أخف الشرَّين: كيف استقبلت الصحافة الأمريكية صعود هتلر وموسوليني إلى الحكم؟
لـ«ميكيافيلي» (Niccolò Machiavelli) جُملة شهيرة في كتابه «الأمير» تقول إنه من النادر في السياسة أن يكون الاختيار بين الخير والشر، وإنما «بين أسوأ الشرور وأخفها شرًّا»، لكنَّ ما يبدو في البداية أخف الشرَّين قد يغدو أسوأ الشرور على الإطلاق.
وفي مقال بعنوان «التطبيع مع الفاشية» على موقع (The Conversation)، يستعرض البروفيسور «جون برويش» (John Broich)، الحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة ستانفورد، لقطات كاشفة من تاريخ استقبال الصحافة الأمريكية لصعود الديكتاتورَين موسوليني في إيطاليا (1925) وهتلر في ألمانيا (1933).
احتفت الصحافة الأمريكية بموسوليني، ورأت أنه أنقذ البلاد من الوقوع في قبضة اليسار وأنعش اقتصادها.
وبحسب المقال، لم ترَ معظم الصحف الأمريكية في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين خطرًا كبيرًا في وصول موسوليني وهتلر إلى الحكم، بل على العكس احتفت بسيطرة موسوليني على إيطاليا، ولم تر في هتلر سوى الشبه بينه وبين شارلي شابلن.
ثم استفاق الجميع على نظامين حديديين وحرب عالمية ثانية وبضعة ملايين من القتلى.
فاشي نعم، لكنه ليس شيوعيًّا
في عام 1922، أصدر موسوليني أمره لثلاثين ألفًا من أتباعه في كتائب «القمصان السوداء» (Blackshirts) بالزحف على روما، ليوكل له الملك بعد ذلك مهمة تشكيل الحكومة وتولي رئاسة الوزراء. وبحلول عام 1925، كان موسوليني قد سيطر على زمام الأمور في إيطاليا وأعلن نفسه قائد البلاد، وسُمِّي «الدوتشي» (Il Duce)، وتعني القائد.
ويذكر «برويش» أنه رغم كل هذه الممارسات غير الديمقراطية، احتفت الصحافة الأمريكية بموسوليني ورأت أنه أنقذ البلاد من الوقوع في قبضة اليسار وأنعش اقتصادها، واكتفت بالإشارة إلى أن ممارسات الحركة الفاشية «خشنة بعض الشيء».
وأضاف أنه في الفترة من 1925 حتى 1932، ظهر موسوليني في ما لا يقل عن 150 مقالًا، وجميعها إما أثنى عليه أو تحدث عنه بنبرة إيجابية أو اتخذ منه موقفًا محايدًا، كما عرضت إحدى الصحف سيرته الذاتية على حلقات عام 1928.
وفي تحليله لتلك المواقف، يقول البروفيسور «جون برويش» إنه عقب موجة معاداة الرأسمالية التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، رأت الصحافة الأمريكية أن الشيوعية تشكل خطرًا أعظم من الفاشية.
ربما كان الأمر محيرًا للصحافة أن تتعامل مع حاكم نازي جاء إلى السلطة بانتخابات حرة.
ومن المفارقات أن صحيفة مثل «نيويورك تايمز» أعلنت، رغم أن الصحافة الأمريكية كانت ترى الفاشية «تجربة» جديدة، أن موسوليني أعاد الأمور إلى «طبيعتها» في إيطاليا.
إلا أن بعض الصحافيين رفضوا ذلك التطبيع الحاصل مع الفاشية، مثل «إيرنست هيمنغواي» الذي كتب مقالًا بعنوان «موسوليني: أكذوبة أوروبا الكبرى»، كما كتب «جون غانثر» (John Gunther) كذلك عن تلاعب موسوليني المتقن بالصحافة الأمريكية.
اقرأ أيضًا: «الغونزو»: صحافة ثائرة نقلت الكاتب إلى داخل السطور
انتخابات ديمقراطية = حاكم نازي
أما عن الموقف من هتلر، فذكر «برويش» أن الصحافة الأمريكية اعتادت في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات تلقيبه بـ«موسوليني ألمانيا».
وبالنظر إلى صورته الإيجابية لدى الصحافة الأمريكية، كان صعوده إلى الحكم أمرًا «طبيعيًّا»، إضافة إلى أن الحزب النازي حقق قفزات مدهشة في الانتخابات أواسط العشرينات، ثم حاز الحصة الأكبر من مقاعد البرلمان في انتخابات حرة عام 1932.
