كيف حاول الاتحاد السوفييتي التضييق على الإسلام فأخرج جيلًا من المتطرفين
لا يمر يوم واحد الآن دون أن يتصدر المتطرفون الإسلاميون، من «داعش» أو غيره من التنظيمات الإرهابية، الأخبار في مختلف أنحاء العالم، ولا نبالغ في القول إن الكلام عنهم قُتل بحثًا.
صحيفة واشنطن بوست تناولت هذا الموضوع مؤخرًا من زاوية جديدة لا يعرفها كثيرون، تتعلق بمنطقة آسيا الوسطى؛ التي تشهد منذ عدة أعوام تناميًا في معدل المتطرفين الإسلاميين.
تقول الصحيفة إن الأمر بدأ مع السعي إلى القضاء على الإسلام في وسط آسيا، منذ عبَّر الزعيم السوفييتي «ميخائيل كالينين» (Mikhail Kalinin) عن رؤيته لمستقبل المنطقة، معلنًا أنه يسعى إلى أن يتعلم أهل سهول كازاخستان ومزارعو القطن البسطاء في أوزبكستان والبستانيون في تركمانستان مبادئ العامل اللينينغرادي ومعتقداته.
قصد «كالينين» بهذا أن السوفييت كانوا يضربون المثل بإخلاص عمال مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حاليًا) وانتظامهم، وهم الذين قال القادة البلشفيون في كتاباتهم إن الاتحاد السوفييتي قام على أكتافهم.
الاستبداد يُولِّد التطرف
لم تكن المسألة بتلك البساطة خصوصًا فيما يتعلق بالدين؛ لأن المسلمين كانوا يُشكِّلون نحو 90% من سكان المنطقة حينها، بينما لا يوجد رسميًّا دين للدولة في الاتحاد السوفييتي، وهكذا أخذت الحكومة عددًا من الإجراءات العنيفة في عشرينات القرن العشرين لحظر الإسلام في وسط آسيا؛ مثل حرق الكتب العربية، ومنع المسلمين من تولي المناصب الرسمية، وإغلاق منابر الخطابة والمدارس الإسلامية.
بحلول الثلاثينات، كانت الحكومة السوفييتية قد أحكمت قبضتها إلى حدٍّ كبير، ونجحت في كتم ألسنة الأئمة والقادة المعتدلين، وإن لم تستطع أن تمنع القادة الأصوليين من اجتذاب الأتباع في الخفاء.
تذكر الصحيفة من هؤلاء القادة سعيد بن محمد الطرابلسي الشامي الدمشقي، المشهور باسم «شامي دامُلَّا»، الذي مات في السجن عام 1932، وكان من أبرز القادة الأصوليين الإسلاميين في شرق آسيا، وترك مئات الأتباع الذين نشروا أفكاره المتشددة في المساجد والمدارس السرية التي أقامها مسلمون.
ازداد التضييق على المسلمين حتى كاد يصبح من المستحيل أن يمارسوا شعائرهم، وانهار عدد المساجد في آسيا الوسطى عام 1941 إلى ألف مسجد لا غير، رغم بلوغه نحو 26 ألف مسجد عام 1912.
أنتجت جهود التضييق على الإسلام صورة أخرى من القصة التي تكررت مرارًا طيلة القرن العشرين وحتى الآن، إذ لم تُسفر مساعي الحكومة السوفييتية عن شيء غير دفع شريحة كبيرة من المسلمين المعتدلين إلى التطرف، الأمر الذي تتجلى عواقبه الوخيمة في الحرب على الإرهاب.
في وسط آسيا، يجنح المسلمون اليوم إلى التطرف بمعدل يثير المخاوف؛ إذ انضم آلاف منهم بالفعل إلى تنظيم «داعش»، ولعل أقرب مثال على ذلك إحدى الهجمات الشهيرة التي وقعت داخل ملهى ليلي في إسطنبول وأسفرت عن مقتل 39 شخصًا، وتوصَّلت السلطات التركية إلى أن مرتكبها شاب من جمهورية قيرغيزستان.
اقرأ أيضًا: سنحاربهم بالحُضن: كيف تستخدم الدنمارك علم النفس لمواجهة «داعش»؟
الإسلام يعود مؤقتًا
ترى الصحيفة أن تراجُع الحكومة عن موقفها المتزمت من الأديان في الأربعينات مهَّد السبيل أمام هؤلاء أتباع القادة الأصوليين للسيطرة على المناصب الرسمية البارزة، بعد أن سمح رئيس الاتحاد السوفييتي الأسبق، جوزيف ستالين (Joseph Stalin)، للكنيسة الروسية الأرثوذكسية بالعودة لممارسة أنشطتها كمؤسسة وطنية، في إطار استغلاله السياسي للحشد الديني للشعوب السوفييتية بشكل عام لمقاومة الزحف النازي.
النتيجة أن الإسلام عاد بالفعل إلى وسط آسيا بحلول السبعينات، وأصبح الاحتفال برمضان وعيد النَّيروز (رأس السنة القبطية) وغيرهما يُمارس علنًا من جديد، كما لعبت المقاهي دور المساجد لفترة مؤقتة لحين بناء مساجد جديدة.
