل واحد، سواء سار في سكة السلامة: التوبة، الإذعان لقوة الأمر الواقع، وحتى إعلان الكُفر بكل قيم التمرُّد القديم، أو اختار طريق الندامة: الانهيار، اعتزال الحياة، المرض النفسي؛ فإنَه شاء أم أبى لا يعود الشخص نفسه الذي كانه قبل أن تبتليه غواية التمرد. لقد مسَّه سحر الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دومًا ذكرى الخطيئة الجميلة».

أروى صالح، صحفية من جيل الحركة الطلابية في السبعينات، كثيرًا ما يُستخدم كتابها «المُبتسِرون»، والاقتباس السابق بالتحديد، في سياق الحديث عن ثورة الخامس والعشرين من يناير، باعتبار جيلنا يتعرَّض لما تعرَّض له جيلها «المُبتسِر».

في الواقع، يأتي كلامها معبرًا ودقيقًا وجديرًا بالاقتباس. ولقد انتحرت أروى صالح، وانتحرت فتاة أخرى من جيلنا، وللمُفارقة، تظهر صورة تلك الفتاة ضمن نتائج الصور إذا بحثتَ على غوغل للصور باسم أروى صالح.

لكنَّ الانكماش في الغُرف المظلمة ربما لا يكون سيئًا على طول الخط. ومع أني لا أرشح فكرة الإنجاب، لكن لنا أن نحلم مع الموجودين بالفعل من الصغار، أن نعيد سرد الحكايات، ونحفظ حقيقة ما عشنا في قلوبِنا وعقولنا وفي ذاكرة الأجيال الآتية من بعدنا، لا لأن جيلنا لا أمل فيه؛ بل لألَّا نكرر أخطاء أجيال سبقتنا، أو أخطاءنا الشخصية.

تقول نوَّارة نجم: «هذه المرة، لن أزرع الثورية فحسب في أبنائي، وإنما سأزرع فيهم الطموح.ربما كان الخطأ الوحيد الذي اقترفَتْه الثورة هو المبالغة في النَُبل، والزُّهد، والتعفُّف. لذا؛ فإنني سأُنبِّه طفلي إلى حقيقة: المرة الجاية لما تعملوا ثورة، خطَّطوا تاخدوا الحكم، وهذا ما سأتفرغ له الآن».

أو كما قال: «اكسب عدد، واكسب غَطَا». ربما يعود سكان الغُرف المظلمة، والسكان الجُدُد، ليتجمعوا يومًا في الميدان.

ابتسام مختار