ربما كان الأمر محيرًا للصحافة أن تتعامل مع حاكم نازي جاء إلى السلطة بانتخابات حرة.
وهكذا كانت الوسيلة التي حاولت بها الصحافة الأمريكية النيل من صورة هتلر؛ السخرية من طريقته في «الصياح الفارغ بالكلمات الرنانة»، ومن «ملامحه الكاريكاتورية» التي تستدعي إلى الذهن صورة شارلي شابلن.
قد يعجبك أيضًا: صعود ترامب: هل عاد هتلر من جديد؟
كان المراسلون على وعي بأن عليهم تجنب انتقاد النظام الألماني ليتمكنوا من البقاء داخل البلاد.
يستكمل «برويش» قائلًا إن الصحف الأمريكية مالت إلى التشكيك في قدرات هتلر حتى حين عُيِّن مستشارًا لألمانيا، ورأت العديد منها أن الساسة الألمان يستطيعون «ترويضه»، أو أنه سيميل إلى الاعتدال مع تولي الحكم، وأن «موهبته الخطابية الدرامية» لن تكون كافية، ولن تلبث «ضحالة أفكاره» أن تنكشف أمام الجمهور.
وكتبت صحيفة مثل «نيويورك تايمز» بعد تولي هتلر مستشارية ألمانيا أنه لن يجني من وراء ذلك النجاح إلا أن «يكشف للشعب الألماني عقم مساعيه»، وأكد بعض الصحافيين أنه ربما يندم على ترك الجموع والذهاب إلى مقر مجلس الوزراء لتولي المسؤولية.
ومع تصاعد العنف ضد اليهود بدأت بعض الصحف انتقاد هتلر، لكن البعض الآخر ذهب إلى أن ادعاءات العنف ليست سوى نوع من «البروباغاندا»، كتلك التي ذاعت في أثناء الحرب العالمية الأولى، وحتى من شجبوا العنف أكدوا أنه آخذ إلى الانتهاء وأن الأمور ستعود إلى طبيعتها.
وكما أردف «برويش»، كان المراسلون على وعي بأن عليهم تجنب انتقاد النظام الألماني ليتمكنوا من البقاء داخل البلاد، حتى إن أحد أبناء مراسل شبكة (CBS) تعرض للضرب لأنه لم يُحيِّي «الفوهرر» (Fuhrer)، ولم يكتب المراسل عن ذلك.
وحين كتب «إدغار ماورر» (Edgar Mowrer)، مراسل صحيفة (Chicago Daily) أن ألمانيا أصبحت «مستشفى للمجانين»، ضغط الألمان على وزارة الخارجية الأمريكية لكبح جماح الصحافيين، فما كان من «آلين دوليس» (Allen Dulles)، الذي صار فيما بعد رئيسًا لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA)، إلا أن كتب إلى «ماورر» قائلًا: «إنك تبالغ بشأن الوضع الألماني»، ثم عمدت الصحيفة إلى نقله خارج ألمانيا خوفًا على حياته.
قد يهمك أيضًا: ماذا لو عاد هتلر: كتاب وفيلم ألماني يبحثان في المسألة
وفي أواخر الثلاثينات، أدرك الصحافيون الأمريكيون أنهم أخطأوا في تقليلهم من شأن هتلر، وعجزوا عن تخيل مدى السوء الذي قد تؤول إليه الأمور (مع وجود استثناءات قليلة استطاعت رؤية الكارثة من البداية)، وعادت صحافية مثل «دوروثي طومسون» (Dorothy Thompson)، التي كتبت في 1928 أن هتلر «شخص شديد التفاهة»، في أواسط الثلاثينات لتشير إلى المخاطر المحتملة.
ويستشهد «برويش» بما كتبته «طومسون» في عام 1935، من أنه «ما من شعب يستطيع أبدًا أن يتعرف على ديكتاتوره في البداية، فهو لا يتقدم إلى الانتخابات أبدًا بصفته ديكتاتورًا، بل بصفته ممثل الإرادة الوطنية».
وتردف الصحافية الأمريكية متحدثة عن بلادها، وعن بلادنا ربما: «عندما يظهر ديكتاتورنا، فعليك أن تثق أنه لن يشكل خطرًا في البداية، وأنه سيدَّعي أنه يدعم كل القيم التي يؤمن بها الأمريكيون».
أحمد قياتي