في 1991، سيطر مسلحون على مبنى تابع للحزب الشيوعي السابق في أوزبكستان وطالبوا بإقامة دولة إسلامية
رسَّخ الأصوليون قواعدهم وسط آسيا أكثر مع غزو أفغانستان في الثمانينات، الذي دفع كثيرًا من دول المنطقة للانقلاب على الاتحاد السوفييتي، وأسهم في هذا أيضًا ضعف القيود التي كانت مفروضة على السفر، فتدفَّق المجاهدون من الشرق الأوسط وغيره إلى المنطقة التي شهدت تحولًا كاملًا منذ ذلك الحين، ويقترن اسمها الآن بالتطرف الديني.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينات، كان المتطرفون الإسلاميون قد أنشأوا شبكات قوية مكَّنتهم من السيطرة على حكومات الدول الوليدة، التي قامت على أنقاض إمبراطورية الستار الحديدي.
تذكر الصحيفة حادثة وقعت عام 1991، عندما سيطرت مجموعة من الميليشيات المسلحة على مبنى تابع للحزب الشيوعي السابق في إحدى مدن أوزبكستان، وطالبت صراحةً بإقامة دولة إسلامية تطبِّق الشريعة وتفصل مدارسها بين الصبية والفتيات.
كان الرئيس الأوزبكستاني «إسلام كريموف» (Islam Karimov) في ذلك الحين يواجه مظاهرات المسلمين التي تطالب بخضوع الحكومة للمحاسبة، ولم يمض وقت طويل قبل أن يقرر «كريموف» وقادة الدول المجاورة مواجهة المسلمين، وقد عادت شوكتهم تقوى في المنطقة من جديد وأصبحوا يشكِّلون خطرًا على الأنظمة الحاكمة، فاتبعت الحكومات الأساليب ذاتها التي ورثتها من الحقبة السوفييتية، من أجل إبقاء الدين تحت سيطرة السياسة.
قد يهمك أيضًا: الوصفة الصينية لترويج القمع
الإسلام يُحاصَر من جديد
حظرت أوزبكستان إطلاق اللحية وارتداء الزي الإسلامي وأغلقت المطاعم الحلال.
لا يختلف الواقع كثيرًا حاليًا عمَّا كان عليه إبان الحكم السوفييتي، فالآن لا تُقام الاحتفالات الدينية إلا وفقًا لقواعد تُحدِّدها اللجان الحكومية، التي تُخضع النصوص الأدبية للرقابة، وتحظر أي أنشطة أو جماعات لا تروقها، بل وصل الأمر بالمسلمين في وسط آسيا إلى التعرض للسجن حال ضبط أحدهم يتكلم في الدين خارج المسجد، أو يحمل نسخة غير مرخَّصة من القرآن.
تستشهد الصحيفة بتقرير لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» يقول إن آلاف المسلمين في المنطقة خضعوا للحبس والتعذيب لمجرد ممارستهم حريتهم الدينية. وفي قيرغيزستان، لا بد من الحصول على تصريح أمني لخُطب الأئمة مسبقًا، أما أوزباكستان فقد حظرت إطلاق اللحى وارتداء الزي الإسلامي، وأغلقت المطاعم التي تقدم الطعام الحلال.
هذا الاستبداد الشديد عاد ليدفع المسلمين المعتدلين إلى الاختفاء والارتماء في أحضان المتطرفين، إذ تقدِّر «مجموعة الأزمات الدولية» عدد من جنحوا إلى التطرف في دول شرق آسيا خلال الأعوام الثلاثة الماضية فقط بألفين إلى أربعة آلاف شخص، كما تحالفت حركة «أوزباكستان الإسلامية» مع «طالبان» وغيرها من الجماعات المتطرفة، وقاتلت في أفغانستان ونفَّذت هجمات في باكستان.
تذكر الصحيفة واقعةً حدثت مؤخرًا في بيشكك (Bishkek) عاصمة قيرغيزستان، إذ اشتبكت الشرطة في إطلاق نار مفتوح مع عناصر من «داعش»، ما أسفر عن مقتل ستة إرهابيين وجرح سبعة.
حتى قادة الحكومة ليسوا محصَّنين، ففي العام الماضي أعلن «غولمورود خاليموف» (Gulmurod Khalimov)، قائد قوات الشرطة الخاصة في طاجيكستان، انضمامه إلى «داعش» في مقطع فيديو طرحه على يوتيوب، وأقسم على الجهاد في أمريكا وروسيا.
وتبقى تساؤلات عمَّا إذا كان التضييق يؤدي إلى التطرف، أم أن التطرف سمة غالبة باتت تنتشر في سبيل تحقيق حلم الدولة الإسلامية وفق شكل معين، وأنها نتاج استنهاض فكري.
هل يختفي التطرف والإرهاب في حال تحولت تلك الدول إلى مجتمعات ديموقراطية حرة، يمكن للفرد فيها تحقيق ذاته والعيش حياة كريمة؟
هشام فهمي